لم يجد الإنسان طوال تاريخه المعروف، سنداً لإثبات إنسانيته مثل الورق، منذ أن كان مجازاً في جلد وحجر وصلصال، إلى أن أصبح حقيقة تستعصي على الزوال، ظل الورق يؤكد على جدارته بلقب الذاكرة الثانية للإنسان في مقابل مخاوف النسيان وأحلام الخلود. رافق الإنسان والكتابة منذ عهد مبكر، وما زال يلوّن حياة مليارات البشر في العالم، يحفظ لهم تاريخهم، يشكل حاضرهم، ويؤثر على مستقبلهم. مثلما كان رفيقاً للكتابة كأرقى نشاط إنساني، فهو إلى الآن قرين للذهب والفضة كأغلى ممتلكات الناس. لن يكذب من قال إن حياتنا ورق. النقود من ورق، مستنداتنا وهوياتنا الثبوتية، أكوابنا، ألعابنا، وسائلنا التعليمية والتثقيفية، صناديقنا، مناديلنا، حوائطنا، زينتنا، ومئات الاختراعات البشرية التي لا تبدأ بورق الكرتون ولا تنتهي ببطاقات الأعمال أو كروت شحن الهواتف المحمولة.
في هذا الملف، يأخذنا حسام الدين صالح بين طيات الورق والصفحات يقلبها برنينها الأخاذ في الأذن ومنظرها الخلاب في العين وملمسها الساحر في اليد، فنشق معه طريق التاريخ ونلتقي به على آفاق المستقبل.
صديق القواميس
تبدو قواميس اللغة كريمة على الورق، تكيل له كل معاني الجلال والبهاء والكمال، كيف لا وهو الذي تكفل باحتضان كلمات القاموس في صدره الذي كان حنوناً وما زال، فالورق هو بهجة الدنيا وزينتها كما يقول المعجم الوسيط لا بل هو الدنيا نفسها، مثلما أن ورق الشباب هو أنضره وورق القوم أحسنهم.
و(الواو والراء والقاف) في مقاييس اللغة: أصلان يدل أحدهما على خيرٍ ومال، وأصله وَرَق الشَّجر، والآخر على لون من الألوان، فالأول الورق ورق الشّجر. والورق المال، من قياسِ ورق الشَّجر، لأن الشّجرة إذا تحاتَّ ورقُها انجردَتْ كالرَّجل الفقير. كما قال الشاعر:
إليك أدعو فتقبل ملَقِي واغفِرْ خطايايَ وثمِّرْ ورقي
ولا نعرف على وجه الدقة، أيهما الذي كان أسبق من الآخر إلى الارتباط بالشجر: القاموس أم الورق؟! لكن المؤكد أن الورق بشكله الحالي والمعروف تناسل من ورق الشجر وأغصانها وسيقانها منذ اكتشاف قدماء المصريين لورق البردي مروراً بتصنيع قدماء الصينيين للورق من لحاء الأشجار. وتساوي اللغة بين الغني وصانع الورق فتعطيهم نفس المسمى (الوراق)، لارتباط الورق بالمال والمعادن الثمينة كالذهب والفضة التي يطلق عليها العرب(الورِق).
إسعاف لغوي لحياتنا اليومية
ولكي يثبت الورق بطولته في حياتنا، وصداقته الدائمة للمعاجم اللغوية، ما زال يرفد القواميس المعاصرة بآخر وأحدث استخداماته اللغوية الشائعة بين الناس، وفي هذا الخصوص نجده يبتعد عن الورق في ذاته ليتعلق بالأشخاص، فلو كشف أحدهم ورق الآخر فهذا يعني أنه أماط عنه لثام الحقيقة وفضحه أمام الملأ؛ أما من يكشف منا أوراقه عن طيب خاطر فهو يقصد أن يُعْلن عن نياته وأغراضه، بينما يُطلق معجم اللغة العربية المعاصر (الورقة الأخيرة) كتعبير على من أخرج آخر ما عنده، والذي يعيد النظر في خططه فهو الذي (يعيد ترتيب أوراقه)، وإذا شبه أحدهم أمراً بحبر على ورق فهو يقصد الضد من اندلاق الحبر على الورق بأمر غير قابلٍ للتنفيذ، أمرٌ رهينٌ بالأمنيات، مسجون في الورق ولا يستطيع النفاذ إلى الواقع.
ونهب في حياتنا اليومية (ورقة الضغط) لمن كان في موقف أقوى من غيره بما يملكه من إمكانات أو نفوذ أو معلومات، وعندما تتقاصر دراساتنا البحثية عن حجم الكتاب نطلق عليها (ورقة بحث) وعندما نعصف أذهاننا لأمر ما نترجمه إلى (ورقة عمل)، حتى عندما تختار الديمقراطية الخيار الأفضل للشعب تفضل أن يستعمل الناس (ورقة الاقتراع) لرميها في صندوق الانتخابات، وتصبح هذه الورقة المؤثرة في حاضر الدول ومستقبلها أمراً مقابلاً للفوضى في مقولة الزعيم الأمريكي المسلم مالكولم إكس: «إما ورقة الاقتراع وإما رصاصة»؛ ولم يسلم الورق من الدلالات السلبية التي جعلت الوصف بالورق ملازماً للضعف وسلب الإيجابية، مثل قولنا:( نمر من ورق، رجال من ورق، كلام على الورق، …إلخ).
بدايات قديمة مشرقة
يتقاسم المصريون والصينيون الأقدمية في ابتكار وصناعة الورق على مر التاريخ، حيث ينُسب إلى قدماء المصريين أول استخدام للورق في عمر البشرية عن طريق ورق البردي، أما الصينيون فيرجع إليهم الفضل في التصنيع الحديث للورق بشكله القريب من الورق الذي نستخدمه اليوم في حياتنا.
وقد حاز الورق اتفاقاً شبه مؤكد لبداية مسيرته التاريخية منذ أن ظهرت أول أنواعه في الألف الثالث قبل الميلاد حوالي 2700 ق.م . من المؤكد أن الكتابة سبقت ظهور الورق لكن كان لاختراع الورق عظمة لا تدانيها إلا عظمة اكتشاف الإنسان للكتابة نفسها، فبعد أن كان الناس في عصور ما قبل الميلاد يستخدمون الأثقال في الكتابة مثل الحجر والطين والجلود انتقلوا بفضل المصريين القدماء إلى الكتابة في ورقة البردي المصنوع من سيقان وأوراق نبات البردي الذي كان ينمو بكثرة في مستنقعات الدلتا وأصبح فيما بعد أسهل وأرخص وسيلة للكتابة، واحتفظ ورق البردي بانتشار واسع في منطقة البحر الأبيض المتوسط حتى القرن الحادي عشر الميلادي. وما زال تاريخ ورق البردي حتى الآن حاضراً في كثير من اللغات الغربية التي استمدت كلمة ورق paper من كلمة بردي papyrus.
ورق البردي عند المصريين
نقلة كبيرة في الكتابة والورق حققها اكتشاف المصريين للبردي. ومنذ ذلك الحين بدأت تختفي الكتب الحجرية والصلصالية الثقيلة وغير العملية، وبدأت تظهر شرائح البردي الطولية، كانت توضع متعارضة، في طبقتين أو ثلاث، فوق بعضها ثم تبلل بالماء وتضغط. وكان يصنع كصفحات منفصلة، ثم تلصق هذه الصفحات الواحدة في الأخرى؛ وتراوح عرض شرائح البردي من ثلاث أقدامٍ إلى 18 قدماً. ويقول علماء الآثار إن أطول ورقة بردي موجودة هي بردية هاريس ووصل طولها إلى 133 قدمًا وعرضها إلى 16 قدمًا.
