تقتصر صورة الملح في أذهان الكثيرين على أنه ذلك المتمم الغذائي الذي نكتفي منه برشة صغيرة فوق الطعام. ولكن كتاباً صدر مؤخراً تناول التاريخ المدهش لهذه المادة التي دخلت النسيج الثقافي والاهتمام اليومي لكل شعوب العالم منذ قديم الزمان. الدكتور أحمد مغربي يتناول هنا كتاب تاريخ الملح في العالم لمؤلفه مارك كير لانسكي، في حين يتناول الزميل أمين نجيب آخر ما توصل إليه العلم في دراسته لفوائد الـمــلــح ومـضـــارّه عـلــى صحة الإنسان.
تاريخ الملح
كيف يمكن وصف العلاقة بين
الإنسان والملح؟ الجواب ليس سهلاً
أحمد مغربي
فلو بدأنا بالأشياء الصغيرة لوجدنا أن الناس في بلداننا العربية يعتبرون الملح رابط صداقة، فيقولون بيننا عيش وملح أو خبز وملح ، والمصريون يُقَدّسونَ العيش والملح ، وفي بلاد الشام يقال دعيس ملح (أي من يدوس على الملح) لوصف شخص ناكر للجميل ولا يقدر قيمة الأشياء الجيدة، ويدوس على تلك البلورات البيض. وفي اللغة العربية يعني أمراً آخر، فهو إشارة إلى الجمال بالاستعارة، فيقال: وجه مليح، وتوصف الجميلة بأنها مليحة، ويقال إن فلاناً مالح فلاناً، أي أنه عاشره وصادقه، فلا يصبه منه سوءاً.
تصلح هذه الصور مدخلاً لكتاب الأمريكي مارك كيرلانسكي تاريخ الملح في العالم الصادر عن دار بنغوين بونتام . والحال، أن كيرلانسكي صحافي نيويوركي، متخصص في الكتابة عن الأطعمة. ولا يكتفي من الأكل بالشبع والتذوق، بل يجعل الفم مدخلاً لفهم سوسيولوجي للطعام ومكوناته. اعتاد كيرلانسكي أن يتتبع تاريخ أطعمة البشر وعلاقتها بمجتمعاتهم وتاريخهم ومفاهيمهم. وتنتمي كتاباته إلى ثقافة الحياة اليومية وتحليلها. وتشيع هذه الكتابة في الغرب عموماً، وخصوصاً أوروبا وأمريكا.
أما كيرلانسكي، فقد سبق له أن ألّف كتاباً عنوانه القُد: السمكة التي غيَّرت العالم . نال عنه جائزة جايمس بيرد للتفوق في الكتابة عن الأطعمة. يتناول ذلك الكتاب، الذي صدر في العام 1999م، تاريخ سمكة القُد، التي تتواجد في شمال الأطلسي، والتي يرى أنها السبب الذي جذب بحّارة أوروبا للصيد في الأطلسي، وما ترتب على ذلك من علاقات بين الدول الأوروبية أولاً، ثم بينها وبين العالم الجديد، أي الأمريكتين.
