ظاهرياً، قد تبدو المماطلة أو التسويف، كما يسميها البعض، مجرد سلوك اجتماعي غير مستقيم، ذي آثار نفسية مزعجة ليس فقط على الذي ينتظر العمل المنجز، بل أيضاً على الذي يفترض فيه إنجازه في وقت معيَّن.
ولكن استكشاف حجم الآثار النفسية وحتى العملية والمادية لهذا السلوك، دفع إلى إخضاعه لدراسات علمية عديدة، سعياً إلى تفسيره وعلاجه.
هنا مساهمتان، الأولى بقلم تامر جابر محمود الذي يعرض آخر ما توصَّل إليه العلم في دراسته لـ «المماطلة»، ويفاجئنا بوجود أساس فسيولوجي وجيني لها. والثانية بقلم فارس كمال نظمي الذي يعرض لـ «علم نفس المماطلة» الذي تأسس حديثاً بهدف معالجة هذا السلوك. وكلا المساهمتين يقترح في خاتمتها وسائل معالجة.
المماطلة.. بين الخصال الشخصية والعامل الجيني
اعتزمت كتابة مقالي هذا لأشهرٍ خلت، ثم تراخيت عن ذلك. فلم تـُراني نشطت بعد عقالٍ لكتابته؟ أهي فسحة مـن الوقت توافرت بعد انشغال؟ كلا، غير صحيح. فبـين يدي أوراق للطلبة عليَّ تصحيحها، كما أن لدي استمارات لطلب مراجع عليَّ ملؤها، وأطروحات لمطالعة مسوداتها وخلاف ذلك من أشغال. فلِمَ إذاً عمدت إلى كتابتها بعد طول تأخير؟ الجواب هو أنني انخرطت بهذا المقال كذريعة لتأجيل هذه الأعمال جميعاً.
بهذه الصراحة، يستهل جون بيري أستاذ الفلسفة بجامعة سـتانفورد مقاله عما سماه «التسويف المخطط له». وهو لا يتحدث فيها عن مسلك ننأى بأنفسنا عنه، بل عن شيء تدل الأبحاث على ممارستنا إياه بين حين وآخر، وبصورة أو أخرى.
إن السيد ريموند محام قدير، لكنه اعتاد تأجيل الرد على مهاتفات العملاء وصياغة المذكرات القانونية، وهي سلوكيات هدَّدت مستقبله كمحام. ولما ضاق ذرعاً بحاله، طلب المشورة الطبية في إحدى العيادات النفسية. وكخطوة أولى للتغلب على تلك العادة، أعطاه الطبيب موجزاً لأعراض التسويف، طالباً إليه قراءته ثم تحديد مدى انطباق ما فيه على سلوكياته. قبِلَ السيد ريموند الطلب، على أن يُنفذه وهو على متن الطائرة التي تقله إلى أوروبا. لكنه ما إن أصبح على متنها، حتى انشغل عن ذلك بمتابعة الفلم المعروض هناك. ثم عاد وخطط لقراءته في أول ليلة بالفندق، ليغلبه النعاس قبل أن ينفِّذ خطته. تلى ذلك أن جلب كل يوم أشياءً أخرى أكثر جاذبية، لم يكن من ضمنها الدليل الذي أعطاه إياه الطبيب. وفي النهاية، أحصى ذلك الأخير عدد الساعات التي قضاها الدليل بين يدي السيد ريموند دون أن يُتم قراءته، ليجدها 40 ساعة. هذا فيما لم تكن قراءته لتستغرق أكثر من دقيقتين.
يُعد مثالنا هذا مثالاً صارخاً على التسويف. وهو كذلك مؤشر إلى أشياء عديدة، من بينها لجوء السيد ريموند بمحض إرادته إلى المشورة طالباً التخلص من هذا المنحى السلوكي، ثم نكوصه عن مقصده هذا بمحض إرادته أيضاً. فإلى أية درجةٍ يعد التسويف مسلكاً مرضياً؟ وهل يستوجب العلاج؟ هل التسويف فضيلة تجُنب المرء حرباً نفسية إزاء ما لايسعه إنجازه على الفـور؟ أم هو هروب من المسؤولية وإن كانت بالوسع؟ هـل كلنا مسوفون؟ هذه كلها أسئلة عن عادةٍ كلفت أصحابها مشاق اختلفت طبيعتها ما بين صحية واجتماعية أو مالية أو غير ذلك..