استحوذ المصريون على صناعة الورق المصنوع من البردي لفترة طويلة من الزمن، ويؤكد كثيرون أن الفراعنة كانوا يحتكرون إنتاج ورق البردي حتى العصر البطلمي وكانت تصدّره عبر الإسكندرية لبقية العالم. وكان ورق البردي هو السائد بعد دخول الإسلام لمصر، ويقال إن المصانع المصرية كانت تنتج سبعة أصناف من ورق البردي كان أجودها وأغلاها يستخدم في الدواوين حتى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز أمر بالاقتصاد في استعمال الورق بسبب ارتفاع أثمانه.
وكان العرب يطلقون كلمة «قراطيس» على أوراق البردي، وقد وردت القراطيس في القرآن الكريم ومنها الآية التي جاءت في سورة الأنعام ترد على طلب مشركي العرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بمعجزة }وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ{- الأنعام أية 7.
وكانت مصانع القراطيس البردية تتمدَّد حول الإسكندرية وشرق الدلتا والفيوم، ثم أصبحت الفسطاط أهم مركز لإنتاج الورق من البردي وكان العرب يشيدون مساكنهم حول مصانع القراطيس، أما آخر ما وجد من ورق البردي فيعود لبدايات الدولة الإخشيدية سنة 323هـ.
ورق الكاغد عند الصينيين
والعرب
من بعد المصريين القدماء حمل الصينيون الراية، وبدأوا يصنعون الورق من لحاء الأشجار والنباتات في القرن الثاني الميلادي، ويعود الفضل في ذلك للصيني تسي آي لون الذي استطاع في العام 105 بعد الميلاد أن يتوصل إلى تصنيع ورق من لحاء الأشجار، ثم تواصل التقدم الصيني في صنع الورق عندما تم التوصل إلى طريقة حشو سطح الورقة بالغراء والجيلاتين للحد من انتشار الحبر وكان ذلك في العام 700 بعد الميلاد، ثم انتشر بعدها تصنيع الورق في كوريا واليابان وانتقل إلى العرب والمسلمين عندما دخلوا سمرقند في العام 93هـ/712م وكان للعرب والمسلمين بعد ذلك فضل تعريف العالم الأوروبي بالورق، وكانت بغداد أول مدينة تحتضن أول مصنع للورق في بلاد العرب في عهد هارون الرشيد، وقد أسس هذا المصنع الفضل بن يحيى في العام 178هـ/794م ثم انتشرت صناعة الورق بعدها في كل أرجاء العالم الإسلامي ودخل أوروبا عن طريق الأندلس.
وبعد أن كثر الورق أمر الخليفة هارون الرشيد، بترك الكتابة في الورق القديم المصنع من الجلد والبردي وغيره والانتقال للكتابة في الورق الصيني الذي أطلقت عليه العرب «الكاغد» حتى صارت المقولة التي يسير بها الركبان: «كواغد سمرقند عطلت قراطيس مصر».
ناشر اليوم هو ورّاق الأمس
أتاح الورق للعرب معرفة مهنة جديدة لم يكونوا على دراية بها وهي حرفة «الوراقة» وكان «الوراقون» بعد انتشار صناعة الورق عند العرب بمنزلة الناشرين في هذا العصر، يقومون بنسخ الكتب وتجليدها وتصحيحها وبيعها وعرضها في الواجهات، وأصبحت الوراقة مهنة راقية اشتغل بها علماء مشهورون على رأسهم الجاحظ ، وأبي حيان التوحيدي، وبلغت مهارة العرب والمسلمين في صناعة الورق الدرجة التي قيل فيها إن جابر ابن حيان صنع ورقاً غير قابل للاحتراق.
وسجل المؤرخون الغربيون سبق العرب على الأوربيين في معرفة الورق وصناعته، ويذكر المستشرق ستانوود كب في كتابه المسلمون في تاريخ الحضارة: «أن العرب قد تعرَّضوا في سمرقند الواقعة على الشمال من الهند مباشرة لهجوم الصينيين عام 134 ﻫ/ 751 م، وفي أثناء صد هذا الهجوم بنجاح وقعت يد الحاكم العربي على أول قطعة من الورق أتيح لها أن تجد طريقها إلى الغرب من الصين حيث جاء اختراع الورق هناك قبل زمن المسيح»، كما يحكي جوستاف لوبون: «ظل الأوروبيون في القرون الوسطى زمناً طويلاً لا يكتبون إلا على رقوق (من جلد الحيوان) وكان ثمنها المرتفع عائقاً كبيراً وقف أمام انتشار المؤلفات المكتوبة، وسرعان ما أصبحت هذه الرقوق نادرة الوجود، حتى لقد اعتاد الرهبان على حك مؤلفات عظماء اليونان والرومان ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية، ولولا العرب لضاعت معظم المؤلفات التي ادعى الرهبان أنهم حفظوها بعناية داخل الأديرة».
ويقول وول ديورانت عن صناعة الورق على يد العرب: «كان إدخال هذا الاختراع سبباً في انتشار الكتب في كل مكان، ويدلنا اليعقوبي (891 م) أنه كان في زمانه أكثر من مائة بائع للكتب في بغداد، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم عن طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين، وألحق بأغلب الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد في بعض المدن مكتبات تضم كتباً قيمة، يباح الإطلاع عليها للجميع».
في صناعة الورق:
تبقى الفكرة وتتطوَّر الميكنة
في التاريخ الصناعي، حافظ الورق على فكرة التصنيع الأولى بينما ترك التطور يسري على الأدوات، فمنذ اختراع أول ماكينة ورق في القرن الثامن عشر الميلادي لم تتغير كثيراً العمليات الأساسية المستخدمة في صناعة الورق، وتشير التغيرات الطارئة إلى التطور الذي حدث فى وسائل تحضير عجينة الورق التي ظلت حتى اليوم تصنّع بصورة أساسية من لحاء الشجر، حيث يتم تصنيع الجزء الأكبر من كمية الورق المنتج في العالم من سليولوز الخشب، باستخدام لب الخشب في صناعة الأنواع الرخيصة من الورق كأوراق الصحف، واستخدام الخشب المعالج كيميائياً وخليط اللب وألياف اللحاء لإنتاج الأنواع الجيدة من الورق.
أسهمت شخصيات عديدة في تطوير صناعة الورق إلى أن وصلت إلى عصر التقنية الحديثة الآن. فبعد انتشار مصانع الورق في أوروبا ظهرت أول ماكينة عملية لتصنيع الورق على يد الفرنسي نيكولاس لويس1789م، وتوالت بعده الابتكارات على يد الأخوين هنري ووسيلي فوردينير، وما زالت تعرف ماكينتهم إلى الآن بماكينة فوردينير، ثم اخترع جون ديكنيسون في عام 1809 الآلة الأسطوانية، وابتكر جلبن الأمريكى وحدة لتبييض عجينة الورق بالكلور عام 1804, وفي عام 1841 اخترع كيلر في إنجلترا طريقة ميكانيكية لصناعة لب الورق من الخشب, وابتكر المهندسان وات وبرجيس طريقة الصودا الكاوية في حوالي عام 1854, وشرع الكيميائي السويدي ابكمان عام 1874 في إنتاج اللب على نطاق تجارى بطريقة الكبريتيت، وفي مدينة برجفيك بالسويد ابتكر الكيميائي دال طريقة الكبريتات أو الكرافت عام 1789، واستمر التراكم التكنولوجي حتى أضحت صناعة الورق تخدم الصناعات الأخرى مثل صناعة الريون والسيلوفان الناعم والأملس.
ورغم تطور صناعة الورق إلا أنها ما زالت تشكو من مشكلات كبيرة، أقساها استهلاكها العالي للمياه العذبة والطاقة الكهربائية، ولهذا لم يسلم الورق من التأثر بالأزمة المالية التي ضربت العالم في السنوات الأخيرة، حتى أصبح المعروض من الورق غالياً والمطلوب منه عالياً بتزايد الطلب عليه أكثر من أي وقت مضى بسبب زيادة سكان العالم وارتفاع مستويات التعليم.
