تشابك الحواس ليس مرضاً، ولكنه نمط خاص من رؤية الأشياء والإحساس بها عند بعض الأفراد. وحتى وقت قصير مضى، كان الطب يردّ هذه الظاهرة عند البعض إلى أسباب نفسية وسلوكية. ولكن الأبحاث الأخيرة أكدت أن الأمر يعود إلى عوامل عضوية وجينية.
مراسلنا في لندن رياض ملك، يوضّح لنا ما هية تشابك الحواس، وآخر ما توصل إليه الطب في هذا الشأن.
هل يحدث أن تنظر إلى الأرقام فتراها بألوان معينة؟ أو ترى مربعاً أو مستطيلاً فيثير فيك رائحة البرتقال؟ أو تسمع موسيقى من نوع ما فتتراءى لك أشكالاً وألواناً ليست أمامك؟ إذا كانت هذه حالتك، فأنت تعاني مما يطلق عليه أهل العلم اسم سينستيزيا (Synesthesia) وهي كلمة مركبة من مفردتين تعنيان باللاتينية “اتصال الحواس” وربما كان الوصف الأدق بالعربية “تشابك الحواس”.
وعلى الرغم من أن عوارض هذه الحالة كانت معروفة للأطباء والعلماء منذ أمد بعيد إلا أنه لم يتم التركيز عليها، ومحاولة تحليلها علمياً إلا في السنوات الأخيرة. ولهذا فإن الإحصاءات بشأن نسبة عدد المصابين بها ليست دقيقة تماماً، إذ تقول بعض الدراسات بأنها تصيب شخصاً واحداً بين ألفين، بينما تذكر دراسات أخرى أنها تصيب واحداً لكل خمسة وعشرين ألفاً.
وقد كان لتردد المصابين دور في عزوف العلماء عن دراستها بشكل مستفيض، إذ كان معظمهم يحاول تجنب تأكيدها بشكل قاطع حتى لا يُتهم بالاختلال العقلي. فعندما كان يسأل المصاب مثلاً هل ترى الرقم (كذا) فعلاً أحمر عندما تنظر إليه، أم أنه مجرد صورة من ذاكرتك؟ كان قليل منهم يؤكد أنه يراه فعلاً كذلك. ولكن الأغلبية كانت أجوبتها مترددة كأن يجيب المصاب “كأني أراه هكذا وكأني لا أراه” أو ” نعم، أرى هذا الرقم أحمر ولكني أعلم أنه ليس كذلك، إذن لا بد أن يكون هذا من ذاكرتي”.
واستناداً إلى ذلك، عمد العلماء إلى تفسير هذه الظاهرة من زاوية علم النفس، أو العلوم الإنسانية الأخرى. يقول أحد هذه التفاسير مثلاً إن المصاب كان يلعب في طفولته بأرقام ملونة، ولهذا ارتبط في ذهنه اللون بالرقم وثبت هذا الارتباط في عقله الباطن؛ فأصبح لا يستطيع الفصل لاحقاً بين الرقم ولونه. فإذا رأى أحدهما رأى الآخر في الوقت نفسه. وهناك تفسير آخر وضع الحالة في إطار الاستعارة اللغوية، كأن تقول مثلاً يوم أسود وتفكير أسود، فترى اللون عندما تسمع الكلمة، لارتباط الاثنين في ذاكرتك. وربط تفسير ثالث حالة التشابك هذه بالعقاقير، خاصة إذا كان فيها نوع من أنواع المخدرات والتي قد لا يذكر المصاب أنه يتعاطاها، وهذه تخلق لديه نوعاً من الهلوسة فيرى من خلال دماغه لا بواسطة عينيه.