لنحاول -في مَعْرِضِ الإجابة عن هذه الأسئلة- استكشاف هذا المنحى السلوكي، واستبيان طبيعته. يُعرِّف بيير ستيل أستاذ الاقتصاد بجامعة «كالجاري» التسويف بأنه «تأجيل فعلٍ مُعتزم، رغم توقع سوء الأمور جرَّاءَ هذا التأجيل».
هذا من جهة المصطلح العلمي الصرف، أما من جهة السلوك العملي، فيصوِّره لنا الباحثان جوزيف فيري بجامعة ديبول، وديان تايس بجامعة كايس ويسترن ريسيرف كالتالي: «يتجنب أصحاب التسويف المزمن المعلومات التي تكشف عن ذواتهم، مع انتقادهم بحدةٍ الأداء الواهن للمسوفين الآخرين، كما أنهم يميلون إلى الشروع في أداء الواجبات مساءً أكثر منهم نهاراً. فإذا وضعناهم للمقارنة بغير المسوفين، فسنجدهم يتجنبون أوجه النشاط التي قد تكشف عن مستوى قدراتهم، مع إقبالهم على المهام اليسيرة التي تفتقر إلى التحدي. كما سنجدهم يسيئون تقدير الفترة اللازمة لإنجـاز الواجـبات الموكلة إليهم، ويركِّزون على الأحداث الماضية بخلاف المستقبلية، ويتقاعسون عن العمل طبقاً لما عزموا عليه».
واستناداً إلى هذا التوصيف، أجرت عالمة النفس فوشيا سيرويس من جامعة «ويندسور» بالعاصمة الكندية أونتاريو، دراسة على 254 من البالغين، لتسرد لنا نتيجة عواقب هذه الخصال على المسوف، فتقول: «يعاني المسوفون من ضغوط أشد، وعثرات صحية أكثر حدة، إذا ما قُورنوا بمن ينجزون واجباتهم دون تسويف. كما وُجد أنهم يتقدمون مرات أقل لإجراء الفحوصات الطبية على أجسامهم وأسنانهم. وهم أكثر عرضة للحوادث المنزلية من غيرهم، لتسويفهم الواجبات المنزلية المملة على بساطتها، كتغيير بطارية أجهزة التعرف على دخان الحرائق وخلافه». لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: إذا كان للتسويف مثل هذه النتائج غير السارة، فلم يُقدم المرء عليه؟
الخصال الشخصيةودور
العامل الجيني
ثار السؤال بين الباحثين عن وجاهة النظر إلى التسويف كخصلة شخصية. وهل تتفاوت حدة ظهور هذا المسلك بتباين الأوقات والمواقف، أم هو منحىً تصطبغ حياة المرء به، وبالتالي يصح اعتباره خصلة شخصية؟
لقد أُجريت أبحاث وافية حول هذا الأمر، ودلَّت نتائجها على اتسام هذا المسلك رغم تقلب الظروف ومرور الوقت بثبات كافٍ. ثم تراءى كما لو كان هناك عامل جيني أو بيولوجي، له دور ما في ظهوره. ففي دراسة حديثة أجراها كل من روتوندو وجونسون وآفري وماكجوو عام 2003م على 118 من التوائم المتماثلة، وعلى 93 من التوائم المذكرة الشقيقة وُلدت لاحقاً بنفس العائلة، لتحديد مقدار ظهور الصفة عند كلا المجموعتين، بلغ معامل ارتباط ثبات هذا المسلك بحالة التوائم المتماثلة 24، في حين بلغ 13 بحالة التوائم الشقيقة. مما عنى بلغة الإحصاء أن 22 بالمئة تقريباً من التباين الذي أظهرته النتائج ارتبط بالفعل بعامل جيني. هناك أيضاً الدراسة التي أجراها إليوت عام 2002م، وهي دراسة امتدت لسنوات عشر على 281 من المشاركين. حيث أعاد إليوت التجربة مرة أخرى بنهاية هذه المدة على المجموعة نفسها، ليجد أن معامل الارتباط بلغ 77، مما يمثل دلالة أخرى على ثبات مسلك التسويف عند هؤلاء، ويُرجح كونه خصلة شخصية.
