بينما يتردد في أوساط النقاد التشكيليين خوفهم من موت اللوحة المسندية أو ما يقال عنها «الفن الصالوني» أمام تشكيلات الفنانين التجريبيين، وتراجع هذا الفن الصالوني في البينالات العالمية إلاّ أن حسين نشوان يؤطر اللوحة بقراءة في نتاج لعدد من الفنانات العربيات.
المرأة.. المرآة
المرآة التي تشبه اللوحة البيضاء تتيح المشاهدة المباشرة، والحوار، ورؤية الذات بالاقتراب والابتعاد، والتعري الذي يكشف الذات بلا مزينات، أو زخرفات.. ويلعب قناع المرآة دور الحلم، والكشف عن خصائص المرايا وأنواعها وانعكاساتها على الذات والآخرين، كما تكشف الداخل بإيحاء الخارج، وتتيح للعمل جماليات التكثيف والاختزال والإقلاب حسب خصائص المرايا، وأحياناً جماليات القبح والتشوه كمختبر كاشف للواقع، وسابر للأعماق النفس.
المرأة.. النافذة
قناع النافذة في اللوحة، هو بعد تقني ينفتح على الإطار لإسقاط الضوء وإدخال الهواء والاتصال بالعالم.. قناع يتمثل فكرة الحرية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى التعبير وفق أسلوب المدرسة التجريدية عند الفنانة المرأة لنقل مشاعرها وأفكارها الغامضة أحياناً، وتثريها بعدد من الترميزات لتشكل مفتاحاً ومداخل للوحة.
في الوقت الذي يرجع الحداثيون نشأة اللوحة إلى ظهور اللوحة المسندية.. التي تُعرف باللوحة الزيتية أو الفن الصالوني، فإن الدلائل تشير إلى خلاف ذلك. فاللوحة قد دخلت البلاد العربية خلال النشاط الاستشراقي وما تلاه في الحقبة الاستعمارية مما أربك المصطلح، كما أربك التشكيل الاجتماعي وأجهزة المفاهيم والذاكرة، وتحديداً في تأريخ الفن والثقافة. ذلك أن الفن يمثل سلسلة من التحولات الشكلية والأسلوبية والتقنية التي تتصل بشرط بروزها، وتعبر عن حاجة التعبير الفنية بمكتسبات المعرفة والمشاهدة.
وقد سجل تاريخ الفن تطوراً مهماً على المنجز بما تمثل في فن الجدران والكهوف، والنحت والخزف والحفر والتزيين والرسم والتشجير والنقش الذي لا يزال ماثلاً في الحضارات القديمة، ومنها: البابلية، والسومرية، والفرعونية، والعربية النبطية، وفن الكهوف في أمريكا اللاتينية، والحفر الأفريقي، والرسم الصيني.
وبات من الواضح أن تيار الحداثة الذي اقترح إطار اللوحة ومربعها قد ثار على الشكل في مرحلة ما بعد الحداثة لمصلحة التعبير الحر. وبالقياس على التاريخ فإن اللوحة المسندية تمثل مرحلة من المراحل التقنية الشكلية التي تمثلها الفن التشكيلي في مختلف صنوفه النحتية والخزفية والطباعية، وأن المرحلة التعبيرية «البدائية»، أو «فن الحضارات القديمة» استمر لقرون تزيد كثيراً عن الحقبة التي عاشتها اللوحة المسندية التي لا تزال تعيش بوتقة الاختبار.
إن قراءة تاريخ الفن، والرسم كمنتج حضاري، يمكن أن يدلنا على الكيفية التي تم فيها التحول الوظيفي للفن بالانتقال من المناخ الأنثوي إلى المجال الذكوري.
وهي قراءة تسعى إلى رصد التحولات والشروط التي أنتجت اللوحة المسندية في الغرب النهضوي وتوصيفها. وهي، أيضاً، محاولة لفهم المناخ العام الذي أنتج غالبية الفنون الغربية بانقلاب المتخيل من التكيف مع البيئة إلى تطويعها مع التطور.
يقول إدوارد سعيد إن فكرة الاستعمار قامت على متخيل بشَّر به البرتي في بناء سردية لرحلة اكتشاف واستكشاف العالم، تزامنت مع تطور فكر القوميات. القاسم المشترك بين أوجه الاستشراق، الذي لا يمثل واقعة من وقائع الطبيعة بقدر ما يمثل واقعة من نتاج البشر، كنت قد أسميتها بـ«الجغرافيا التخيلية».. وهذه الجغرافيا التخيلية، والديموغرافيا التخيلية، وضعت الشرق، أو «الآخر» كعدو للغرب.