ظلت هذه النظريات سائدة حتى عام 1999م، حين قرر العلماء أن يولوا ظاهرة تشابك الحواس عناية أكبر، ويخضعوها بالتالي للدراسة العلمية. كان السؤال الأساس الذي عليهم الإجابة عنه، هل يرى بالفعل هؤلاء الناس ما يزعمونه حسيّاً؟ أم أن الموضوع لا يتعدى الوهم، أو تلاعب العقل بالحواس؟ وللإجابة القاطعة عن هذا السؤال عمد الباحثون إلى إجراء أنواع من الاختبارات على المصابين يستعملها المحللون النفسيون عادة، تسمى اختبارات الفصل أو البروز. وتعتمد هذه الاختبارات على مبدأ بسيط وهو أنه إذا رسمت شكلاً مختلفاً على خلفية متجانسة فإنك تراه فوراً وبوضوح بشكل منفصل، إذ أنه يبرز ويراه الإنسان من دون حاجة إلى تأمل طويل. لنقل أنك رسمت مثلاً على صفحة بيضاء خطوطاً عمودية متقاربة، ثم رسمت فوقها خطين مائلين فإن الخطين سيبرزان فوراً بشكل منفصل وستراهما من دون عناء. وكان التصميم للاختبار الأول الذي قام به الباحثون للإجابة عن السؤال المطروح فعالاً تماماً، مع أنه كان بسيطاً ومباشراً. فقد أنتجوا بواسطة الكومبيوتر صفحة مليئة بالرقم 5 بحجم صغير، ثم أدخلوا بين الأرقام الرقم 2 بالحجم نفسه بحيث انتشر بين الرقم 5، وهو الغالب في الصفحة، على شكل مثلث. فإذا نظر الإنسان الطبيعي إلى الصفحة فإنه سيحتاج إلى تدقيق طويل ليرى الرقم 2 المدسوس داخل الخلفية من الرقم 5، علماً بأن الأرقام جميعها باللون الأسود العادي. أما إذا نظر شخص آخر يدعي أنه يرى الأرقام كلاً منها بلون مختلف فإن من المفروض أن يرى من دون أي عناء أو تدقيق المثلث المؤلف من مجموعة الرقم 2 لأنه سيظهر له لون مختلف عن الخلفية المؤلفة من الرقم 5، أي أن هذا المثلث سيبرز أمامه بوضوح تام. بعد إجراء الاختبار على عدد من المصابين جاءت النتيجة مدهشة تماماً فقد أصاب تسعون بالمائة منهم بشكل فوري وقاطع أنهم يرون المثلث! إذن فالموضوع ليس وهماً ولا تخيلاً وهؤلاء الناس يرون فعلاً ما لا يراه العاديون!
أمام هذه النتيجة غير المتوقعة، كان لا بد للباحثين من إعادة النظر في موقفهم المشكك في هذه الظاهرة والاعتراف بخطأ نظرياتهم في تفسيرها. وهكذا فبدلاً من أن يجيب الاختبار عن السؤال، فتح الباب أمام أسئلة جديدة وعديدة: هل يرى المصابون بهذه الحالة الشيء نفسه أم كل له رؤية مختلفة؟ أي هل يرى جميعهم الرقم 2 مثلاً أصفر، أم يختلف اللون باختلاف الشخص؟ هل يرى الشخص نفسه لوناً ثابتاً لكل رقم أم يختلف اللون في كل مرة يخضع فيها للاختبار؟ وماذا لو اختلطت الأرقام كأن يرى المصاب مثلاً رقم 5 مكبراً ومشكلاً من الرقم 2 بحجم صغير، أي لون يرى؟ ثم ماذا عن الحواس الأخرى، هل يرى المصاب الموسيقى كما يسمعها أو ربما تثير لديه حاسة الشم؟ هل يقتصر ارتباط اللون على الأرقام فقط أم أن الحروف لها ألوانها وأشكالها أيضاً؟
للإجابة عن هذه الأسئلة كان لا بد للباحثين من تصميم اختبارات جديدة وتكرار إجرائها على المصابين للخروج بأجوبة قاطعة. وكان لا بد أيضاً من العودة إلى الملفات القديمة لأصحاب هذه الحالة وفهمها بصورة مختلفة بدل التشكيك فيها. بعد إجراء الاختبارات المستفيضة جاءت الأجوبة أكثر إثارة من الأسئلة. تأكد مثلاً أن المصابين لا يجمعون على لون واحد لنفس الرقم. فقد يرى أحدهم رقم 2 بلون أحمر، بينما يراه الآخر بلون أزرق. لكن الشخص الواحد يرى الرقم نفسه باللون نفسه في كل مرة يخضع فيها للاختبار، أي أنه يرى الرقم 2 مثلاً دائماً أزرق وبشكل ثابت. والطريف أنه إذا عرض على الشخص الرقم بلون مختلف عما يراه فإنه كان يطيل النظر فيه ملياً وكأن هناك خطأ ما، كمن ينظر إلى شخص ارتدى قميصه بالمقلوب!