لكن ذلك لا يعني أن التسويف كخصلة يأتي بمعزل عن خصال شخصية أخرى. فلقد توصل شوينبورج بالدراسة التي أجراها عام 2004م إلى مايلي: تدل أبحاث عدة، على وجود مجموعة بعينها من الخصال ترتبط ببعضها البعض. هذه الخصال هي التسويف، وضعف مقاومة الإغراءات اللحظية، والافتقار إلى المثابرة، والافتقار إلى العمل المنظَّم، وغياب مهارة إدارة الوقت، والعجز عن العمل بمنهجية. ويستخلص شوينبرج قائلاً: فإذا نظر المرء إلى هذه الكوكبة من الخصال مجتمعة، لا يجد مبرراً لاعتبار التسويف خصلة وُجدت من تلقائها. بل الأجدى أن يعطي مجموعة الخصال هذه اسماً جامعاً، هو «الافتقار» إلى التحكم في الذات.
طبيعة المهمة
يدور التسويف حول تفضيل سلوك ما أو مهمة ما على غيرها طوعاً. طبقاً لهذا، ليس بوسع المرء تأجيل واجباته كافة، وإنما بوسعه تفضيل البعض منها على الآخر. وما لم تأت تفضيلاته عشوائية، تتدخل طبيعة المهمة التي بين يديه لتؤثر بردة فعله إزاءها. لقد أجاب خمسون بالمائة ممن شملتهم الدراسة التي أجراها برودي عام 1980م، بأن سبب تسويفهم القيام بمهمة ما، هو طبيعة هذه المهمة. فإذا ما تناولنا هذه الطبيعة بالتحليل، لوجدناها تنقسم إلى مكونين: الأول هو توقيت المكافأة أو العقوبة على إنجازها، والثاني هو مقدار تنفيرها أو جاذبيتها.
أولاً: توقيت المكافأة أو العقوبة
يعمد المرء إلى التسويف كلما ابتعد الموعد النهائي لإنجاز واجب ما. سبب ذلك ظاهرة تـُعرف علمياً بـ «التأخير الزماني» (temporal delay). فكلما اقترب الفرد من نيل مكافأة (ولو كانت شعوراً بالإنجاز)، كلما تعاظمت هذه المكافأة بعينه وقلَّ بالتالي احتمال تسويفه لنيلها. ومن أجل وضع هذه الظاهرة في صورة أكثر تحديداً، صاغ العالم بيير ستيل معادلة رياضية، تحدد مقدار رغبة الفرد في إتمام مهمة ما إزاءه. ولقد كان من بين المحددات التي اشتملت عليها معادلة ستيل، بُعد أو قرب توقيت المكافأة من توقيت إنجاز المهمة على النحو التالي:
(U=(E*V)/(P*V
حيث تشير U إلى مجمل رغبة المرء في القيام بهذه المهمة، وE تشير إلى التوقع، وP تشير إلى حساسية الفرد للتأخير في العقوبة أو المثوبة، وأخيراً تشير V إلى مقدار الفصل الزمني بين أداء المهمة وتلقي هذه العقوبة أو المثوبة. وكما يظهر من مقام المعادلة، تزداد جاذبية المهمة كلما قصر الفاصل الزمني ما بين أدائها وتلقي العقوبة (أو المكافأة) عليها.
