الثقافة والأدب

تجربتي في الترجمة
بقلم الدكتور إحسان عبّاس

  • 74

كان الدكتور إحسان عبّاس- رحمه الله – قد كتب قبيل وفاته بأشهر قليلة مقالة بقيت غير منشورة، وربما كانت آخر مقالة كتبها قبل أن يسكت قلمه، حتى كان من الضروري على القارئ فكَّ التباس الحروف في بعض الكلمات حيث لم يُسعف القلم الكاتب في خَطَّها.
والقافلة تنشر هذه المقالة، ليس فقط لأنّ كاتبها هو أستاذ كبير وعلاّمة في الأدب العربي، بل لأنّها متفرّدة ومتميّزة في موضوعها وأسلوبها.
في هذه المقالة يحدثنا الدكتور إحسان عبّاس عن عملِه في الترجمة، وما لاقى فيها من صعوبات بأسلوب يُقارب الحديث العفوي الحميم، حتى أنك تتخيّل نفسك تستمع إليه في واحدٍ من مجالسه الشيّقة.

لم تكن إقامتي في الخمسينيات، في الخرطوم، توجهني إلى الترجمة، إذ كنت حديث العهد بالتدريس في كليّة جامعيّة (هي كليّة غوردون التذكاريّة). يشغلني ما أمامي من المهامّ التدريسيّة والتعرّف إلى ناس لم أكن أعرفهم، وبيئة يكاد يكون كلّ شيء فيها غير مألوف لديّ.. ومن ناحية أخرى لم تكن في الخرطوم حينئذ دار نشر أقدّم لها ما أترجمه، لو خطر لي أن أقوم بذلك. ولكن في حوالي منتصف الخمسينيات وصلني من بيروت كتاب عنوانه (The Armed Vision) مؤلفّه ستانلي هايمن (S. Hyman)، أرسله صديقي الدكتور محمّد يوسف نجم، المدرّس بالجامعة الأميركيّة في بيروت لنتقاسم الكتاب المذكور، أي أترجم أنا نصفه ويترجم هو نصفه الثاني. وقرأت الكتاب كلّه فإذا هو كتاب يتحدّث عن أشهر النقاد الغربيين وعن منهج كلّ واحد منهم ومميزاته. وتريّثت أفكّر وأعيد قراءة بعض الفصول وأحاول أن أضع بعض الملاحظات التي قد تعرض لي عن الصعوبات التي أواجهها في الترجمة. لم يكن الكتاب سهلاً، لأن موضوعه كان جديداً في نظري. وكنت في أيّام الطلبة في الكليّة العربيّة بالقدس قد ترجمت كتاب أرسطو “البويطيقا” (كتاب الشعر) من ترجمة إنجليزيّة؛ وكان كتاب الشعر قد ترجم إلى العربيّة قبل قرون عديدة، ترجمه متّى بن يونس ترجمة حرفيّة. ولم أكن أعرف هذه الترجمة ولا رأيتها، ولكن الترجمة الإنجليزيّة كانت تشير إلى بعض ما جاء في الترجمة العربيّة القديمة.لكن شتّان بين كتاب أرسطو وكتاب هايمن، إذ كان الثاني يعرض لجهود عدد غير قليل من النقاد وإلى مناهج ومقاربات متباينة، وكان كتاب أرسطو يعرض نظريّة المحاكاة، ويتحدّث عن التراجيديا والكوميديا، وكانت معرفتي بالمسرح الحديث قد ذلّلت صعوبات كثيرة في كتاب أرسطو كما أن معرفة العرب بنظريّة المحاكاة، التي يسمّونها التخييل، قد جعل ترجمة كتاب أرسطو أمرًا غير بالغ الصعوبة. أما كتاب هايمن فكان نقداً للنقد. وكنت قرأت للتوحيدي أن الكلام على الكلام صعب. وصدق التوحيدي لأن نقد النقد شيء مركّب لا بسيط، وهو يحمل في ذاته صعوبة شديدة. ومع ذلك، وبما أن الكتاب يحمل معرفة جديدة بالنسبة إليّ، رأيت أنّ نقله للغة العربيّة مفيد في حركة النقد التي يسيطر عليها معارك كلاميّة ومهاترات لا ضرورة لها ولا نفع. فأقدمت على ترجمة الكتاب وأنا حائر كيف يمكن أن يترجم عنوانه، فلمّا أرسلت الترجمة إلى بيروت، وظهر الكتاب مطبوعاً وجدت الدكتور نجم قد اختار له “المدارس النقديّة الحديثة”. وأذكر أن شخصاً لقيني بعد صدور الكتاب وأن أستاذاً له حين رأى الكتاب مترجماً قال: أكاد أقول إنه لا يقدم على ترجمة هذا الكتاب رجل عاقل، فقلت لناقل هذا الكلام: هذه شهادة يعتزّ بها اللذان ترجما الكتاب، لأن قائله يشير إلى الصعوبة التي كابدناها أنا وزميلي في الترجمة.