في اختبار أجري على أحد هؤلاء عرض عليه رقم 5 بالحجم الكبير مكون من تجمع لرقم 2 بالحجم الصغير، وطلب إليه أن يذكر أي لون يرى. في العادة فإن الرقم 5 لهذا الشخص كان يعني دائماً اللون الأحمر، بينما الرقم 2 يقترن بشكل ثابت باللون الأصفر، فكان المصاب إذا نظر إلى الشكل بمجمله يرى الرقم أحمر بينما كلما دقق النظر فيه رآه أصفر.
ولكن ماذا عن الأصوات وما تثيره في هذه الفئة من الناس؟ هنا أيضاً جاءت النتيجة إيجابية. فعندما طُلب من المصاب أن يرسم ما يراه فعلاً عندما يُسمعه الباحث صوتاً معيناً، قام أحدهم برسم مجموعة من المثلثات عند سماعه جرس الباب، بينما رسم آخر دائرة محاطة بالنقاط لدى سماعه نباح كلب.
أما الذين أُسمعوا معزوفات موسيقية متقدمة فقد رسموا أشكالاً فيها من التناسق والألوان ما يمكن اعتباره لوحات تجريدية رائعة. وربما كان من التجارب الطريفة ما تعلق منها بالصلة بين الأصوات والأشكال وحاسة الذوق. فقد أكد مصاب أُجري عليه البحث أنه يتذوق نكهات محددة عندما تلفظ أمامه كلمات بعينها. فهناك كلمة يتذوق عند سماعها طعم المشمش وأخرى حساء الطماطم. ولا شك أن القارئ يلاحظ أن رجل الشارع العادي في بلادنا يصف الكلام التافه بأنه كلام “بدون طعم”. أليس من الجائز أن يكون أول من استعمل هذا التعبير شخص مصاب بتشابك الحواس تثير فيه الكلمات إحساساً بنكهات مختلفة، وعندما سمع كلاماً لم يثر فيه أي إحساس وصفه بشكل تلقائي بأنه كلام “بدون طعم”، بمعنى أنه سخيف ولا ردة فعل له بالنفس؟ ألسنا نصف الكلام أيضاً بأنه “مر” و “حلو”…
بعد الكم الكبير من التجارب ذات النتائج الواضحة والقاطعة أصبح الموضوع الذي يجب على الباحثين دراسته هو أنه إذا لم يكن أساس هذه الظاهرة نفسياً ولا لغوياً وليس ناشئاً عن استعمال العقاقير والمخدرات فما هو إذن؟ ما هو التفسير العلمي لأن يرى إنسان ما الموسيقى ويتذوق طعم الكلمات ويُلوّن الحروف؟ إن فهم هذه الظاهرة تطلّب دراسة دقيقة لكيفية تعامل الدماغ مع المادة التي تصله عن طريق الحواس، والتي يعتمد عليها إدراك الإنسان الحسي لعالمه الخارجي. ففي حالة النظر مثلاً فإن العين تنقل ما تراه إلى الدماغ عن طريق عصب يوصله إلى الجزء الخلفي من الرأس. في هذه المنطقة يجري الدماغ تحليلاً لخصائص الشيء المرئي لتحديد لونه وشكله وحركته وأبعاده. بعد ذلك يوزع الدماغ المعلومات إلى مناطق أخرى تبعاً لطبيعة المعلومة. اللون مثلاً ينتقل إلى منطقة جانبي الرأس. ثم تنتقل المعلومة مرة أخرى إلى الجزء العلوي من الرأس حيث يجري تحليلها تحليلاً دقيقاً ونهائياً. الصوت بدوره يذهب من الأذن إلى منطقة معينة في الدماغ، ثم ينتقل عبر مراحل تالية ليجري تحليله وتمييزه بشكل دقيق. هذه القنوات يتم تجديدها وانفصالها عن بعضها البعض في المراحل الأولى من الولادة بحيث تنتقل “الرسائل” الواردة من الحواس مستقلة بعضها عن بعض. الذي يحصل بالنسبة للمصابين بالحالة موضوع البحث أن هذه القنوات أو الأعصاب لا تنفصل كلياً أو جزئياً وتبقى في حالة تشابك أو اتصال أشبه بتقاطع أسلاك الهواتف، الذي يؤدي إلى تشابك المكالمات. نتيجة لذلك فإن الرسائل القادمة من الحواس لا تسير في قنواتها المنفصلة داخل الدماغ، كما يحصل في الإنسان الطبيعي، وإنما تختلط في هذه القنوات، وبذلك لا يستطيع الدماغ استيعاب خصائص الشيء كلاً على حدة، فيأتي الشكل مثلاً ملازماً دائماً للون. هذا ما يفسر رؤية المصاب للأرقام بألوانها دائماً. وقد لاحظ العلماء أن هذا الاتصال قد لا يكون اتصالاً فعلياً. وإنما قد يتأتى بسبب اختلال المادة الكيماوية بين الخلايا، مما يؤدي إلى خلق حالة من التماس تماماً كالاتصال.