في عام 2004م، ضرب باري ريتشموند وزملاؤه البحاثة بالمعهد القومي للصحة العقلية، بجذور البحث لعمقٍ أبعد من ستيل. حيث قام ريتشموند وفـريقه ابتداءً بتدريب القردة على ترك ذراع أداة، عند تحول بقعة على شاشة الحاسوب المواجهة من اللون الأحمر إلى الأخضر. فكان كلما تركت القردة الذراع عند العلامة الصائبة، ازداد قضيب رمادي اللون بالشاشة نفسها توهجاً، منبهاً القردة إلى اقترابها من نيل المكافأة (وهي هنا عبارة عن العصير). في المراحل المبكرة من التجربة، شابهت القردة مسلك البشر في التراخي والتأجيل، مرتكبة أخطاء عديدة. ولكن مع اقترابها من نيل المكافأة (بزيادة توهج القضيب الرمادي)، حافظت على السلوك المرغوب وقللت من أخطائها. ولكن السؤال هنا هو: هل يختل هذا القالب السلوكي الطبيعي بتواري قرب المكافأة؟
تقدَّم ريتشموند وفريقه خطوة أخرى، حين عمدوا إلى إعادة التجربة، بعد التحكم في الدوبامين (وهو ناقل عصبي شك ريتشموند ورفاقه بكونه المسؤول عن نقل توقع المكافأة). كان الغرض من هذا معرفة أثر إخفاء توقيت المكافأة، على القالب السلوكي للقردة. فاستخدم إدوارد جينِّز مثبطاً جزيئياً يطلق عليه DNA antisense لتثـبيط مستقبلات الدوبامين بمنطقة القشـــرة الأنفية (Rhinal cortex) بـمخ القردة، المسؤولة عن اقتران الدلائل البصرية بحدوث المكافأة، وبالتالي غياب المثير المنبه على اقترابها. نجح جينز في عملية التثبيط إلى الحد الذي تلاشى عنده هذا الاقتران. فنتج عن هذا عجز القردة عن توقع أي المحاولات ستعود عليها بالمكافأة كما بالسابق، وبعبارة ريتشموند: «ظلت القردة تبذل قُصارى جهدها طيلة الوقت، كما لو كانت على بعد خطوة من جائزتها».
مقدار التنفير بالمهمة
هناك ملصق يصوِّر دباً قطبياً ضخماً متكئاً بوداعة على طبقة من الثلج. تحت هذا الملصق عبارة تقول: كلما تملكني شعور بالإقدام على فعل شيء، تمددت بهدوء حتى يبارحني هذا الشعور. اختار الدكتور تيموثي كويك (الحاصل على الدكتوراة من جامعة أونتاريو بكندا)، هذه اللوحة ليصور بها زفرة المسوف المحبط، المثبط، العاجز عن المواكبة، المغلول بالاكتئاب، والذي لايفتأ يكرر بلامبالاة « لم أعد أهتم».
يشير عنواننا إلى المهام التي تفتقر للبهجة، وبالتالي إمكان توقُع رِدة فعل المسوف تجاهها. فكلما اشتد تنفير المهمة التي بين يدي المرء، ماطل وسوَّف إنجازها حسبما تقول الأبحاث. والعكس بالعكس كذلك، لكن ذلك يتطلب وجود القاعدة السابقة، قاعدة توقيت المكافأة. وإلا عمد الفـرد إلى تجنب المهمة بالكلية، وليس تأجيلها فحسب.
يُعرِّف جوزيف فيري ودايان تريس التسويف بأنه «ضآلة الوقت المكرس للاستعداد، قبل الشروع في المهمة المطلوبة». وهما أجريا سوياً دراسة -وإن اتسمت بالملمح العلمي- لم تخل من طرافة. حيث اختبرا مجموعتين مـن الناس، ضمت أولاهما 40 امرأة و19 رجلاً، وضمت الثانية 48 امرأة و40 رجلاً، صنفوا أنفسهم مسوفين مزمنين بدرجات متفاوتة. في المرة الأولى، طـُلب من المجموعة المشاركة اجتياز اختبار حسابي مدته 15 دقيقة، ليجري تقييم أدائهم فيه. مع منحهم حرية الاختيار بين المبادرة بحل الاختبار أو البدء بأوجه نشاط أخرى (ترفيهية)، كان منها على سبيل المثال ألعاب الفيديو، وحل الكلمات المتقاطعة. فكان أن قضى المشاركون في التجربة الأولى نحو تسع دقائق (حوالي 60 بالمئة من الوقت المخصص) في التسويف، من خلال ممارسة جميع أوجه النشاط عدا الاختبار الحسابي. أما في التجربة الثانية، فلم يتغير من الاختبار الحسابي شيء، عدا تصنيفه هذه المرة ضمن النشاط الترفيهي. وهنا، لم يختلف أداء المسوفين المزمنين عن غـير المسوفين. فإذا استعرضنا نتيجة التجربتين، لوجدنا أنه حين أُدرج الاختبار بخانة التقييم المهم للمهارات، قضى المسوفون المزمنون مقارنة (بغيرهم) وقـتاً أطول مع النشاط الترفيهي، ووقتاً أقل في التحضير للاختبار. كان الاختبار ليكشف عن قدراتهم، وهي صفة بغاية التنفير طبقاً لتوصيف الباحثين نفسهما.