أنواع الورق
منذ أن عرف العرب الورق تعدَّدت أنواعه وأسماؤه، فبعد البردي جاء الكاغد بأسماء عدة: الطلحي، والنوحي، والجعفري، والفرعوني، والطاهري، وكانت أنواع الورق تنسب إلى أسماء الوراقين، ومع التطور عرف العالم أنواعاً جديدة ورائجة من الورق، منها:
ورق الجرائد
من أشهر وأرخص أنواع الورق، وهو ورق خفيف قليل المتانة قصير العمر شديد التشرب للسوائل ويصنع عادة من اللب المستخلص كيميائياً.
ورق المجلات
وهو لا يختلف كثيراً عن ورق الجرائد، إلا أنه يتميز بلمعان ومتانة أكبر من ورق الجرائد الواضح.
ورق الكرتون
أما ورق الكرتون فهو أنواع أيضاً، منه المضلع الذي يتكون من عدة طبقات، ويستخدم عادة لإنتاج صناديق التعبئة، ومنه النوع الرمادي الذي يستخدم في التجليد.
الورق المقوي
يختلف الورق المقوى عن ورق الكرتون في طريقة التصنيع التي تنتهي بطليه بطبقات من الشمع، ليستخدم في تغليف المواد الغذائية.
ولورقة (A4) شهرة اكتسبتها
عن جدارة
كثيرة هي الأوراق المهمة في حياة الإنسان المعاصر(الأوراق الثبوتية، شهادة الميلاد وشهادة الوفاة، ورقة الزواج وورقة الطلاق، العقود، الفواتير، النقود، الشيكات، والأوراق المالية … إلخ) إلا أن الورقة البيضاء التي اعتاد الناس تسميتها (A4) استطاعت أن تحوز شهرة مماثلة لأوراقنا الثبوتية والمالية، وذاع صيتها أكثر من أنواع وأحجام الورق الأخرى لمناسبتها للاستخدام الشخصي والمهني. ويشير حرف (A0) حسب المعايير الدولية إلى المقاس الكبير الأساسي للورق المستطيل بمساحة المتر المربع الواحد، بينما يشير (A1) إلى نصف هذا المقاس الذي ينقسم إلى (A2) و(A3) وصولاً لـ (A4) وما بعدها من أحجام أصغر؛ أما حرف (B) فيستخدم في مقاسات ورق الإعلانات، بينما يشير حرف (C) إلى مقاسات ورق المظاريف.
جغرافيا الورق
تؤكد التقارير الاقتصادية أن حجم الإنتاج العالمي من الورق يقارب 200 مليون طن سنوياً، وتتقاسم الولايات المتحدة الأمريكية وكندا نحو نحو %50 من إنتاج العالم من لب الخشب، ونحو %40 من إنتاج العالم من الورق، مع العلم أن معظم الإنتاج سواء من اللب أو الورق في أمريكا يستهلك محلياً، إضافة إلى استيرادها ما يغطي هذا الاستهلاك من دول أخرى، ويقدَّر حجم الاستهلاك الأمريكي للورق بـ %50 من إنتاج العالم، تليها في ذلك كندا ثم الدول الإسكندنافية وبريطانيا، وفرنسا وألمانيا واليابان ثم إيطاليا، ثم باقي دول العالم الأخرى.
كما تُعد الصين إحدى أكبر الدول في العالم تصديراً للورق وتعتمد عليها الولايات المتحدة وأوروبا وبقية دول العالم في توفير ما يقارب %30 من مصروفات النشر والطباعة. وحسب تقديرات جمعية قطاع المناديل الورقية في الصين فإن الشرق الأوسط هو أحد أسرع الأسواق نمواً في مجال استهلاك منتجات المناديل والأوراق. وتقدر بعض الإحصاءات عدد مصانع الورق بجميع أنواعه في منطقة الشرق الأوسط بنحو 50 مصنعاً.
وبالورق اشتهرت أسماء وأماكن
كانت العرب تطلق على أعيانها وأعلامها من الذكور دون الإناث أسماءً تتخذ من الورق ومشتقاتها مصدراً متاحاً وإن كان في بعض الأحيان يشذ عن قياس اللغة التي كانوا يستخدمونها في ذلك الحين. من تلك الأسماء (مَوْرق) و(وَرْقاء) و(وَرقاوي) ويذكرون أن أحد ملوك الروم كان اسمه مورق.
ومن أكثر الأسماء شهرة(ورقة)، ويذكر العرب منهم المحدث ومحمد ابنِ حَمْدَوَيْه بن وَرْق؛ أما أكثر من اشتهر بالتسمي بالورق، فهو وَرَقَة ابنُ نَوْفَل أسد بن عبدِ العُزَّى، وهو ابن عم السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وقد اخْتلِف في إسلامه إلا أنه كان خير مُعين للسيدة خديجة عندما نزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما اشتهر بنفس الاسم الصحابي الجليل ورقة بن حابِس التَّميمِيُّ؛ ولم تزل بعض الأسر العربية تتسمى حتى اليوم بأسماء مثل ورّاق، والورّاق.
وبالإضافة إلى الأعلام أطلق العرب كذلك على بعض الأماكن الوريقة، والوِراق، وقال صاحب القاموس المحيط إن الورقان اسم للجبل الأسود المعروف بين العَرْجِ والرُّوَيْثَة بيمين المُصْعِدِ من المدينةِ إلى مكة. وما زالت حتى اليوم قرية(ورقة) في محافظة ذمار باليمن تحتفظ بهذا الاسم.
الورق المرمّل
حين يتعلق الأمر بالكتابة، لا يتجرد الورق من الفاعلية لكنه يصير إلى مفعول به، بانتظار أوامر أسنّة الأقلام التي تتحرك عليه يميناً وشمالاً محوّلة بياضه وفراغه إلى سواد ووجود لم يكن من قبل شيئاً. كل ذلك يختفي حين يتحول الورق من مفعول به إلى فاعل يقود زمام المبادرة ليؤدي نوعاً من النشاط لا يصنف في الحقيقة على أنه كتابة إلا أنه قريب من الكتابة، إنه (الورق المرمَّل) الذي تُلصق على أحد وجهيه حبيبات الرمل أو الزجاج ليكون جاهزاً للاستخدام في حك وتنعيم الأسطح والجدران قبل طلائها مثلما يستخدم في معالجة النتوءات التي تعترص عمل الميكانيكي أثناء تصليحه لأحد المحركات. اعترف معجم اللغة العربية المعاصر بهذا النوع من الورق كما يرد على ألسنة الناس معروفاً باسم (الصنفرة)، وهو ورق يمارس نوعاً من الكتابة بالحك، لا ليكتب ويثبت ولكن ليمحو.
ورق النوم بشارة في الواقع
حين يرافق الورق موتنا الدنيوي المتمثل في النوم فهو في الغالب يفعل ذلك ليهدينا نوعاً من الحياة والأمل، فظهور الورق في الأحلام يفسره أغلب خبراء تعبير الرؤى بمعانٍ تدل على الخير الوفير المنتظر، ويستثني البعض من ذلك ورق التين إذا ظهر في المنام فهو دليل على الحزن، أما ورق الشجر عموماً كما يقول ابن سيرين فيدل على الكسوة.
المعنى السلبي الآخر لرؤيا الورق في المنام لا يتعلق بالورق في ذاته، لكنه يمس الشخص الذي يكتب عليه، حيث يقولون إن من رأى في المنام أنه يكتب في أوراق فهذا دليل على جحود بينه وبين الناس، وقيل إن الكاتب على الورق في الغالب رجل مهموم مكروب، وهو في حيرة ينجو بها من ذلك الغم في النهاية بالكتابة.
وحين يتعلق الحلم بأكل ورق المصحف فإنه يفسر برزق في رحم الغيب سرعان ما يتحقق، بينما يفسر الورق في اليد بتيسير أمر من الأمور. ويقول النابلسي: من رأى أن الإمام أعطاه قرطاساً فإنه يطلب شيئاً من الإمام ويجده إذا اشتبهت عليه أمور قوم.