كانت هذه أوَل تجربة أواجهها في ميدان الترجمة، ولو كانت الترجمة مُخفِقة لربما حملتني على هجر الترجمة، لكن نجاح هذه الخطوة شجّعني أنا وزميلي على الاستمرار فيها.

وفي أواخر الخمسينيات أنهيت ترجمة كتاب من تأليف كارلس بيكر، (C. Baker) وعنوانه (Hemingway: The writer as Artist) وكان أسهل من الكتاب الأول، لأنّه نقل شخصيّة همنغواي، ودراسة تطبيقيّة في قصصه ورواياته، بأسلوب سهل ممتع، وقد استطعت نقل الكتاب بأمانة ، وأن أختار له لغة قريبة في بساطتها من لغة مؤلِفّه، وقد أخذت من الكتاب، أنّ النقد قد يكتب بلغة تصل إلى جميع المثقفين سواء أكانوا قد قرأوا قصص همنغواي ورواياته أم لم يقرأوها، وذلك راجع إلى طبيعة الكتاب نفسه، فإنّ مؤلّفه كان رئيس قسم اللغة الإنجليزيّة بجامعة برنستون، وقد عمل على تدريب الطلاّب في ميدان النقد التطبيقي في الجامعة، وهو يربط بين تطوّر حياة همنغواي وبين تطوّر نتاجه ابتداء من الحقبة الباريسية في حياته حتّى كتاب “الملاّح الشيخ والبحر” (The old man and The sea) ولذلك كان سائغًا ممتعًا، وهو حافل بنظرات نقديّة جميلة. ولقد لقيت مؤلّفه حين ذهبت إلى جامعة برنستون أستاذًا زائراً سنة 1975م وتحدّثنا عن كتابه، وكنت لا أزال معجبًا بالكتاب وبموضوعه وبمؤلِفه، وقد صدر عن دار الحياة للنشر ببيروت سنة 1959م.

كان كتاب الأستاذ بيكر فترة راحة بين صعوبتين، فإذا كان كتاب هايمن صعباً فإنّ كتاب إرنست كاسيرر (E. Cassearer) أشدّ صعوبة، لأنّه في المقام الأوّل كتاب فلسفي يحمل خلاصة نظرية كاتبه الفلسفيّة، وعنوانه “An Essay on Man” وحاولت أن أتعرّف إلى المؤلّف قبل البدء بالترجمة فعرفت أنّه، في الفلسفة، من مدرسة الفيلسوف الألماني “كانط”، وأنّه كان يحفظ بعض فصول كانط، ويلقيها في محاضراته دون أن يكون بين يديه كتاب، وأنّه هاجر في الحرب العالميّة الثانية إلى كندا، وكانت لغته الإنجليزيّة إذا كتب بها تتطلّب من يراجعها، وأنّ الكتاب الذي سأترجمه هو خلاصة لكتابٍ له كبيرٍ صدر مترجماً إلى الإنجليزية في ثلاثة أجزاء ضخمة، فكان لا بدّ لي من أن أطّلع على هذا الكتاب الضخم؛ فصرفت وقتاً طويلاً في قراءته، وهو كتاب يدور حول الأشكال الرمزيّة، وأنّ كلّ شيء في الوجود رمز: اللغة رمز، وكلّ علم من العلوم رمز. ولذلك كان اسم كتابه The Philosophy of Symbolic Forms وفي هذا بعض تحوير لمقولة كانط Human Mind is in need for pictures فجاء كاسيرر بقوله إنّ العقل الإنساني في حاجة إلى رموز أو إنّ الإنسان حيوان ذو رموز. ففلسفة كاسيرر هي أن يُبيّن كيف يشتغل بالرموز. إنّ الصلة بين هذا الكتاب وبين النقد الأدبي صلة غير مباشرة، ولذلك كنت أحاول أن أقنع نفسي أنّ النقد الأدبي لا يحيا بغير الفلسفة وأنّه بحاجة ماسّة إليها. وأقرب فلسفة إليه هي الفلسفة التي تدور حول الحضارة الإنسانيّة، ولذلك سمّيت الكتاب حين ترجمته “مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانيّة” وجعلته عنوانه الأصلي، وجعلت “مقال في الإنسان” عنواناً فرعيًا, وقد نشر الكتاب في دار الأندلس ببيروت سنة 1961م.