نود هنا وقبل الانتقال إلى النقطة التالية، لفت القارئ إلى وجود نوعين من التسويف يندرجان تحت بند طبيعة المهمة. أولهما هو التسويف في اتخاذ القرار، وثانيهما هو التسويف في القيام بالفعل. فكلما اتصفت المهمة بتقييد استقلالية الفرد، وبتميع المغزى من أدائها وضآلة الفائدة المرتدة عنها، ازداد رجحان التسويف في اتخاذ قرار بشأنها. وفي المقابل، كلما اتصفت المهمة بالإحباط والاستياء والملل على وجه الخصوص، تصاغر احتمال القيام بها. بعبارة أخرى، كلما ازدادت مشقتها وارتفعت وتيرة الإملال بها، رجُحَ تسويف الفرد إياها.
التخلص من التسويف
يزكي الباحثون من سبل التخلص من هذا الأمر غير الحميد ما يأتي:
•
حدد «ماذا» و«متى»: ينصح بيتر جولفيتزر (العالِمْ النفساني والأستاذ بجامعتي كونستانز في ألمانيا ونيويورك في أمريكا)، المسوفين بوضع جدول زماني ومكاني لإنجاز واجباتهم، بدلاً من وضع أهداف غامضة مثل «سأتخلص من سمنتي الزائدة» . بعبارة أخرى أن يحدد المرء الخطوات المطلوبة لتحقيق هذا الهدف، مع ربطها بالأطر الزمنية. وهكذا يصير هدفاً مبهماً كالسابق «سأذهب إلى صالة اللياقة البدنية، وسأفعل ذلك غداً في السابعة والنصف صباحاً». لقد وجد عالم النفس شين أوينس من جامعة هافسترا (2008)، أن القيام بهذا ضاعف احتمال تحقيق الهدف المرصود ثمانية أضعاف.
•
امنح نفسك مكافأة على إنجازك ما خططت له.
•
انظر ملياً في العواقب: في حالة السيد ريموند، كان الجزء الأصعب هو الإجابة عن أسئلة الاختبار. كان سبب ذلك هو خوف ريموند من الإخبار عن نفسه، وبالتالي الظهور بمظهر الأخرق أمام الطبيب. فأعانه هذا الأخير بأن طلب منه أن يختار أقل الشرَّين، إما الإجابة عن الاختبار وبالتالي المخاطرة بالإفصاح عن مثالبه، أو تلافي المهام العسيرة ومن ثم فقدان وظيفته. عندما صاغ الطبيب الأمر على هذا النحو، يسَّرَ على ريموند سلوك الطريق الأشق إذ قبعت المكافأة بانتظاره بآخره وجنَّبه مرارة الفشل. وبدلاً من الانتهاء مطروداً من عمله، صار ريموند مثالاً لأصحاب الأداء المتفوق بمؤسسته.
•
تخلص من الخوف المقوِض للطاقات: يرتبط التسويف بالخوف على جودة العمل المؤدى، والخوف من ردود الفعل تجاهه. فإذا راودك مثل هذا الخاطر، فتذكر أن أداءك لعمل به عيوب يفضُلُ كثيراً عدم قيامك بأي عمل على الإطلاق.