وبإزاء الفهم النمطي غدا الشرق مساحة للمغامرة التي يقوم بها البطل/ الذكر، الذي يحمل مشروع الفتح للأرض/ كمضارعة للمرأة، ليقترح المتخيل التوسعي دوراً محدداً للفنان يقوم على وظيفة الشاهد.. المدون.. الفوتغرافي لسير الأبطال ووقائع البطولة والأحداث الجسام والقادة العظام الذين يحققون النصر والثروة والمجد. وعلى الفنان خلال ذلك اقتطاع اللحظة مفصولة عن البيئة، ووضعها في إطار، وحملها إلى المركز لتزين جدران القصور، كما في لوحة نابليون.
النسق الفكري ومتخيله الاستكشافي
لم تكن بداية الاتصال الاستشراقي التي مثلها دافيد روبرتس تختلف كثيراً عن ذلك النسق الفكري ومتخيله الاستكشافي الذي صور لقطات من الأراضي المقدسة وبلاد الشام ومصر، ووضعها في إطار لنقلها إلى جدران الكنائس في المركز. وكان خلال ذلك يتتبع الجغرافيا التوراتية التي سلكتها فيما بعد عساكر الجيوش الاستعمارية.
كما لم تخرج أطروحات منظري الاستعمار في اغتصاب الأرض عن التمييز بين ذكورية المحتل/ المستعمِر «بالكسر»، وأنوثة المستعمَر «بالفتح»، بما ينسحب ذلك على تغيير جهاز المفاهيم لوسائل التعبير الفني الذي صدر عن متخيل «نمطي».
وبدا من الواضح أن اللوحة المسندية التي دخلت من خلال نافذتي الاستشراق والاستعمار قد أدت إلى قطع مع المفهوم السابق لمعنى الفن ووظائفه وتاريخه، وكان للاتصال القسري متمثلاً في الاستعمار، والاستشراق دور في إدخال اللوحة المسندية كتعبير حداثي يتماهى مع قيم الغالب الجمالية والتقنية، وجاءت تعبيرات الفنانين العرب الأوائل مقلدة تماماً لموضوعات الاستشراق برسم المرأة البدوية بكيفية سياحية، والتعامل مع المرأة بوهم متخيل الإلهام. وفي كل الحالات كانت المرأة موضوع اللوحة ومادتها، غير أن التحولات التي جرت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أدت إلى وعي مضاد للهيمنة والاستعمار ببروز قضايا التحرر والنهضة، والارتطام مع أسئلة النهضة والهوية، ومن بينها الهوية الحضارية ومكوناتها الثقافية والفنية، وكانت صورة المرأة هي الأكثر حضوراً ضمن متغيرات الصراع والاشتباك في كل أشكاله.
ونتذكر هنا المرأة العربية التي كانت الرائدة في اجتراح الحكايات التي دونتها «شهرزاد» وسيلة للانعتاق والحرية والدفاع عن الحياة وسلطة «شهريار» في حكايات «ألف ليلة وليلة».
كما كانت الرائدة في كونها الفنانة الأولى التي يقع على عاتقها حراسة التراث باستعارة مفرداته على الأواني والقماش والجدران، منطلقة في ذلك من وظيفة طقوسية تضفي على آنية المنزل تمائم ورموزاً لرد الشر والحسد والأرواح الشريرة.
لم تخرج المرأة وقتذاك من إطار اللوحة كموضوع، كما لم تخرج من ظلال اللوحة كملهمة، وبعد انخراطها في المشهد التشكيلي استعادت وعيها وذاكرتها لتدوين ألوانها وخطوطها على اللوحة المسندية كنافذة أو باب أو جدار شفاف، منسلة من داخل المربع وحبسه بالوقوف أمامه لمناجاته متشبعة بصدق حكايتها وذاكرتها البصرية وهمومها وهواجسها وأمنياتها. وكما انطلقت جدتها «الفنانة الأولى» من توظيف الأشكال والرموز لغايات حماية وجودها، فإن الفنانة المعاصرة لجأت إلى اللوحة كمنصة لرؤية العالم، واستطاعت المرأة أن تستعيد مكانة الحكاءة.. الفنانة ببناء نصها البصري المقاوم للإقصاء والقهر.
وفي اختباراتها الأسلوبية والتقنية لجأت إلى احتيالات الفن ورمزياته للإفادة من مخزونها المعرفي والثقافي بوسائل مختلفة، تمزج بين متطلبات الفن، وتعدد القراءات التي تخلق تيار الوعي لفهم العالم ضمن حدي الثنائيات التي تشبه وجهي الحياة والوجود.