تاريخ في صورة
يلفت في الكتاب الذي يقع في 484 صفحة تصميم غلافه الخارجي الذي صّمم على شكل صفحة سوداء كتب عليها كلمة Salt، أي ملح، باللون الأبيض المُمَيَّز لهذه المادة. وفي منتصف الغلاف فتحة على شكل قنينة ملح. وبعد الغلاف مباشرة، هناك صفحة مؤلفة من مجموعة صُوَر (كولاج)، تُلَخّص محاور الكتاب، وتوجز وجهة نظر صاحبه في تاريخ الملح. يتوسط ذلك الكولاج، صورة كبيرة لجبل ملح ضخم، هو واحد من مجموعة جبال الملح في هضبة الألب، وهي من المصادر الأولى التي عرفها البشر للملح. والحال أن تلك الجبال أطلقت تجارة امتدت بين أوروبا وآسيا، في عهود قديمة جداً. يجاور الجبل صورة للملاّحات البحرية، التي حَوّلت أنظار البشر من جبال الملح إلى البحر, باعتباره مصدراً لا ينضب للمادة البيضاء. ومع بروز دور السواحل في صناعة الملح، تغيرت محاور التجارة بهذه المادة، التي لا يستطيع البشر، ولا الحيوانات، العيش من دونها. أدى هذا الأمر إلى تغيير في اهتمامات الدول وتحالفاتها وسياساتها، وكذلك طرق سريان الثروات في الطرق الاستراتيجية التي تربط بقاع الأرض وما إلى ذلك. فوق رسم الجبل، ثمة صورة لقبائل الطوارق، التي يدخل البحث عن الملح وشرائه من مدن سواحل المغرب العربي, في القلب من عيشها اليومي، وكذلك من تاريخها وروابطها مع محيطها. يلفت في الصورة إلى أنها التُقطت بعد دخول الاحتلال الغربي للمغرب العربي. تظهر فيها جمال الطوارق وهي تجر عربات معدنية فوق السكك الحديدية، التي مدّتها جيوش الغرب للربط بين الساحل والصحراء المديدة.
إنها صورة كثيفة في تعبيرها ورمزيتها. ففي أسفل الصفحة، صورة لمائدة تكتظ بالمآكل التي شكلت تاريخياً مصادر الملح للإنسان، مثل لحوم الدواجن، وأنواع الخبز والأسماك المملحة. وتظهر على المائدة عينها زجاجات الملح، التي تعتبر الشكل الأشد نقاءً والأقرب إلى الصورة الحديثة لتوافر الملح بسهولة، بعد تاريخ طويل من المعاناة الكبيرة في الحصول على تلك المادة. فيكاد هذا الكولاج أن يحكي، بلغة الصورة، القصة التي يرويها الكتاب عن الملح في تاريخ العالم.
الصخرة التي نأكلها في الأساطير
يستهل الكتاب بوصف الملح بأنه: الصخرة الوحيدة التي نأكلها… لقد أسهم بقسط مدهش في صناعة تاريخ الجنس البشري .
ويعرض لدراسة نشرت في العام 1912م، للاختصاصي النفساني الإنجليزي آرنست جونز، وهو من أصدقاء سيغموند فرويد، عن الهوس الإنساني بالملح. تبدأ تلك الدراسة بالتذكير بأن الطبيب العربي الشهير ابن سينا، دأب على إعطاء حجر ملح لضيوفه، الذين اعتادوا جميعاً على تذوقها! ويورد جونز أن البشر اعتادوا إعطاء الملح قيمة كبرى تفوق مزاياه الطبيعية… فقد أطلق هوميروس على الملح اسم المادة المقدسة … وبإمكاننا أن نلاحظ بسهولة الأهمية المعطاة للملح في الطقوس الوثنية وحتى في أعمال السحر… مما يدل على وجود افتتان إنساني عام حيال الملح .
ومن أساطير الملح، يمكن ذكر الاعتقاد الذي عَمّ أوروبا، في عصر النهضة والرحلات البحرية، بأن وجود الفئران في سفن الملح إنما يعود إلى تكاثرها في الملح. وفي اللغة الرومانية، يسمون الرجل العاشق بأنه مُمَلَّح Salax.
ويمتلئ تاريخ الشعوب بالممارسات الطقوسية المرتبطة بالملح بدءاً بالهنود الحمر في قبيلة بيما، الذين إذا قام أحدهم بقتل رجل من قبيلة الأباتشي فعليه أن يمتنع هو وزوجته عن تناول الملح لمدة ثلاثة أسابيع، وصولاً إلى الإنجليز الذين كانوا، بعد احتلالهم للهند، يفرضون القسم على الملح شرطاً لقبول أي هندي في الجيش الإمبراطوري.