ويختلف أخذ الورق في المنام من إعطائه، مثلما تختلف رؤيا الورق عند الصالح وضده، وفي هذا قال الكرماني: رؤيا الورق لأهل الصلاح تؤوّل بالعلم والمعرفة ولأهل الفساد بضده، ومن رأى أن أحداً أعطاه قرطاساً فإنه تقضي له حاجة ترفع إليه، وقيل من رأى أنه أعطي ورقة بيضاء فإنه يصل إليه مال، وربما دلت على عدم قضاء الحاجة لأن الحاجة إذا قضيت تكتب في الأوراق، ومن رأى أنه أعطى ورقة مكتوبة فإنه يؤوّل على ثلاثة أوجه: خير وبلوغ مقصود وتيقظ، ومن رأى أنه كتب له شيء من ذلك فهو أحسن مما كتب عليه.
دقة الفصحى بين
الورقة والصفحة
العلاقة الوثيقة بين الورقة والصفحة تجعل كثيرين يخلطون بينهما لدرجة التطابق في المعنى والوظيفة، وقد يكون الخلط بينهما مشروعاً مثلما يرد في قواميس اللغة الإنجليزية التي لا تفرق بين الصفحة والورقة والصحيفة حين تذكر كلمة (page) إلا أن اللغة العربية تنسب الصفحة إلى الورقة وتحدد بوضوح أن صفحة كل شيء هي جانبه ووجهه، ومثلما للعملة وجهين فللورقة وجهين كذلك، ويسمى كل وجه بالصفحة، وهذا ما يعني أن الورقة تحتوي على صفحتين، وفي هذا يقول ابن منظور في لسان العرب: «وصفحتا الورق وجهاه اللذان يُكتبان» وهذا ما يضيف معنى الكتابة إلى الصفحات ويجعل من أي كتاب ورقاً محتوياً على صفحات. وحينما تصبح الورقة صفحة تكون محتاجة إلى رقم لنميزها من باقي الصفحات فنقول الصفحة رقم 3 في الكتاب ولا نقول الورقة رقم 3.
الخلط الذي لا نجده في العربية بين الصفحة والورقة لا نزال نراه مرافقاً للورق في تجلياته الإلكترونية وحياته في عوالم شبكة الإنترنت، فالصفحة على الإنترنت قد تعني موقعاً إلكترونياً مخصصاً للتجارة أو موقعاً لوزارة أو مكتبة أو متجراً أو حتى موقعاً لنادي كرة قدم، ولا نجد لصفحة الإنترنت أي وجه آخر تطل به علينا بحسب تعريف اللغة العربية للورقة التي لابد أن تتكون من صفحتين كوجهي العملة، ولذلك تبدو صفحة الإنترنت لرائيها ومستخدمها بوجه واحد ليس وراءه شيء، صفحة إلكترونية عصية على التقليب الذي تمتاز به الصفحات، وهو ما يعطيها مجاز الصفحة لا حقيقتها عند العرب.
هل سمعت بآكلي لحوم الورق؟!
كان الورق وما زال، مادة لذيذة للأكل، تحقق لآكليها نوعاً من الإشباع غير المعتاد يمكن أن يصنَّف طبياً على أنه مرض إذا تجاوز عمر الأطفال، فكثير منا يندهش لولع الأطفال خاصة الرضع منهم بتذوق الورق وأكله، وفي نفس الوقت يتسامح معهم باعتبار مرحلتهم العمرية التي يتعود فيها الطفل على اكتشاف الأشياء بتذوقها ولهذا يسارع بإدخال أي شيء أمامه إلى فمه، لكن تذوق الورق أو أكله حينما يتخطى الأطفال إلى الكبار يدخل في ما يسميه الأطباء (شهوة الغرائب) حيث يولع المصابون بهذا المرض بأكل الورق والحديد والتراب والطين والطباشير والشعر والصابون وغيرها؛ وبجانب الأطفال الصغار تأتي النساء الحوامل في رأس القائمة التي تعشق هذا النوع من أكل الغرائب ومن ضمنها الورق حينما تشتد عليهن حالات الوحم التي ترافق كثير من النسوة أثناء فترة الحمل، وقد كشف الأطباء أن نسبة ممن يعانون من هذا المرض يواجهون نوعاً من العجز العقلي، ولا يجد الأطباء حتى الآن تفسيراً مقنعاً للأسباب التي تدعو إلى التهام هذه الأشياء الغريبة على الأكل والمعدة، إلا أن بعض الدراسات تؤكد على وجود ترابط بين هذا المرض وبين معاناة أصحابه من نقص في بعض المعادن مثل الحديد والكالسيوم وغيرها من الفيتامينات، ويرد البعض الأمر إلى سوء التغذية، أو محاولة جذب انتباه الآخرين كما عند الأطفال.
ولا يقتصر أكل الورق على الإنسان وحده، أو يصنف دائماً على أنه مرض، فهناك نوع آخر من أكل الورق يعد صحياً ومطلوباً وتقوم به الآلات التي صنعها الإنسان للتخلص من الورق غير المرغوب فيه. نعلم جميعنا بآلة فرم الورق التي تقطع الورق إلى شرائح صغيرة ونستخدمها لإبادة الأوراق منتهية الصلاحية أو شديدة السرية. يمكن أن نصنف آلة الفرم من أكثر وأشهر آكلي لحوم الورق، وقد تطورت هذه الآلة بمرور السنوات لتلبية احتياجات الأمان التي تعاظمت في حياتنا اليوم أكثر من ذي قبل، وتتوافر هذه الآلة بأحجام صغيرة وكبيرة تناسب حجم وأهمية مستخدميها، بدءاً من الاستخدام الشخصي وصولاً للاستخدام الدبلوماسي والأمني على مستوى أجهزة المخابرات في العالم، وأصبحت تتميز هذه الآلة حديثاً بفرم الورق بطريقة أفقية ورأسية لتحويل أكبر قطعة من الورق إلى ما لا يتجاوز مليمتراً واحداً بعكس بعض الآلات القديمة التي تعتمد على فرم الورق رأسياً فقط وهو ما لا يتيح تخلصاً كاملاً من محتويات الورق، حيث يمكن إعادة تجميع وترتيب هذه الأوراق الرأسية لمعرفة ما كان مكتوباً فيها.
وقد لعب فرم الورق دوراً مركزياً في فِلم «آرغو» الحائز جائزة الأوسكار 2013م والذي يحكي قصة هروب دبلوماسيين أمريكيين من بين الرهائن الذين احتجزوا في السفارة الأمريكية في طهران، حيث عمد طاقم السفارة عند اقتحامها من الشبان الإيرانيين إلى فرم كل المستندات والصور رأسياً، وهو ما دعا السلطات المحلية إلى الاستعانة بالأهالي والمتطوعين لتجميع مئات القصاصات من الورق المفروم لمعرفة هوية الأوراق والأشخاص الذين تمكنوا من الهرب عبر المطار بهويات مزيفة. أكل الورق في كل الأوقات يسبب المشكلات، أسوأها عندما تستقبل المعدة جسماً لا يمكن هضمه بسهولة مثل الورق، وأكثر مشكلات أكل الورق شيوعاً يشتكي منها الأفراد والموظفون والسكرتيرات في مكاتب الأعمال، عندما تأكل الطابعة الصغيرة الورق داخل أحشائها فتتعطل الأعمال وتبدأ الشكاوى.