الفنانة الأولى.. حراسة التراث
بدا أن المرأة الفنانة العربية ظلت مخلصة لدورها الذي ورثته من سلفها الفنانة الأولى بحراسة التراث، والتماهي مع المكان واللغة، مستفيدة من البيئة والرموز الأسطورية لبناء لوحتها أوصوتها.
وسعت الفنانة العربية إلى أنسنة الكائنات وإضفاء روحها على الأشياء بأسلوب واقعي وأحياناً تجريدي غنائي، وهو ما يلاحظ في أعمال السورية شلبية إبراهيم التي صورت حكايات الريف التي «تختلط في لوحاتها بين مساحة الحلم بالواقع.. وخشخشة خلاخيل الأحصنة الراقصة، وعذرية الغواني المتوحّدات مع الزهور والطيور، لا يتعثّر منهجها بأي تردد أو تعديل، تنجز اللوحة كما تتنفّس في شهيق وزفير لا يقبل العودة»..
وهو المناخ نفسه الذي تستمد منه الفنانة اللبنانية جوليانا ساروفيم موضوعاتها، حيث تهب العمل البعد السحري المفتوح على آفاق شرق، كالذي يتصوره القارئ لـ«ألف ليلة وليلة» كما يقول الناقد اللبناني نزيه خاطر، وتتخيل في أعمالها المرأة اللبنانية عندما تتماهى في إنشائها البنائي لجسد امرأتها الزهرة».
وهو ما قامت به اللبنانية آمال داغر، والسورية عتاب حريب في التنويع بين الطبيعة المرأة، كما تجلى في استعارة الرخام من لدن الفنانة الأردنية منى السعودي للتعبير عن رمزية الأمومة بتوقيعاتها على حرف النون والأهلة المستعارة من التراث.
وجاء العمل الفني بالنسبة للتشكيلية والنحاتة الفلسطينية سامية الزرو ليس مجرد مغامرة شكلانية تتصل بالتقنية والأسلوب، أو البحث عن موضوعات توفر الدهشة السياحية العابرة، وإنما محاولة للبحث عن إجابات لقلق يكتنف الواقع، الذي يؤكد حضورها كفنانة شعبية بالمعنى الثقافي للمفردة التي يرتبط فيها الفن بهموم الإنسان وقضاياه، ومعاناته. فضلاً عن إخلاصها ووعيها للحس الكفاحي اليومي في مواجهة القهر ومحاولات المحو والإقصاء التي يعانيها أبناء الشعب الفلسطيني، وتسيطر على ذاكرتها وتلقي بظلالها على ما حولها.
أما الفنانة د.وجدان علي فهي تستعيد اللوحة بذاكرتها الثقافية وتاريخها الحضاري كوسيلة للمعرفة التي تتحول فيها الكائنات إلى رموز حروفية تشي بالهوية الحضارية، وتشير إلى اللغة الأم، كما تقول: «إننا لا نبدأ في تقدير أهمية الفن في تاريخ البشرية, إلا عندما نرى الفن بكل وضوح, بوصفه طريقاً للمعرفة, مساوياً للطرق التي يتوصل بها الإنسان لفهم ما يحيط به».
وفي أعمالها الأخيرة ذهبت الفنانة العراقية الراحلة ليلى العطار إلى الفضاء التجريدي للتماثل الذي تحققه تعرجات المكان ومنحنياته، واستعارت الفنانة الأردنية سهى شومان وابنة موطنها نوال العبدالله بالمقاربة بين الجسد والتشكيلات الصحراوية والتضاريس التي تركها الزمان والمناخ على صخور مدينة الأنباط.
وأظهرت الفنانة السعودية صفية بن زقر عناية كبيرة بحارات جدة القديمة وعمارتها التي استظلت بها ذاكرة الطفولة، مستعيدة ملامح الوجوه التي تلاحقها بطيف من حنين الماضي، وتصور الملامح الإنسانية لعلاقة الناس حيث الجارية تمسك بالمرآة لامرأة وهي تمشط شعرها بدلال في ثوب حجازي قديم، وأخرى تجلس على الكرسي مشرعة أمام زوجها الذي ستزف إليه بعد ليال. وفي لوحة لها بعنوان «سوق الحريم»، ترى تلك المرأة بعباءتها وهي جالسة على بسطتها تبيع وتجادل في تجارتها. أما الصبيان والبنات فهم بين الأزقة يمارسون ألعابهم القديمة التي يحملون فيها حميمية العلاقة التي تناستها الحارة في ظل الحياة الحديثة وأنماطها الاستهلاكية، وكثير من تلك التفاصيل التي دونتها صفية ونقلت التراث الحجازي للأجيال.