وفي العام 1920م، صدر كتيب عن شركة ملح أمريكية في ميشيغن عنوانه مئة استعمال واستعمال لجوهرة الملح البيضاء . عدَّدَ الكتيب أوجه استعمال الملح، والتي تتضمن الاحتفاظ باللون البرّاق في الخضار المسلوقة, وصنع الآيس كريم، وإعداد أنواع البسكويت، وإزالة الصدأ، وتنظيف الأثاث الخشبي, وإزالة البقع من الملابس، وصنع أنواع خاصة من الشمع، وحفظ نضارة الأزهار بعد قطافها، وعلاج آلام الحلق والأذن وما إلى ذلك. والحال أن الاستخدامات الحديثة للملح تتضمن 14 ألف استخدام، تشمل صناعة الأدوية, وإزالة الجليد عن الطرقات، وتحضير الأسمدة، وصنع أنواع الحساء، والأطعمة المعلبة، وتجفيف الملابس وغيرها.
الملح الغالي
هل يبدو الملح متوافراً بكثرة، وبأسعار رخيصة؟ يجدر بنا ألاّ ننخدع بعيشنا الراهن. فمنذ بدء التاريخ, ووصولاً إلى القرن التاسع عشر، كان الملح هو المادة الأعز، والتي بذل الإنسان جهوداً مريرة للحصول عليها على مر العصور.
لعل أول استخدام تاريخي لافت، وكثيف في رمزيته، هو استعمال الفراعنة القدماء للملح في التحنيط. فقد جاء اصطناع المومياءات في إطار اعتقادهم بضرورة حفظ الجسد بانتظار بعثه في حياة أخرى. وانطلاقاً من هذه المعتقدات الوثنية، فإن قدرة الملح على حفظ الجسم أعطته هالة أسطورية لا يصعب أبداً فهم أبعادها. وبمعنى ما، فإن الفراعنة نظروا إلى الملح باعتباره مساوياً للحياة نفسها. وفي سياق غير منفصل، استعمل الطب الفرعوني الملح في علاج الجروح وشفائها. وكانوا أول من حول أمعاء الحيوانات إلى خيوط جراحية باستخدام الملح.
وأسهمت قدرة الملح في حفظ الأشياء في مكانته. ففي العصور الوسطى، عمد المزارعون الأوروبيون إلى خلط محاصيل القمح بالكثير من الملح، لكي يجنبوه الإصابة بالفطريات السامة.
وحتى طريقة رش الملح، داخلتها أساطير شتّى. ففي أوروبا، ساد اعتقاد في القرن السادس عشر بأن الطريقة المثلى لرش الملح أثناء تناول الطعام، تتمثل في استخدام الإصبعين الأوسطين في اليدين كلتيهما, من قبل الرجل وليس المرأة. فإذا استعمل الرجل إبهامه، فإن أطفاله سيموتون، وفي حال استخدامه البنصر، فإنه يصير فقيراً، واستخدام السبابة يؤدي به إلى ارتكاب الجرائم! يصعب التفكير في أية مادة أخرى نالت أي نصيب موازٍ من الأهمية في فكر الإنسان ومعيشته بأكثر مما فعل الملح.
وثمة أمر تتشارك فيه شعوب العالم. ففي كل مكان استقر فيه البشر، وجعلوا من الزراعة والرعي مصدراً لعيشهم، تبرز الحاجة فوراً إلى إدخال الملح في الطعام. فقبل ثلاثة عشر ألف سنة، انتهى آخر عصر جليدي، وشرع البشر في الاستقرار في أماكن عديدة. وقبل أحد عشر ألف سنة، ابتدأ تدجين المواشي في العراق، أحد أقدم مهود الحضارة الإنسانية. وسرعان ما ظهرت الأطعمة المكونة من الحبوب ولحوم الحيوانات والخضار، وكلها من مصادر الملح. وبرز مصدر للحم غير الصيد والقنص، أي ذبح الماشية المدجنة. واستخدم الملح في حفظ لحوم تلك الحيوانات, وكذلك في طهيها، مما زاد في قيمته العملية والرمزية في آنٍ معاً.