كانت الأضواء التي تهديني إلى ما أترجمه لا تزال تنبعث من النقد الأدبي. وفي محاولتي لمتابعة هذا الدور اخترت كتاباً يتناول شاعراً أحبّ شعره، ورصدْت أثر شعره في الشعر العربي الحديث، وذلك هو ت. س. إليوت. فلمّا وقع في يدي كتاب ناقد مشهور عن ذلك الشاعر قلت لنفسي: سيكون هذا الكتاب موضع عنايتي. وبعد أن اطمأنّت نفسي إلى قيمة الكتاب النقديّة قرّرت أن أترجمه. ذلك هو كتاب The Achievement of T.S. Eliot ومؤلّفه هو: “F. O. Mathiessen” وكان نهج ماثيسن مختلفًا عن نهج ك. بيكر في دراسة همنغواي. ولعلّ سبب ذلك أنّ همنغواي كان قاصّاً وروائياً، بينما كان إليوت شاعراً مجدّداً ومسرحياً وناقداً. ويتألّف كتاب ماثيسن بعد المقدّمة من تسعة فصول، وكلّ فصل مشفوع بتعليقات ويقع في الطبعة العربيّة التي قامت بنشرها المكتبة العصريّة (بيروت – صيدا، 1965م) في 44 صفحة من القطع المتوسّط. ولا أصف ترجمتي له بالسهولة أو بالصعوبة، فقد تعوّد قلمي على الترجمة، وأصبحت الكتب متقاربة ما دامت قد خضعت لإرادة ترجمتها.

إلى هذا الحدّ كان كلّ ما ترجمته ذا صلة وثيقة أو عارضة بالنقد الأدبي. هل أستمرّ في هذا الخطّ أو أبتعد عنه قليلاً؟ ومن دون أن أفكّر أي كتاب أختار، صادف أن جاء المستر Datus Smith رئيس مؤسسة فرنكلين إلى بيروت. وحين قابلته قال لي: إنّ لي أمنية وهي أن أرى رائعة “هرمان ملفل” رواية “موبي ديك”،- وهي خير أثر كلاسيكي في الرواية الأميركيّة – مترجمة إلى اللغة العربيّة. وقد سألت بعض العارفين من يرشّحون لترجمتها، وأكثرهم ذكروا اسمك. قلت له: هذه رواية صعبة لأنّها تنتمي إلى بيئة البحر وأنواع الحيتان وأعتقد أنّ العربيّة ليست غنيّة بالمصطلحات البحريّة وأنواع السفن والحيتان، وفيها صعوبات أخرى لا تذلّلها إلا طبعة مزوّدة بشروح كافية وبتعليقات. قال لي: يعني ذلك من حيث المبدأ أنك توافق على ترجمتها إذا توافرت الطبعة التي تصفها. قلت: دعني أقرأ الرواية قراءة جديدة، وأقدّر كم من صعوبتها يتلاشى وكم يبقى. فإذا اطمأنّت نفسي إلى أنَّ عملي لن يصاب بالإخفاق مضيت في ترجمتها على ضوء النسخة التي طلبتها. وحين عاد رئيس مكتب فرانكلين أرسل إليّ بالبريد النسخة. كانت نِعمَ العون على الترجمة. ووطّنت النفس على أن أحتفظ للرواية بمستوى أسلوب رفيع مشابه لأسلوبها في اللغة الإنجليزيّة. واستغرقت ترجمتها مدّة تزيد على سنة ونصف بين التسويد والتبييض والمراجعة والتنقيح، وانسجمت كثيراً في الترجمة، حتّى أنني أعد ما حاولته في موبي ديك قمّة عملي في الترجمة، حتى قال لي أخي بكر: أنا لا أحبّ قراءة الكتب المترجمة (وهو مترجم عريق) ولكني حين بدأت قراءة موبي ديك مترجمة إلى العربيّة لم أضعها جانباً إلا بعد أن أنهيتها. وأنا أعتقد أنّ أخي – رحمه الله – لم يكن يجاملني، فذلك ليس من طبعه، بل أعتقد أنّ ترجمة موبي ديك تستحقّ الجهد الذي بذلته في ترجمتها.