ومثلت الفنانة السعودية شادية عالم حالة الانعتاق من أصفاد المكان إلى مساحة المطلق، كما يقول الناقد عرابي، «ساعية للخروج من قمقم الغربة المختومة بتحرّق وجداني لا تحدّه حدود».
بينما أفادت الفنانة البحرينية بلقيس فخرو من تراث المدينة القديمة وحضارة دلمون للإقامة في مدينتها الفاضلة والمتخيلة. ومثلها وسما الآغا التي استعادت حكايات «ألف ليلة وليلة»، في المدينة العباسية للتعبير عن الحنين للماضي الفردوسي، وانعتاق المرأة. وهي الاقتراحات الجمالية والمعالجات الفنية التي قدمتها الفنانة هلا بنت خالد باستعادة فن الأغلفة التي أسس لها الفنان العباسي الواسطي كأحد الفنون المهمة في التاريخ العربي، وأعمال الفنانة بنت خالد التي تستعيد عوالم الطفولة بتعبيرية خيالية تجعل منها عناصر أسطورية.
الفنانة المغربية فاطمة حسن حاولت أن تتفهم الأشياء المحيطة بها، فعادت إلى التراث الذي أسس له الواسطي، ومناخات «ألف ليلة وليلة»، حرصاً منها على الابتعاد عن الانبهار بالمدارس الغربية. ذهبت إلى فن التزويق، والزخارف الشعبية والرموز، واستعادت محاولتها في إيجاد صيغة متميزة لمنجزاتها الفنية.
ولأن المرأة في لوحات فاطمة حسن قبل أن تكون جسداً مليئاً بالإغراءات، كانت فكرة، فقد سمحت لنفسها بإعادة تركيب الذات، عبر سردياتها العجائبية لتلك المكونات الإبداعية لعالمها السحري، وشخوصها الأسطورية، وحيواناتها الغريبة، التي تنقل مشاهديها خارج الزمن، من داخل أزمنتها المشرعة على الطفولة بكل مفرداتها وتراكيبها الفنية.
واستعادت الفنانة الكويتية ثريا البقصمي العلاقة بين اللغة والزخرفة عبر اهتمامها السردي كوسيلة توليدية لا نهائية للكون، لتمنح مثل هذه التوالدات إحساساً بالانعتاق الذي توفره الحركة. وفي اختيارها للأشكال والخطوط كانت الفنانة تستعيد تاريخ الفنانة الأولى، وتتيح للمتخيل الرحيل في الخيالات الأسطورية التي تضيف على كل ما هو موضوعي ما له علاقة بالحضارات والتاريخ وقصص الألوان الزاهية المتجددة بالأشكال الخاصة.
العالم السحري لفنون المرأة
منذ انطلاقتها غاصت الفنانة الإماراتية نجاة حسن مكي في «شفرات» الفنون الشعبية المرتبطة بالأجواء النسائية، وتحديداً ذلك العالم السحري لفنون الزخارف والرقش والمنمنمات التي تستبطن خفايا المرأة وجمالياتها. كانت المرأة بهذه المعالجة ليست مستودعاً لعوالم شكلانية جميلة بهيجة، بل هي، أيضاً، مستودع أسرار روحانية تضفي على اللمسة العابرة معاني وأبعاداً شاملة، وتصبح الزخارف هنا شكلاً من أشكال التداعي الحر، لأعمال تتّسم بقدر واضح من التصوير المنطلق صوب البحث عن أسلوبية تعيد إنتاج الخصوصية، ضمن توليفة للأنا المبدعة.
وتبدو لوحات الفنانة الجزائرية بايه محيي الدين حسب الناقد عرابي «سجلاً حافلاً بالذاكرة السحرية للثقافة المحلية تستخرج كائناتها العضوية من عالم الفرودس والجنان: الطاووس والطيور والأسماك والفراشات وباقات الزهور والثمار العجائبيّة والروايات والحكايات المثيرة، لتستعيد مكانة الحكاءة الأولى من خلال الخط والرموز والألوان والإشارات».
الفنانة التونسية مريم بورد لا تلقي بالأشكال والكائنات المجهرية الأولى التي تعيش صيرورة التطوّر فتبدو إشارتها التعبيرية، وكأنها مسوخ حيّة أو وحيدات خلية، تدعوها مرة بالأشباح وأخرى بالملائكة، لتبدو تقنيتها نخبوية وشعبية في آن، حسب الناقد عرابي.
لعله من العبث بمكان، على ما يقول عرابي، البحث عن خصائص الأنوثة في اللوحة، ولكن هذا لا يمنع وجود «وحدة التيّار التعبيري» بشتّى فروعه: التقليدية، المحدثة، المتوسطة بين الحدّين، ثم الأشواق الروحية، وانعراجاً إلى التعبيرية البكر.