في العام 1766م، وضع المفكر الاقتصادي الشهير آدم سميث، المُنَظّر الكبير للرأسمالية، كتابه المرجعي تاريخ الأمم وثروات الشعوب . في ذلك الكتاب، يتحدث سميث عن الأشياء وقيمتها، فيرى أن السعر الفعلي لأي شيء، أي ما يعطيه كلفته الفعلية، يتمثل في العناء والمعاناة التي يتكبدها الإنسان في الحصول عليه . ولعل هذا الوصف ينطبق على الملح بشدة. ولعل جزءاً كبيراً من الحظوة التي نالها الملح في مخيلات البشر، إنما يرجع إلى عناء الحصول عليه أصلاً.
يبدأ تاريخ جني الملح في الصين مع الإمبراطور الأسطوري هويانغدي، الذي شهد عهده ابتكار الكتابة والأسلحة والمواصلات. فقبل ثمانية آلاف سنة، حصل الصينيون على الملح من بحيرات داخلية في مقاطعة شانكسي الشمالية. ففي كل صيف، كان الناس ينتظرون جفافها من المياه، ليكشطوا الملح، الذي يظهر في قيعانها. وتشير مدونات صينية إلى أن تجارة الملح، بعد استخراجه من البحيرات الداخلية كما من مدن الساحل الصيني، ابتدأت في عهد سلالة كزاي الإمبراطورية، التي حكمت البلاد قبل نحو أربعة آلاف ومئتي سنة. وتصف تلك المدونات أن ملح البحار استخرج بغلي مائه في أوعية فخارية كبيرة، وتجميع المادة البيضاء المترسبة. لقد دون الصينيون هذه الطريقة في وثائق كتبت قبل ألفين وثمانمئة سنة. وربما عاد الفضل إلى تلك المدونات في انتقال هذه الطريقة في الحصول على الملح، إلى القارة الأوروبية، بعد ألف سنة من كتابتها!
وبعد كل هذا العناء في الحصول على المادة البيضاء، لا يصعب فهم نبذ التقاليد الصينية القديمة لرش الملح على الطعام باليد. واقتصر استخدامه على إضافته إلى الأطعمة أثناء طهيها أو حفظها أو لصنع المخللات. والحال أن هذه الأخيرة كانت موضعاً لتجارة ازدهرت لفترات طويلة في بقاع الأرض، مع السمك المملح، كجزء من تجارة البلورات البيض.
ولعل الوجه الأكثر إثارة في الجغرافيا التاريخية للملح، كما يرسمها الكتاب، تتمثل في تعرّف الأقوام الأوروبية القديمة على أن بعضاً من جبال الألب لم يكن أبيض بفعل الثلج، وإنما لأنها جبال من الملح. فقد انتشرت مناجم استخراج المادة البيضاء على أقدام تلك الجبال. وظهرت مدن تحمل اسم الملح مثل سالزبورغ النمساوية و هالشتات الألمانية، ويعني اسميهما شيئاً واحداً: مدينة الملح . وخاضت شعوب أوروبية كثيرة في هذه التجارة. وامتدت طرق تجارتها عبر أوروبا ومروراً بالشرق الأوسط، لتكمل دربها إلى الصين. لقد امتدت طرق الملح عبر العالم لتكون أول طرق لمرور الثروات وتبادلها بين شعوب الأرض.
ملاّحة السعودية.. ملاّحة فلسطين..!
ملاّحة السعودية.. ملاّحة فلسطين..!
يبدو أن الملح منح مواقع إنتاجه اسمه.. فهناك قرى التصقت بها مهنة إنتاج الملح . منها الملاّحة ، وهي قرية أثرية تقع على وادي البارد إلى الشمال الغربي من بحيرة الحولة. وإلى الشمال الشرقي من مدينة صفد بفلسطين.