•
ابدأ وحسب: تلك كانت النصيحة الأخيرة للعالم بيتشل، والتي أردنا بها اختتام هذا القسم. فلقد رأى بيتشل وبعد تمحيص، أن المرء قد يبالغ في تقدير بشاعة المهمة عما هي عليه في الحقيقة. وفي سبيل إثباته لذلك، أجرى عام 2000م تجربة على 45 فرداً. حيث داوم على الاتصال بهم أربعين مرة على مدار خمسة أيام، لتقصي حالتهم المزاجية وتحديد مقدار تسويفهم لمهمة أوكلها إليهم وحدد لإتمامها توقيتاً نهائياً. يقول: وجدنا أن نظرة الذين انخرطوا بالمهمة التي سبق وأن سوفوها، قد تغيرت بصورة عظيمة. بل ووجدنا أنهم -في كثير من الأحيان- قد استمتعوا بأدائها.
بنهاية بحثه حول التسويف، اختتمه العالم بيير ستيل بالقول التالي: «يمدنا التاريخ بشواهد على التسويف تمتد لثلاثة آلافٍ من السنين. فلقد تناولته بعض أولى الكتابات المكتشفة، وبعض المخطوطات التي أوردت إرشادات للزراع، وبعض السجلات العسكرية الإغريقية والرومانية، وكذلك مخطوطات عقدية غابرة. أما إن استشرفت المستقبل، فلا يلوح لي اختفاء التسويف قريباً، بل على النقيض. فالعثرات المرتبطة به وبالافتقار للتحكم في النفس وغير ذلك في ازدياد. وهذا ما يرجح ازدياد تسويف المرء واجباته.
علم نفس المماطلة..
ماذا يقول؟
هناك عدد لا يصدق من الناس الذين يعانون نفسياً من جراء مماطلتهم في إنجاز المهمات المفيدة لهم. فيؤجِّلون تنفيذ واجباتهم إلى اللحظة الأخيرة أو يهملونها تماماً. ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي يفترض أنها أكثر المجتمعات ولعاً بالإنجاز وتوفير الوقت، أقرَّ 46 بالمئة من أفراد إحدى العينات أن للمماطلة تأثيراً سلبياً كبيراً على سعادتهم. فيما وجدت دراسة أخرى أن 80 إلى 95 بالمئة من طلبة الجامعة يؤجِّلون واجباتهم الدراسية على أمل تحقيقها بصورة أفضل «فيما بعد»، وأن 40 بالمئة من الأمريكيين دفعوا 473 مليون دولار ضرائب إضافية في العام 2002م بسبب مماطلتهم بالدفع، ولم يكن تأخرهم بسبب عدم القدرة على الدفع، بل بسبب التأجيل..
تأسس حديثاً علم نفس المماطلة (Procrastination Psychology) ليهتم بدراسة هذه الصفة الشخصية التي تقلِّل من نوعية حياة بعض الناس، وتحليلها وفهم جذورها النفسية. وقد خطا هذا العلم الحديث الخطوة الأولى نحو التعاطف مع المبتلين بالمماطلة وتحفيز استراتيجيات سلوكية لديهم تعينهم على هزيمة هذه العادة المضرة بمصالحهم.
فالمماطلة عادة سلوكية يمكن أن تتكون لدى أي شخص بغض النظر عن عمره أو مهنته أو منزلته الاجتماعية، يتجنب الفرد فيها طوعاً القيام بأعمال معيَّنة أو إيجاد الأعذار لتأجيلها بالرغم من توقعه لنتائج سلبية لهذا التأجيل، مما يسبب له ضرراً أو حرجاً، كعقوبات مالية أو معاناة صحية أو صعوبات مهنية أو اختلال في علاقاته بالآخرين أو شعور بالإحباط والقلق فضلاً عن هدر الوقت.
أما على المستوى الحضاري، فتشكل المماطلة سلوكاً جمعياً لا عقلانياً يمكن أن تتسم به مجتمعات بعينها. فهدر الوقت وتأجيل عمل اليوم إلى غد، وانتظار معجزات لا تأتي، هي من بين أهم سمات الشخصية الاجتماعية في البلدان النامية المولعة بالانتظار وتجنب المواجهة مع التحديات المستجدة.