لكن المثير للأكل والجدل، أن مصنعاً برازيلياً يحمل اسم «بوب» ابتكر مطلع العام 2013م ورقاً لتغليف الهامبرغر صالحاً للأكل تماماً مثل قطعة اللحم والخبز، وقالت إدارة المطعم أنها سعت لهذا الابتكار البيئي للحد من كمية النفايات والتخفيف من تكلفة إعادة تدوير الورق حفاظاً على البيئة، وتم تصنيع ورق الهامبرغر البرازيلي من مواد عضوية تفتقر إلى الطعم لكنها لا تحتوي على أي تأثيرات جانبية أو مضرة في عمليات الهضم، وقد وجد هذا الورق القابل للأكل حسبما قال المطعم استحسان الزبائن وتردد البعض الآخر.
وأصبح في الإمكان:
تمديد حياة الورق
استطاعت صناعة تدوير الورق أن تحقق أكثر من هدف في شباك الاقتصاد والمحافظة على البيئة والموارد الطبيعية. حققت إعادة تصنيع الورق دورة جديدة من الحياة لآلاف الأطنان من الورق غير المرغوب فيه، وساهمت في إيجاد عمل جديد للورق وللبشر أيضاً، بعد انتشار ثقافة إدارة النفايات الصلبة، وتوسع مصانع تدوير الورق وجاذبيته الاقتصادية التي شجعت لدخول هذا السوق العامر بالأرباح لكل الأطراف.
نقلت هذه الصناعة الوليدة عدداً من الناس من عالم الفقر الذي كانوا يعيشونه إلى دنيا المال والأعمال والشهرة، وأقرب مثال على ذلك قصة الصينية (تشونج يان) التي أصبحت مليارديرة من تجارتها في النفايات الورقية، حتى لقبت بـ(إمبراطورة النفايات) بدأت تجارتها في الورق التالف في هونج كونج في العام 1985م بنحو 2500 جنيه استرليني اقترضتهم من المصرف إلى أن أصبحت أغنى امرأة بالعالم بثروة تقدر بثلاثة مليارات من الدولارات وأضحت شركتها (Nine Dragons Paper) أكبر مصدر لقصاصات الورق في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مستوى العالم.
انطلقت صناعة إعادة تدوير الورق من ركام الحرب العالمية الأولى والثانية بعد الخراب والتلوث والنفايات التي خلفتها الحرب حتى أصبحت هذه الصناعة اليوم إحدى أهم الوسائل في التقليل من الآثار السالبة للمخلفات على البيئة.
ثروة النفايات
ويعرّف الخبراء إعادة تصنيع الورق بأنها عملية إعادة تصنيع واستغلال جيد للمخلفات سواء كانت منزلية، صناعية، زراعية، حيث تسمح بإعادة تصنيع الجرائد إلى أطباق كرتونية أو إعادة تصنيع العلب المعدنية القديمة لتقديم علب جديدة، وتتم هذه العملية عن طريق تصنيف وفصل المخلفات على أساس المواد الخام الموجودة بها ثم إعادة تصنيع كل مادة بطريقة منفصلة.
وتُعد المؤسسات والمدارس ومكبات النفايات مصادر وفيرة للمشتغلين بإعادة تصنيع الورق، وقد ساعدت جمعيات الحفاظ على البيئة كثيراً في تغيير النظرة السلبية للمخلفات عموماً والورق خصوصاً، فأصبح أعداد متزايدة من الناس في العالم تهتم بالمخلفات الورقية لإعادة تصنيعها مرة أخرى؛ إلا أن أول مشكلات هذه الصناعة أنه ليس بإمكاننا إعادة تصنيع جميع أنواع الورق كالأوراق الصحية مثلاً، بينما يصلح لإعادة التصنيع ورق الصحف والمجلات والكرتون والورق المقوى.
وتمر عملية إعادة تصنيع الورق بعدة مراحل أهمها جمع الورق المستعمل وفرزه للحصول النوعية الصالحة للتصنيع، ثم يأتي بعد ذلك دور تقطيع الورق إلى شرائح صغيرة بوساطة آلات للقطع، بعدها يغمر الورق في أحواض مائية تمهيداً لخلطه للحصول على العجينة التي نريد أن نصنع منها الورق المطلوب، ويمر بعدها الورق بمراحل أخرى كالتشكيل والتجفيف. وقد سهلت عملية إعادة تصنيع الورق وأصبح بإمكان الأفراد القيام بها يدوياً عبر وسائل تصنيعية بسيطة.
فوائد إعادة تدوير الورق
لإعادة تصنيع الورق فوائد كبيرة، فحسب إحصائية وكالة حماية البيئة بالولايات المتحدة الأمريكية فإن إنتاج طن واحد من الورق %100 من مخلفات ورقية يوفر 4100 كيلو وات/ ساعة من الطاقة، ويوفر 28 متراً مكعباً من المياه ويسهم في تقليل التلوث الهوائي الناتج بمقدار 24 كغ من الملوثات الهوائية.
مع النجاحات المشهودة التي حققتها صناعة إعادة تدوير الورق، إلا أنها ما زالت تواجه عدداً من المشكلات والمصاعب، تبدأ بتعريف أكبر قدر من الناس في العالم بضرورة الاهتمام بالمخلفات الورقية، وتمر بكسر احتكار صناعة إعادة تدوير الورق عند عدد قليل من المصانع، بجانب المشكلة الأكبر التي تقصر من عمر ألياف السليولوز بفعل الإنتاج المتكرر للورق، حيث لا يمكن إعادة تصنيع الورق أكثر من ثلاث مرات لهذا السبب؛ وتكون جودة الورق المدوّر غالباً أدنى من الورق المصنوع من لب الشجر الأصلي حيث يكون أقل نقاوة وسماكة وأخشن ملمساً، ولهذا يستخدم الورق المدوّر في صناعة ورق الجرائد والكرتون.
وتواجه هذه الصناعة تحدياً أمام تطوير تقنياتها المستخدمة في فرز وفصل الورق الجيد من الرديئ، كما تواجه حتى اليوم مشكلة يسيل لها اللعاب اقتصادياً، وهي أن الطلب على هذا النوع من الورق المدور يفوق المعروض منه. الفوائد الكبيرة والشاملة التي تقدِّمها عملية إعادة تدوير الورق يمكن أن تكون مشجعاً كبيراً لتقديم حلول ذكية لمشكلاتها، فما زالت عملية بيئية واقتصادية توفر الطاقة وتقلل من التلوث وتحمي المزارع من المخلفات وتساعد في توظيف الشباب والنساء.
والملفوف من الورق يأكله
الجميع ويشربه البعض
يرتبط (الورق الملفوف) في حياتنا اليومية بأكثر من شيء ذي صلة بالأكل والمطبخ، نحب طعم عجينة الأرز باللحم حينما تكون ملفوفة بورق العنب، ونفضّل تناول أكلاتنا السريعة حينما تكون ملفوفة بورق الساندويتش، لكن كثيرين يتنكرون لمعروف الورق الملفوف فيتخذونه وسيلة لشرب الدخان، ولهذا لم تمنع صنائع المعروف التي قلدها الورق للبشر، الآلاف حول العالم من الانقلاب عليها بتوظيف الورق في صنع «السجائر» أكثر الاختراعات البشرية فتكاً بالأرواح ولعباً بالرؤوس.
كان الكاتب أنيس منصور صادقاً عندما عرّف السيجارة بأنها «هي السعال ملفوف في ورقة رقيقة»، وهكذا استطاع مكر الإنسان بنفسه أن يقوده إلى ابتكار أسطوانة صغيرة مستطيلة من الورق تحتوي على تبغ ونيكوتين ومكونات أخرى أشد غرابة، أطلق عليها من بعد اسم السيجارة. وللمفارقة فإنه كلما كان نوع الورق المستخدم في لف السيجارة عاديا وبدائيا كانت السيجارة فيه أخطر من سيجارة الورق المصنع بدقة واحترافية، لأن النوع الأول من الورق يستخدمه في العادة المدمنون على المخدرات حينما يلجؤون إلى لف ممنوعاتهم بما يجدونه متوفراً من ورق المناديل أو أي ورق رقيق يقوم بالمهمة ويحترق من أجلهم.