تبلغ مساحة الملاّحة 2168 دونماً، وفي إحصاء عام 1922م بلغ عدد سكانها نحو 700 نسمة، وفي عام 1945م قرابة 900 نسمة. يقع إلى جوار القرية مغارة عرب زبيد في الغرب من بحيرة الحولة وهي مغارة أثرية. وقد تعرّضت القرية إلى اعتداء عام 1948م، وتشريد سكانها، وعلى أراضيها أقيمت مستعمرة (سد اليعزر) عام 1952م. ويقدّر عدد اللاجئين من هذه القرية في عام 1998م بـ 6340 نسمة.
في الطرف الجنوبي الغربي من محافظة القطيف السعودية، قرية اسمها الملاّحة ، تحيط بها النخيل من كل الجهات. وقد اكتسبت القرية الريفية اسمها من الملح الذي كانت تنتجه في الأزمنة الغابرة، وتصدره إلى المدن والقرى القريبة.
وحتى عام 1975م (1395هـ)؛ كانت في القرية مملحتان لإنتاج الملح، تضافان إلى الحرف الزراعية التي عُرف بها سكان القرية. لكن سنوات التنمية التي شهدتها البلاد لم تستثنِ القرية الريفية، بل استبدلت بيوتها الطينية بفلل الخرسانة المسلحة، وأزقتها الضيقة بشوارع حديثة. وتغيرت حدود القرية الصغيرة وتداخلت مع حدود قريتين قريبتين؛ هما: الجش وأم الحمام، لتصبح القرى الثلاث شبه مدينة واحدة..!
وامتدّ التغيير إلى كل شيء في نمط الحياة، وصولاً إلى إلغاء الملح من وعي الجيل الجديد الذي جاء إلى الحياة وهو يحمل شعور الانتماء إلى قرية ارتبط اسمها بمهنة، ولكنه يراها – الآن – اسماً بلا مسمّى..!
الملح
ضروري، مفيد، ضار..
أمين نجيب
يسمى ملح المائدة علمياً صوديوم كلورايد ، لأن جزيئته تتألف من ذرة صوديوم وذرة كلورايد. والمادة المهمة بالنسبة إلى صحة الإنسان هي الصوديوم, وتقول نشرة جامعة هارفارد (عدد يوليو 2003م) إن اسم هذه المادة ربما كان قد تطوّر من الكلمة العربية صداع .
ولكن علينا أن نحذر هنا من إطلاق الأحكام على الملح أو اتهامه بكونه مادة ضارة. فالملح مادة أساسية لسلامة الإنسان وصحته. وهو موجود في كل سوائل الجسم، في الدم والعرق، والبول.. ويمتص الجسم الملح من الأوعية المعوية. وهو المعدن الرئيس للبلازما، المادة الأساسية للدم والسوائل التي تعيش فيها الخلايا. فمن دون صوديوم كافٍ، فإن هذه السوائل تخسر الماء، وتجف متسببة بانخفاض ضغط الدم وفي النهاية الموت.
والملح، أو الملوحة من حواس التذوق الأربع. الحلو والمر والحامض والمالح ويرى بعضهم أنها خمس إذا أضيف نوع ياباني من الملح له طعم خاص وهو Umami الذي يتألف كيميائياً من أحادي صوديوم الغلوتاميت ويتمتع هذا الملح بطعم الملوحة الخاص وانخفاض كمية الصوديوم فيه. وقد بدأ الكثير من شركات الأطعمة اعتماده في منتجاتها. خصوصاً بعدما أصبح شائعاً تخفيض استهلاك الملح لأسباب صحية.