عواملها النفسية والاجتماعية
وقد توصلت بعض الأبحاث مؤخراً إلى أن الجذور البيولوجية للمماطلة تكمن في الفص ما قبل الجبهي للقشرة الدماغية. فحينما يحدث ضرر أو انخفاض في نشاط هذا الفص، تنخفض قدرة الفرد على تنظيم الأفكار ويضعف انتباهه وتزداد المماطلة لديه. إلا أن المماطلة تظل في جزئها الأكبر نتيجةً سلوكية لتفاعل منظومة معقَّدة من العوامل النفسية الاجتماعية المؤثرة في شخصية الفرد، فيما يأتي بعضها:
•
تجنب الفشل والخوف منه: قد تراود الشخص شكوك حول كيفية قيامه بالمهمة أو الأخطاء والنتائج السلبية المحتملة عنها.
•
سيكولوجية اللحظة الأخيرة: لا يستطيع الكثيرون تقدير الوقت الضروري اللازم لإنجاز مهمتهم، فيظلون يوهمون أنفسهم بوجود متسع من الوقت لديهم حتى ينفد الوقت فعلاً.
•
انتظار المزاج الطيب: يميل البعض إلى المماطلة لاعتقاده بأن عليه انتظاراللحظة المناسبة التي يتمتع فيها بمزاج طيب. فتكون النتيجة هدراً حقيقياً للوقت.
•
اضطراب قصور الانتباه: قد يعاني البعض من هذا الاضطراب فيركز انتباهه على مهمة واحدة فقط لمدة طويلة. ولا يستطيع أداء عدة مهمات في وقت واحد.
•
عدم جاذبية المهمة: يفضل البعض (وخصوصاً الطلبة) أن يؤجلوا القيام بمهماتهم إذا كانوا يرونها مملة بالرغم من إقرارهم بأهميتها.
•
التردد: أي عدم قدرة الفرد على الحسم والبدء بالمهمة المطلوبة، فقد ينفق وقتاً طويلاً في مناقشة الاحتمالات المتاحة أمامه لكيفية إنجازها حتى يفوت الأوان.
•
الاندفاعية: يميل الأشخاص الاندفاعيون إلى المماطلة بسبب سهولة إغوائهم بترك المهمة التي بين أيديهم والاندفاع نحو نشاط آخر جذاب أكثر من المهمة.
تمرينات سلوكية مفيدة
ومع إن علاج المماطلة يتطلب من الاختصاصي النفسي إحاطة شاملة بتفاصيل كل حالة على حدة، إلا أنه بالإمكان تقديم نصائح عامة بعدد من التمرينات السلوكية التي يمكن أن تكون لها فائدة ملحوظة:
•
إن علاج المماطلة هو أن تبدأ فوراً. دوِّنْ لديك عناوين المهمات التي تتطلب الإنجاز، وموعد البدء بها والانتهاء منها والمدة المطلوبة لإنجازها. وحينما يحين الموعد، اشرع فوراً بها بصرف النظر عن مدى جودة الأداء، ولا تنتحل لنفسك أي أعذار تبرر تأجيلك لها. وحالما تنجزها كافئ نفسك بشيء تحبه.
•
اسأل نفسك لماذا تتجنب القيام بتلك المهمة التي تماطل بشأنها؟ هل هنالك ما يقلقك منها؟ هل لديك مشكلة ذات طابع انفعالي مع أحد ما؟ هل تريد إيذاء نفسك؟ حالما تطرح على نفسك هذه الأسئلة، فإنك تبدأ بالبحث عن الأجوبة التي تعينك في تجنب المماطلة.
•
ابتعد عن المهمات ذات الطابع الغامض غير المحدد كقولك: «أريد أن ينخفض وزني»، واستبدلها بمهمة محددة إجرائياً وزمنياً كقولك لنفسك: «سأبدأ غداً الساعة العاشرة صباحاً بتمارين اللياقة».
إذا كانت المماطلة هي «فن التواصل مع الأمس» كما يقول الأديب «دون ماركوس»، فإن الانتصار عليها، فردياً وحضارياً، يعني ببساطة ممارسةَ فن التواصل مع المستقبل.