ويحفظ التاريخ للفرنسيين سبقهم لاستخدام السجائر في العام 1840م بعد أن توصلوا لفكرة توظيف الورق الرقيق في لف حبيبات التبغ حتى انتشر شرب السجائر في أنحاء أوروبا بصورة كبيرة بعد حرب القرم. وبحلول العام 1880م ساهم التطور الذي صاحب تصنيع الورق في تحسين نوعية ورق السجائر وهذا ما جعل السيجارة الورقية أكثر انتشارا من ذي قبل وأرخص سعرا.
الورق في عناوين الكتب
رمز للتعب والتواضع
سيكون عسيراً أن نعثر بدقة على أول وآخر كتاب صدر في العالم طعّم كاتبه عنوانه بكلمة ورق أو ورقات أو أوراق، فإيراد مشتقات كلمة ورق في عناوين الكتب كانت وما زالت عادة متبعة لدى كثير من المؤلفين السابقين والمعاصرين، لا يقصد بعضهم التقليل من مؤلفاته بتسميتها بورقات أو أوراق بقدر ما يريد أن يبرهن على تواضعه في إعداد مادة الكتاب، والمتواضعون بحق في الغالب هم المتميزون، ولذلك اشتهرت مثل هذه الكتب بين قارئيها من كل الأجيال حتى اليوم.
من الذين استلهموا التواضع في التأليف من الورق المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب الذي سمى أشهر كتبه بالورقات وهو كتاب «ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية» رغم أنه أنفق قرابة الخمسين عاماً من عمره في جمع وتدوين مادة الكتاب الذي سماه في النهاية بالورقات.
ويُعد كتاب الورقات للإمام الجويني من أوائل هذه الكتب التي تسمّت عناوينها بالورق، ومثله كتاب الورقة لابن الجرّاح، وكتاب الورقات في النحو للشيخ عبدالرحمن الدهش، وكتاب الأوراق للإمام الصولي. ومن أهم الكتب في شرح الموشحات كتاب إنحاز عنوانه إلى الورق وهو: «سجع الورق المنتحبة في جمع الموشحات المنتخبة» للإمام السخاوي.
لم تتوقف منذ ذلك العهد حتى اليوم قافلة الكتب التي تتسمّى بالورق. ظهر الأديب مصطفى صادق الرافعي بكتابه «أوراق الورد» وكتبت الروائية ميلاني ميلبورن روايتها الشهيرة «أحلام الورق»، وكتب الأديب المصري خيري شلبي «ثالثتنا والورق»، وكان الورق عنواناً مفضلاً للكاتب المصري أنيس منصور الذي نشر كتابه «أوراق على شجر» وروايته «حبيبتي من ورق»، ولا ننسى ديوان الشاعرة العمانية نورا البادي «نصل الورق» وغيرها الكثير من الكتب التي خلدت الورق في عناوينها.
الورق في الأدب:
مسرح للبطولة والإلهام
كثيرة هي الروايات والقصص التي بنت بالورق موضوعاتها ومعمارها الفني، لم تكتفِ أغلبها بالرمز السلبي للورق الذي يشير إلى هشاشة وزيف الشخصيات التي تبنيها، بل تعدت ذلك إلى الاحتفاء بالتاريخ والأحلام والتفاصيل التي يعايشها ويمكن أن يعيش في أجوائها الورق. وحينما يذكر الورق تستعيد رواية «ذاكرة الجسد» للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي سطوة الورق بين سطورها حينما تتساءل على لسان راويها: «هل الورق مطفأة للذاكرة؟!».. روايات عديدة أجابت عن السؤال بالنفي والإيجاب.
رجال من ورق
يتذكر قراء الروائي وليام غولدينغ شخصيات روايته «رجال من ورق» بكثير من السخرية التي كانوا يتمتعون بها، وهي شخصيات ذات علاقة وثيقة بالورق بحكم تخصصهما في الحياة، فالأول ويلفريد باركلي كاتب إنجليزي، والثاني ريتشارد تكر ناقد أمريكي، يجمعهما شمل الكتابة على الورق وَهَمْ جذب القارئ لما يكتبان، وعندما يبيتان تحت سقف واحد يمضيان في حديث مندفع عن العلاقات الزوجية والخيانات، ويمضي الحوار في اتجاهات مغرقة في الخصوصية، ليحاول نسج علاقة سوية بين الروائي والناقد وليصل قارئ الرواية إلى الإحساس بغرابة وتوحش هذا النوع من الأدب الذي يتقصى الفضائح ويبتذل العلاقات ويعتمد اللهو بدل الإبداع. ويتحول الورق في الرواية إلى بطل مثل الآخرين، وقادر على الفعل مثل الكاتب عليه، وتصبح قصاصة ورق صغيرة سبباً كافياً لإنهاء علاقة زواج، ويغدو حرق الورق في نهاية الرواية رمزاً للانتقام والتطهر وبداية صفرية جديدة.
أوراق لعب على الطاولة
تدور بالطبع رواية «أوراق لعب على الطاولة» للروائية الشهيرة وواسعة الانتشار أغاثا كريستي حول جريمة وقعت وتنتظر الكشف عنها، وتحكي الرواية حياة أربعة أشخاص يلعبون الورق في غرفة كبيرة، ويجلس مضيفهم السيد شايتانا بمكره الكبير بعيداً عنهم بالقرب من موقد النار، وتوفر الكاتبة لجميع اللاعبين فرصة قتله والتخلص منه أثناء انشغال البقية باللعب. دافع القتل الذي نجده في اللاعبين الأربعة يدفع واحداً منهم إلى التجرؤ لقتل السيد شايتانا، وفعلاً تتم الجريمة ويلقى شايتانا حتفه بجرأة كبيرة وتحكم عال في الأعصاب. وتشتغل الرواية بعد ذلك في البحث عن الدليل المادي الذي يمكن أن يقود إلى القاتل، إلى أن يقوم السيد بوارو في النهاية بمعرفة القاتل الحقيقي، بحيلة ذكية اعتمدت على طريقة البحث في تاريخ المتهمين الذي كان يهددهم به القتيل.
عداء الطائرة الورقية
بتقريظ جدير برواية شهيرة وعظيمة مثل رواية الكاتب الأفغاني خالد حسيني «عداء الطائرة الورقية» كتبت الروائية الشهيرة إيزابيل الليندي:» إنها قصة لا تنسى، تظل معك لسنوات.. إنها قوية لحد جعل كل ما قرأته بعدها، ولفترة طويلة، يبدو لي بلا طعم» بينما كان رأي مجلة (ببلشرز ويكلي) أنها: «مذهلة… يندر أن تجد كتاباً يناسب أوانه لهذه الدرجة، ويحمل، في الوقت نفسه، تلك القيمة الأدبية العالية». الرواية الجديدة التي ترجمها إيهاب عبدالحميد ونشرتها دار بلومزبرى في خواتيم العام 2012م تسرد قصة (أمير) الصبي الأفغاني البشتوني الذي يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ويمني نفسه بالفوز في مسابقة الطائرات الورقية ويحاول صديقه حسن مساعدته لتحقيق هذا الحلم. يتغير كل شيء في حياة أمير وفي أحلامه وفي بلده أفغانستان بعد الغزو السوفيتي لبلاده في سبعينيات القرن العشرين. حياة جديدة ومختلفة تواجه عدّاء الطائرة الورقية بعد اضطرار أمير ووالده للجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن يجد نفسه مجدداً في وطنه بأحلام جديدة هذه المرة.