التأثير السلبي على الصحة
منذ القرن التاسع عشر، بدأ الأطباء يلاحظون التأثير السلبي للملح على الصحة وخصوصاً على ضغط الدم. كما لاحظوا، ومنذ ذلك التاريخ، أن تأثيره على بعض الناس يختلف عن تأثيره على البعض الآخر. وكان يقال حينها إن بعض الناس عندهم حساسية للملح . وتوالت بعدها الدراسات المتناقضة في نتائجها. وأهم هذه الدراسات كان سنة 1999م بعنوان المقاربة الغذائية للحد من ارتفاع ضغط الدم (ومختصرها للأهمية DASH) وموجزها أن الوجبة الغذائية الجيدة تكون غنية بالبوتاسيوم والكالسيوم والماغنيزيوم والألياف ويقل فيها الصوديوم.
وبينما حددت الدراسة، التي وافق عليها معظم المؤسسات الطبية الأمريكية ومنها الـ FDA، الحد الأعلى للاستهلاك اليومي للفرد بـ 2400 ملغ من الصوديوم أو 6000 ملغ من ملح المائدة الذي يحتوي على 40 في المئة فقط من الصوديوم)، فإن الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة خفضت المعدل إلى 1500 ملغ من الصوديوم. ولكن في واقع الأمر، ارتفع معدل استهلاك الصوديوم من 2800 ملغ في سنة 1980م، إلى 3000 ملغ في سنة 1990م، إلى 3300 ملغ في سنة 2000م، ويعتقد الكثير من الباحثين أن هذه الأرقام غير صحيحة، وهي في الواقع أعلى، وربما تكون بحدود 4000 ملغ. خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستهلاك المتزايد للأطعمة الجاهزة والتي تحتوي على نسبة عالية من الصوديوم. فوجبة عادية في مطعم صيني مثلاً من القريدس مع الصلصة بالثوم تحتوي على 3000 ملغ من الصوديوم. أي أعلى من المعدل المسموح به لـ 24 ساعة.
ويقول بعض الباحثين شارحاً كيفية تأثير الملح على ضغط الدم إن للجسم آلية معينة لتوازن السوائل والأملاح. فعندما يزداد معدل الملح يطلب الجسم المزيد من الماء لإقامة التوازن، مما يزيد حجم السوائل و يشكّل الأمر ضغطاً إضافياً على القلب لدفع هذه السوائل, مما ينتج عنه ارتفاع في الضغط.
وقد أجرى الباحثون اختبارات عديدة على شعوب من أثنيات مختلفة للتأكد من علاقة تناول الملح وارتفاع ضغط الدم. فقبائل اليانوماني في البرازيل مثلاً، يتناولون أقل من 100 ملغ في اليوم كمعدل عام وكان معدل ضغط الدم 61/96. أي أنه مثالي. لكن باحثين آخرين انتقدوا النتيجة، وادعوا أن طريقة عيشهم البدائية هي السبب في هذه النتيجة. ولكن أجريت أبحاث على قبائل الـقشعقاي في جنوب إيران الذين يتناولون ما معدله 4500 ملغ من الملح في اليوم (وهذا هو تقريباً المعدل نفسه في الولايات المتحدة)، وكانت النتيجة أن معدل ارتفاع ضغط الدم هو حوالي 18 في المئة (أي نفس النسبة أيضاً في الولايات المتحدة).
وبينما يستمر الجدال في الأوساط الطبية حول تأثير الملح على الصحة، فإن هناك إجماعاً على أن مرضى القلب وضغط الدم والكلى يجب أن يخفضوا استهلاك الملح في طعامهم. وقد اختصرت كل ذلك مجلة JAMA وهي مجلة جمعية الطب الأمريكية واسعة الانتشار في الأوساط الطبية في عددها الصادر في فبراير 2004م بالقول إن الملح وهو مركب كيماوي بسيط تأثيره على ضغط الدم لا يزال غير متفق عليه . رغم ذلك فإن المؤسسة الطبية The Institute of Medicine توصي بشدة بتخفيض تناول الملح .