في المملكة العربية السعودية سحب الموضوع الاقتصادي، في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، البساط من تحت أقدام الموضوع السياسي والاجتماعي والرياضي، وحتى من تحت أقدام الهموم اليومية كمدارس الأولاد ومشكلات المراهقين ومطاردة المعاملات من أجل وصلة ماء أو كهرباء أو هاتف أو استخراج تأشيرة لسائق أو خادمة.. الخ.
انشغل الناس بأفكارهم وأوقاتهم بملاحقة أرصدتهم، وكان لسوق الأسهم اليد الطولى في فرض الموضوع الاقتصادي على طاولة الهم اليومي للمواطن في المملكة. وبينما كان الصعود الصاروخي لسوق الأسهم قبل أشهر مدار أحاديث لا تنقطع ظلت السوق نفسها بعد تراجعها المدوي تحظى بحضور أكبر في حياة الناس، حتى أن هذه الأحاديث تطوَّرت وبات كل مواطن مستعداً للتفسير والتحليل ووضع الحلول. وزاد من وتيرة حضور هذا الموضوع الخسارات التي مني بها المشتغلون بهذه السوق وأثرها على حياتهم وحياة أبنائهم. ولأن لكل فعلٍ رد فعل فقد نشأت على إثر هذا التراجع المدوي مصطلحات وإشارات دخلت قاموس التخاطب اليومي.
من يراقب هذا الوضع لا بد أنه سوف يتساءل عن ضحالة الثقافة الاقتصادية العامة لدى المواطن الذي يذهب مع كلمة في لحظة ويعود مع أخرى في اللحظة التي تليها. يحدث ذلك على طريق مكتظة بالمخارج وبالتفاصيل وبالدهاليز وبالهزَّات التي لا ترحم من يتسلَّق جبلاً من دون أدوات مناسبة ودون تدريب. من يفعل ذلك لا بد أن يسقط وتدق عنقه. وهذا هو ما حصل نتيجة لتسلُّق كثيرين لجبل سوق الأسهم من دون أدوات مناسبة أو بأدوات استعاروها من الساحات أو من أفواه المحللين غير المؤهلين، الذين اكتظت بهم شاشات الفضائيات وصفحات الصحف وكأننا في حراج سيارات يقوم على الشطارة وقوة الصوت، وليس في سوق تتطلَّب الكثير من الخبرة والكثير من الحذر.
المواطن، باعتباره رقماً مهماً في الموضوع الاقتصادي العام، لم يتعرض في حياته لدروس اقتصادية عامة تُوعِّيه وترشده إلى تجنب المناطق الوعرة والمنحدرات على طريق الممارسة الاقتصادية والاستثمار، بل إنه لم يجد، في الإطار العام، من ينبهه إلى خطورة الفعل الاقتصادي المبني على النوايا الحسنة ونصائح الأصدقاء في جلسة سمر.
على المستوى الشخصي تابعت العديد من التصرفات وسمعت الكثير من ترددات النصائح الاستثمارية العابرة. وكنت أحياناً أعجب للجرأة التي يتمتع بها مستجد في عملية استثمار كيف يأخذ قراراً بإلقاء مليون ريالٍ مثلاً بنفس الطريقة التي يشرب بها الماء. ببساطة ومن دون أدنى تفكير تجد المليون ريالٍ خرجت من حسابه لحساب محفظة ما. وشيئاً فشيئاً يبدأ وضع يده على قلبه خوفاً من ضياعها. ولطالما تابعنا تلك الأخبار التي نقلت صوراً من الحُفَرْ التي هَوَى فيها مجموعة من الموظِّفين لأموالهم الذين انساقوا خلف مغامر أو مقامر في الليل، فلما طلع الصبح وجدوه قد ذاب مع الشمس وذابت معه أموالهم التي كدُّوا في جمعها قرشاً إثر قرشٍ.
أما الأمر الآخر في السياق ذاته فهو ظاهرة التسابق للثروة. تلك الظاهرة التي تختص بها منطقة الخليج، وربما وجدت في بلدانٍ عربية أخرى لكن ليس بنفس الحدة. فالمواطن في منطقة الخليج موهوم بالثروة الطائلة التي تقربه من بلاط الأثرياء. كل مواطن لديه الهاجس نفسه في أن يصبح فلاناً أو علاناً الذي يسكن القصر ويركب الطائرة الخاصة ويصيّف أربعة أشهر في السنة على ضفاف بحيرة جنيف.
وإذا تواضع هذا الهاجس فإن الخريج الجديد في الجامعة، على سبيل المثال، يريد أن يتزوج وأن يسكن فوراً فيلا ويركب سيارة فاخرة ويستقدم خادمة. وهكذا نقع في مطب الموضوع الاقتصادي الشخصي، المرتبط بذلك الموضوع الاقتصادي العام، من جديد، حين نطلب أكثر مما نملك أو نستطيع. وحين يكون الحل باللجوء إلى الديون أو إلى استثمارات غير واعية على طريقة (مع الخيل يا شقرا).
ولو وضعنا هذه الأسباب مجتمعة: قلة الدروس الاقتصادية العامة، ونقص الوعي بالمتغير الاقتصادي العام والشخصي، واستعجال الثروة، فإن من الطبيعي أن يكون الناتج الاقتصادي في النهاية في غير صالحنا. والأيام أو الأشهر التي مضت دلت دلالة قاطعة على أننا على المستوى الاقتصادي نخبط، كأفراد، خبط عشواء. وخبطنا هذا هو الذي أصابنا بالذهول والأمراض والكآبة. فقد تصورنا أننا نعي ما نفعل ثم اكتشفنا أن ما نفهمه في الموضوع الاقتصادي هو أقل القليل، بينما يبقى من فصول الدرس الاقتصادي آلاف الصفحات التي لم تُقرأ ولم تُفهم.