أوراق
وما زالت رواية الكاتب والمؤرخ المغربي عبدالله العروي «أوراق: سيرة إدريس الذهنية» تثير جدلها الخاص منذ صدورها في العام 1989م بداية بعنوانها المُورِق وتجنيسها الذي صَعُبَ على متناوليها وانشطر بين حسبانها رواية أو سيرة ذاتية كما قال المؤلف نفسه في صدر الرواية، بل إن بعض الباحثين وفّق بين الاتجاهين وأطلق عليها وصف (السيروية) كناية عن جمعها لفن الرواية والسيرة الذاتية في نفس الوقت. وينهي العروي حياة إدريس بطل الرواية بالموت أو التبخر في الهواء، ليترك بعدها أوراقه في حوزة صديقه شعيب الذي يخشى فقدانها، ويرغب في تخليد ذكراه عن طريق الاحتفال بعشرينيته، كما تشتد رغبته في معرفة الغموض الذي كان يلف حياته وموته، وتصير أوراق إدريس مادة جاهزة لكتابة سيرته الذاتية التي يرفض الراوي في البداية كتابتها إلى أن يوافق في النهاية.
ولبقايا الورق مهمة للتنظيف
والاتساخ
عندما يصل الورق إلى مرحلة (غير صالح للاستخدام) فإنه يعود إلى العمل والحياة مرة أخرى عبر إعادة التدوير. هناك استعمالات أخرى للورق غير الصالح للاستخدام، أشهرها توظيف الورق في النظافة قبل الاستغناء عنه في سلة المهملات، ويفضل الكثيرون استعمال الورق في تنظيف الأسطح اللامعة التي تكون مصنوعة من الزجاج أو الحديد، لأنه يزيل البقع بخشونته ويعيد زجاج النوافذ والأبواب إلى لمعانها السابق؛ لكن أكثر شيء غير إيجابي في بقايا الورق أنه يزيد من الإضرار بالبيئة عندما تُرمى بقاياه بشكل عشوائي دون أن يستفاد منها في صناعة إعادة التدوير. وتقول الإحصاءات أن حجم النفايات الورقية يصل إلى أكثر من %33 من إجمالي النفايات والأوساخ في بعض دول العالم.
وللورق منافسون شرسون
لا يشك أحد في مملكة الورق المتعاظمة والمتطورة إلا أن المنافسين الجدد يهددون عرش الإمبراطورية بالانهيار والعودة إلى حقبة التاريخ التي أتت منها. المشكلات التي تواجه صناعة الورق في العالم وتجعله أغلى من ذي قبل، دفعت كثيراً من المتعاملين مع الورق من وسائل الإعلام إلى التفكير في وسائل أخرى أقل تكلفة وأكثر جاذبية للجمهور، فاتجهت كثير من كبريات الصحف في العالم إلى إيقاف نسختها الورقية والتحوّل بالكامل إلى عالم الإنترنت والإعلام الفضائي والإلكتروني، وهذا ما يجعل المنتج الإلكتروني منافساً جديداً وقوياً أمام الورق، خاصة مع الجهود التي لم تتوقف حتى الآن عن محاولة تصنيع ورق إلكتروني ملموس يعوض لمسة الورق السحرية ويحيله في نفس الوقت إلى التقاعد، ولكن حتى ذلك الوقت، يبقى الورق حاضراً وبقوة في عالم الثقافة والصحافة والإعلام رغم الضغط المتزايد على موارده المحدودة في العالم.
وبجانب الإلكترونيات نجد أن البلاستيك أيضاً أصبح منافساً شرساً للورق في عدد من الاستخدامات التي كانت حكراً على الورق قديماً، مثل الأكياس، كراتين البيض، بطاقات الهوية، الملفات والحقائب الصغيرة، والأشرطة اللاصقة، الألعاب، الهدايا، والأكياس التي نفرشها لنأكل عليها. وفي بعض الأحيان يستبدل الورق والبلاستيك المنافسة بالتكامل، حين يدخل البلاستيك في عدد من الصناعات الورقية خاصة في التغليف، ليقوي المنتج الورقي ويعطيه الجاذبية ويحميه من عوامل الطقس، مثلما نلحظ ذلك في الكراتين والصناديق وكروت شحن الهواتف الجوالة، وأغلفة الكتب.
عوالم تنهار وراء الورق
عوالم عديدة تحيط بالورق صناعةً واستخداماً؛ منها ما استطاع أن يتطور مع الورق ومنها ما تَخَلّف، ولعل أبرز المرتبطين بالورق حتى اليوم كل ما اتصل بالكتابة نفسها من ثقافة وحضارة، وما اتصل بالاستخدام المرافق للورق مثل الأقلام والأحبار والطابعات والآلات الكاتبة والحواسيب التي رافقت الورق إلى درجة المنافسة والبديل.
أما حينما هبت رياح الأزمات المالية والتغيرات التكنولوجية والإعلام الجديد، لم تكن عوالم الورق بمعزل عن التأثير والتأثر.
أدى غلاء الورق وضعف القوة الشرائية لوسائل الإعلام الورقية إلى إعلان كثير من كبريات الصحف والمجلات العالمية تحولها النهائي من الورق إلى الإنترنت تجنباً للخسارة الاقتصادية والإعلامية، مثل صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» التي توقفت تماماً عن طباعة نسختها الورقية واكتفت بموقعها الإلكتروني، وكانت (شركة المراجع) التي تصدر موسوعة دائرة المعارف البريطانية قد أوقفت أيضاً إصدار نسختها الورقية المشهورة المؤلفة من 32 جزءاً بعد 244 عاماً من الصدور المتواصل، وكانت آخر المترجِّلات عن صهوة النشر الورقي مجلة (نيوزويك) الأمريكية الشهيرة المصنّفة كثاني مجلة أسبوعية بعد(التايم) وكانت تواصل الصدور المستمر منذ العام 1933م لتتوقف نهائياً بتاريخ 31 ديسمبر 2012م بعدد أخير كتبت على غلافه عنواناً وداعياً حزيناً «آخر عدد مطبوع».
وبجانب الصحف والمجلات التي ماتت ورقياً، ما زالت عوالم صناديق البريد تصارع الفناء، مع فقدان الرسالة الورقية المزركشة بريقها السابق، وتقلص سطوة المظاريف الجميلة وإرث الطوابع البريدية العريق.
الورقة تلد أختها بالكربون
يؤكد الحاضر والتاريخ من قبله، أنه كلما تقدَّم العلم بالإنسان كلما تكاثرت ألوان الورق وتنوعت، لم يعد الورق أبيض أو أصفر فقط، صار ممكناً ومتوافراً بكل الألوان التي تخطر على البال، إلا أن الورق الأبيض استطاع أن يحوز الشهرة والاستخدام الأوسع مقارنة مع غيره من الألوان. بجانب الأبيض يحضر دائماً معكوسه الأسود، ويسجل الورق الأسود أفضلية على شقيقه الأبيض لم تتوافر في الأوراق التي كانت تعرفها البشرية قديماً، إذ صار بمقدور ورقة رقيقة سوداء أو زرقاء تكسوها مادة شمعية ملونة أن تلد عدداً من الورقات المشابهة تماماً للورقة الأم. هذا هو ورق (الكربون) الذي نستعين به لإنتاج عدة نسخ من ورقة مهمة مثل الفواتير ليستعملها أكثر من شخص، ويوضع ورق الكربون عادة بين طبقتين من الورق لنقل ما هو مكتوب من الورقة التي في الأعلى للورق الذي في الأسفل. استطاع الكربون أن ينقل الورق وتصوراتنا نفسها إلى مرحلة جديدة من الابتكار والإدراك، حيث لم يعد غريباً أو مستحيلاً أن يكون سطح داكن ومعتم كورقة الكربون تمتلك كل هذه الشفافية التي تجعلها تظهر كل ما يكتب فوقها. إنها معجزات الورق التي لا تنتهي. هذه النقلة الكبيرة لمفهوم الورق وقدراته الهائلة يرجع الفضل فيها إلى العالم البريطاني رالف ويدجوود الذي حصل على براءة اختراع ورق الكربون في العام 1807م وكان حدثاً جديداً وفارقاً على البشرية حينها، أن أصبح متاحاً إنتاج عدة نسخ طبق الأصل من ورقة واحدة. وبعد عام واحد من اختراع ويدجوود لورق الكربون، حصل المخترع الإيطالي بيليجرينو توري على براءة اختراع أول آلة نسخ في العام 1808م وكانت تعمل بورق أسود مكربن تضغط عليه الحروف المعدنية للآلة فتظهر الحروف سوداء على الورق الأبيض.