ولكن لماذا تنشأ هذه الحالة من الاتصال بين الأعصاب أو القنوات أساساً؟ لقد استطاع العلماء حتى الآن أن يقدموا تعليلين:
–
الأول هو العامل الوراثي، إذ لاحظ الباحثون أن أطفال المصابين يحملون الحالة مثل والديهم.
–
أما التحليل الثاني فيُرجع سبب الاتصال إلى خلل جيني، إذ يبدو أن هناك نوعاً خاصاً من الجينات عمله الأساسي أن يفصل قنوات أو أعصاب الحواس في مرحلة ما بعضها عن بعض. ولسبب أو لآخر فإن تغييراً ما يطرأ على هذه الجينات مما يجعلها تُخفق في أداء هذه المهمة الحساسة. وبذلك تبقى القنوات في حالة اتصال دائم.
يبقى هناك سؤال أخير قد يتبادر إلى ذهن القارئ: ماذا عن المصابين؟ أي نوع من البشر هم ولماذا لم يكن لديهم من يثير قضيتهم كما يحصل عادة في الغرب للمصابين بأمراض مثل السرطان والشلل والروماتيزم وباركنسون؟ لقد عرف العلماء عن حالة اتصال الحواس منذ العام 1880م، ومع ذلك لم تتم دراستها علمياً وبشكل مستفيض حتى نهاية القرن العشرين. هناك عدة أسباب، أولاً كما سلف القول فإن العلماء لم يقتنعوا بوجود الحالة أصلاً، وبذلك أعطوها تفسيرات لا تحتاج إلى كثير من الجهد؛ ليتفرغوا لدراسة أمور أخرى أكثر إلحاحاً، خاصة وأن المصاب لا يشكو ألماً من أي نوع. كما أن كثيراً من المصابين كانوا كما سلف القول أيضاً، يترددون في الإفصاح عن حالتهم خشية أن يؤدي ذلك إلى اعتبارهم مصابين بنوع من انفصام الشخصية مما قد يكون له عواقب وخيمة على وضعهم الاجتماعي وربما القانوني. وهناك فئة خاصة لا تعتبر حالتها مبعثاً للشكوى، بل هبة من السماء أصيبت بها لكي تخلق عالمها الخاص. تلك هي فئة الفنانين والمبدعين بشكل عام، فحالتهم هذه ساعدتهم كثيراً في التعبير رسماً أو شعراً أو موسيقى عن أشياء يرونها ويعيشونها فعلاً، ولكن لا يراها الآخرون. وبذلك شكلت حالتهم تلك قاعدة لعبقريتهم. تشمل هذه الفئة أسماءً لامعة مثل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي يصف في إحدى قصائده “حروف العلة الملونة”، والموسيقار التشيكي فرانز ليست الذي قيل أنه كان يرى النوتة الموسيقية بالألوان، وهناك أيضاً الموسيقار الروسي الكسندر سكريابين والروائي فلاديمير نابوكوف ويقال أن موزار نفسه كان ضمن هذه الفئة.
ولا تزال ظاهرة اتصال الحواس محل دراسة من قبل العلماء. وتحاول آخر هذه الدراسات إيجاد علاقة بينها وبين تطور الفكر الإنساني الناشئ عن تطور اللغة كوسيلة للتعبير، خاصة في ما يتعلق بالانتقال من المحسوس إلى المجرد. فالكتّاب المصابون بهذه الظاهرة لا بد وأن يعكس إنتاجهم شيئاً من استغلالهم لحالتهم لإجادة التعبير عما يفكرون به بشكل يتميزون به عن سواهم. وفي هذه الأثناء، ظهر متصلوا الحواس في العلن، وأصبحت لهم جمعياتهم ومؤسساتهم ومواقعهم على الإنترنت، ينشرون من خلالها تجاربهم الشخصية ويتبادلون الخبرات والأخبار، ولم يعودوا يرون حرجاً في الإفصاح عن حالتهم بل ربما تباهوا بها واستغلوها للكتابة التجارية بعد وعي الجمهور لها من خلال وسائل الإعلام. ولله في خلقه شؤون …