كلّ هذه الكتب التي تحدّثت عنها كانت لمؤلّفين أميركيين، ولهذا نلت جائزة جامعة كولومبيا بنيويورك للترجمة سنة 1983م وكان ذلك مفاجئًا لي وغير متوقّع.

لكن عملي في الترجمة لم يقتصر على ما ذكرت، فقد ترجمت بحوثًا في الحضارة الإسلاميّة وأنا في بيروت، كما ترجمت سلسلة بحوث كتبها الأستاذ جورج مقدسي في نظام التعليم الإسلامي، والمدارس ودور الجامع في الحياة الثقافيّة، ونشرت ما ترجمت في مجلّة الأبحاث التي تصدرها الجامعة الأميركيّة ببيروت.

وحين انتقلت إلى عمّان وعملت في تاريخ بلاد الشام ترجمت بحوثاً تاريخيّة غير كثيرة، من أهمّها بحث عن مدن بلاد الشام حين كانت ولاية رومانيّة وهو فصل من كتاب “Cites of the Eastern Roman Provinces” ومؤلّفه هو “المؤرّخ A. H. M. James” وبعد مدّة قصيرة من إقامتي في عمّان دعاني قسم اللغة الإنجليزيّة في الجامعة الأردنيّة لتدريس مجموعة من الطلاّب الترجمة الأدبيّة وتدريبهم عليها. فوضعت بين أيدي الطلاّب عددًا من القصائد الإنجليزيّة، ونماذج من القصّة القصيرة، وكان درساً حيوياً وكان إقبال الطلاّب على العمل في الترجمة إقبالاً باهراً. وقد وجدت لديهم استعداداً أصيلاً للترجمة.

إنّ الترجمة على المستوى العامّ خير حوار بين الحضارات، ولا تستطيع حضارة أن تستغني عن الترجمة، فهي تنمّي التواصل الثقافي. وقد عرف العرب أهميّة الترجمة للعلوم اليونانيّة في العصر العباسي، إذ كانت سبب نهضتهم الثقافيّة أو أحد أسبابها، كما عرفوا ما أفاد الغرب من ترجمة الكتب العربيّة ذات الأصل اليوناني في عصر النهضة.

أمّا على المستوى الخاصّ فهي خير وسيلة لترسيخ المعارف الجديدة في نفس المترجم والقارئ. إنّ من يزعمون أنّ العقليّة العربيّة مُغْلَقَة دون الترجمة لم يدركوا حقيقة العقليّة العربيّة التي لم تكن ضد الترجمة في أي عصر من العصور. لكنّ الترجمة على نطاق واسع تحتاج إلى مؤسسات تقرّر من يترجِم وما يترجَم، وتلاحظ الأولويات في الموضوعات. وتشكو الترجمة اليوم في العالم العربي من الفوضى وفقر المصطلح، وكلّ هذا تقع مسؤوليته على الدول والمؤسّسات الثقافيّة. لا بدّ من الترجمة في كلّ قطر عربيّ، ولا بدّ من توفير ميزانيّة للبحوث وللترجمة. ولكن ليس للأقطار العربيّة المجزّأة المال المرصود للبحث وللترجمة. وأكثر الدول العربيّة يشكو من قلّة الدخل وانتشار الفقر. ولا بدّ من مساعدة الدول العربيّة الغنيّة للدول الفقيرة، وتوجيه الاهتمام إلى البحث العلمي وإلى الترجمة، وإلى إثراء اللغة بإدخال المصطلحات الجديدة كما هي أو بتعريبها.

إنّ تدريس الترجمة في الجامعات غير كافٍ، وإن كان موجودًا على نطاق ضيّق.

أضف تعليق

التعليقات