لم تتوقف ثورة النسخ التي بدأها ورق الكربون حتى اليوم، ظلت كل يوم ترفد البشرية بالجديد والمتطور من وسائل النسخ الحديثة، وعلى الرغم من أن ورق الكربون صار أقرب إلى الماضي من الحاضر بعد النقلة النوعية والكمية التي حققتها وسائل التصوير الضوئي، إلا أن ورق الكربون لم يتلاشَ تماماً من الحياة، صحيح أنه بات من النادر أن يستخدم بغرض النسخ، لكنه أصبح يوظف في استخدامات فنية، باتخاذه كأسطح مغايرة للرسم ومجمّل للمظاريف المزخرفة.
الورق في ديوان العرب
لا يستطيع تاريخ الشعر العربي أن ينسى ما خلفه المتنبئ من إرث شعري عظيم، خاصة ما تعلق منه بالفخر، ولا يُذْكَر المتنبئ مقروناً بالفخر والخلود والورق إلا ذُكِر معه بيته الشهير:
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
ولأن العرب قديماً كانوا لا يعرفون من الورق إلا القراطيس والكاغد نجد ذكرهم للورق في أشعارهم دار أكثره حولهما، ومنه قول أبي تمام:
في بطنِ قرطاسٍ رخيصٍ ضمنَتْ
أَحشَاؤه دُرَرَالكلامِ الغَالي
وفي معلقته الشهيرة، وجد طرفة بن العبد في قراطيس الورق وصفاً ملائماً ليستعيره في التعبير عن نعومة ناقته الأثيرة فوصف خدها بقوله:
وخدٌّ كقرطاس الشامي ومشْفَرٌ
كسَبْتِ اليماني قدُّه لم يجرَّد
ويذكر ابن حزم الأندلسي ورق الجلد والكاغد في قوله:
دعوني من إحراق رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
ومثله الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة (الرزء الأليم) عندما رثى الأديب الشيخ ابراهيم اليازجي فقال:
آها و لو لم يكن خطب ألمّ بنا
ما سطّرتها يدي في كاغد أبدا
بعد الكاغد والقراطيس، بدأ الورق يظهر جلياً وكثيراً في أشعار المعاصرين، مثلما احتفى به الشاعر العراقي محمد البغدادي فقال:
يُهمُّني كُلُّ شَيءٍ فيكَ يا وَرَقُ
مَعنى اصفِرارِكَ: أنَّ العُمرَ يَحتَرِقُ
مَا بَينَ لَونَيكَ غَاباتٌ وَأودِيَةٌ
قَطَعتُها وَمتاعي الخوفُ وَالأرَقُ
مَا بَينَ لَونَيكَ مَلَّ الحِبرُ وَحدَتَهُ
وَكادَ يَقفِزُ لَولا خانَهُ الرَّمَقُ
وفي السينما: تضحك الكوميديا بالورق
أغلب الأفلام التي استمدت رونقها وقوتها من الورق، نجدها إما فازت بجوائز سينمائية، أو برضا جمهورها وضحكاتهم، مثل فِلم الكوميديا والدراما (Paper Man) الذي كتبه وأخرجه كيران مولروني وأدت أدواره إيما ستون، ليزا كودرو، ورايان رينولدز، بالإضافة إلى الفِلم الكوميدي (Paper Moon) الذي أنتج في العام 1973م وفاز بجائزة أحسن ممثلة مساعدة وترشح لثلاث جوائز أخرى.
وفِلم (The Paper) يروي حياة محرر صحافي في صحيفة مرموقة خلال 24 ساعة، ويواجه مشكلاته الحياتية والعملية.
ومن الأفلام العربية يذكر متابعو السينما الفِلم الكوميدي الشهير (بطل من ورق) أنتج في العام 1988م ومثلت فيه آثار الحكيم، صلاح قابيل، أحمد بدير، وممدوح عبدالعليم؛ بجانب الفِلم الضاحك (ورقة شفرة) وتميز بخياله ومغامراته التي تنتهي بالعثور على خريطة الكنز المدفون بأحد المعابد الأثرية بمدينة الأقصر.
اقتباسات ورقية
حظي الورق بمكانة مقدرة في أقوال واقتباسات الحكماء والأدباء والفنانين والسياسيين، من هذه الاقتباسات الشهيرة نختار ما يلي:
أنتم يا معشر الفلاسفة محظوظون لأنكم تكتبون على الورق والورق يتحمل ذلك، بينما أنا – الإمبراطورة التعيسة – أكتب على الجلود الحساسة للكائنات الحية.
إمبراطورية روسيا كاثرين الثانية
الشِّعرُ يحيط بنا في كل مكان، لكن مع الأسف وضعه على الورق ليس بسهولة النظر إليه.
فينسنت فان غوخ
ياللعجب! أزرع قلبي على الورق فينبت في قلوب الناس.
ميخائيل نعيمة
سوف يجف الحبر ويتمزق الورق ويبقى المكتوب على القلب.
أنيس منصور
على الورق نحن نكتب ما لا نستطيع أن نقول، وما نريد أن يكون.
إياد شماسنة
الكتابة عمل سهل، فليس عليك إلا أن تحدق في ورقة بيضاء إلى أن تنزف جبهتك.
دوجلاس آدامز
مستقبل الورق في عالم إلكتروني متّسع
مع ظهور الحواسيب وانتشار القراءة الإلكترونية، وظهور ورق إلكتروني يحاول مشابهة الورق الحقيقي في السُّمك والملمس والوظيفة، لا يبدو مستقبل الورق عند المتفائلين قاتما كما يتصوّر البعض، لأن الارتباط الإنساني الحميم بالورق ظل عاملا قويا يمنع الامبراطورية الورقية من الزوال النهائي. استطاع التطور الرقمي بالفعل أن يبتلع خصوصيات الورق ويشيد به عالمه الافتراضي غير المحسوس، لكن كثيرين يعدون ذلك ميزة للورق لا خصما قاضيا عليه. بذلت الآلة والبرمجة وسعها تجاه الكتاب الإلكتروني لابتكار برامج تحاكي مواصفات الورق المميزة في الشكل وطريقة طي الأوراق، لكنها ما تزال عاجزة عن محاكاة نكهة الورقة وسحرها الملموس في الأصابع. وفي سبيل المنافسة، حاولت التقنية الحديثة استعارة عوالم الورق لتصب في الرصيد الرقمي، فكانت ثورة المجلات والصحف والكتب الإلكترونية علها تجذب آخر المرتبطين بصناعة النشر ورحيق المطابع، وتعدّت ذلك إلى الألعاب ليتحول ورق «الكوتشينة» إلى بطاقات إلكترونية.
لا يستطيع الكثيرون تخيّل أو تحمّل غياب الورق، بعكس جزء كبير منا بدأ في تقبّل التقنيات الجديدة المعتمدة على القراءة الإلكترونية دون أي إحساس بالفقد الحالي أو المتوقع. ومن المؤكد أن الورق بألوانه وأنواعه وأحجامه والإحساس به، يواجه منافسة شرسة يفرضها التطور المتسارع في التقنية الماضية لسحب القراءة والكتابة من تحت أقدام الورق التقليدي وتسليمها بالكامل لإمكانيات الورق الإلكتروني المغرية، وقد تكون الغلبة في نهاية المطاف للجديد والأسهل والمبتكر، لكن الورق في المستقبل سيظل يفرض سيطرته على عوالم عديدة غير الكتابة والقراءة، لن يكون الوصول الإلكتروني إليها سهلا.