في ثلاث مقالات قصيرة تدوِّن الشاعرة هدى الدغفق علاقتها بالكتابة محاولة إلقاء الضوء على الصعوبات التي تواجه الكاتب وهو يبني تصوراته عن الحياة، وكيف أن الكتابة يمكن أن تتحوَّل من شغف تختاره إلى التزام لا خلاص من أغلاله وقيوده على موهبة الكاتب.. بل كيف تتحوَّل الكتابة إلى هَمّ بدلاً من أن تحيل حياة كاتبها إلى فرح! لاسيما الكتابة الشعرية التي تبدو فيها الصورة الشعرية كجنين ينمو بين الشاعر وحبيبته القصيدة لتمثل العمر الأدبي للشاعر وخبرته في التعامل مع أسرار قصيدته.
عزوفي كتابة لا تجيء
أحاول تفريغ شريط حوار ولا أستطيع فأرغم عيني على قراءة تبعد بي عن كتابة وحشتي لأنني لاأرغب اليوم الجلوس إلى حاسوبي. أفاجأ أحياناً بعزوفي عن كتابة أسعى إلى إنجازها ولا أستطيع سبيلاً إليها سوى الحنو عليها، أتأرجح بين لارغبة في القراءة ولارغبة في الكتابة. وكلاهما مبتغى لا أستغني بواحده عن آخره وإذا تلبسني العزوف عن كليهما يصعب علي تجاوز عواقبه أو انتظار نتائجه. بعدها أتمتع بمزاج لايستطعم شيئاً ويحس بتراجعه عن الكتابة.
ينالني شيء من ذلك ويتجاوزني وربما أتجاوزه. ولست أجزم بما حدث لي فأنا أفتقرإلى وعي بحالتي وتأملي إياها.. تعود بي غرفتي إلى حيرتي وهواجسي المزمنة وألمح أدوات الحاسوب وبرامجه التي تنام إلى يساري وتضيء مكتبتي في الجهة اليُمنى بهدب رفوفها، فأبتهج مجدداً لهذه الحفاوة التي لم أتوقعها من غرفتي. وأما المتاعب فتتوالد صدفة وتتوالى فهي ترى ما أنا عليه من حال وتستشري ويطيب لها شقائي. قاصر أنا عن المقاومة كأنني ألمح كآبتي تدق أجراسها وتئن فألهو عن سماعها ولاأرغب الاستجابة إلى هاويتها المظلمة. ومع ما أبدو عليه اليوم من توعك، فسأسعى أن أغير مزاجي وتفكيري.هأنا الآن أترك مكاني الأول إلى صالة الجلوس وأصطحب معي حاسوبي و.. لكنه تعبي لا يحل عني ويكـدرمزاجي. وما أسجله الآن عن لحظة عزوفي محاولة مني أفهم بها نفسي وحاجات إبداعها وشغفها نحو الكتابة والكتاب.
لم تعد الكتابة شغفاً أختاره بل تحوَّلت العلاقة بيننا إلى التزام ومصير لاخلاص من أغلاله وقيوده التي أتعمد ككاتبة تقييد موهبتي بقيودها.
وبين ذهابي المحدود بساعة، وإيابي إلى كتابتي..لم يطرأ أي تبدل في مزاجي.
ما أثقل هذا الأربعاء. بطيئ لا يمر
– ألأنني دون مزاج؟.
لا إلهام من حولي.. أنا لاشعور مؤجل حتى حين.
ضد.. كتابة الـ (هَمّ)
تسرد فرح الكتابة شاعرة مثل فيسوافا شيمبورسكا من بولندا، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، ونسرد همّ الكتابة وأرقنا بها.
وبين فرح الكتابة وهمّها فرق وعلاقة بحالة الكاتب ووضعه السياسي والاجتماعي بحيث تتحوَّل الكتابة من فرح مهموم إلى همّ بالفرح.
لماذا تتحوَّل الكتابة إلى هَمّ ولا تحيل حياة كاتبها إلى فرح؟.
وهل تحيل الكتابة حياة كاتبها إلى فرح لايصرح به لأنه ربما لايستأنس بمشاعره بل ينغمس فيما أحدثته الكتابة فيه من آلام. أعود إلى فيسوافا التي تكتب :
(فوق الورقة البيضاء تكمن للانقضاض
الأحرف التي يمكنها أن تنتظم خطى
الجُمل المحاصرة التي لا مفر أمامها
ثمة في قطرة الحبرخزين هائل
لصيادين بغمزة عين، جاهزين للانزلاق أسفل عبر القلم المنحدر،
يحيطون بالأيل، يصوبون النار).
كيف ترى فيسوافا شيمبورسكا هذه العطايا للكتابة التي تحرر الكاتب من داخله الضيق إلى أفقها المطلق بينما يشعر واحدنا وهو يكتب بأنه في قبضة سجن ذاتي أضيق من أرق ينثر على ورقة بائسة بتجهماته؟!.
كيف تصبر علينا الكتابة ونحن بهذا الضيق؟.
أتوقف بين فرح فيسوافا وبين همنا وأحاول معرفة كيف توصلت الشاعرة إلى هذه القدرة من التجاوز لسجن الذات قسراً:
(يوجد إذن هكذا عالم
أتحكم بمصيره مستقلاً
زمنٌ أربطه بقيود العلامات
وجود بأمرتي متواصل
فرح الكتابة
إمكانية ترسيخ
انتقام يد فانية).
من هذه القاعدة..جردت شيمبورسكا نفسها الكاتبة من همها إلى فرحها. وأما قاسم حداد فقد أوّلَ الكتابة كذائقة إلى جمال لا يضاهى: (الذي يتذوق الكتابة لن يستطيع أن يعود عنها. فكلما تقدَّم بي الوقت (في الحياة والكتابة) تأكدت من عدم قدرتي على الإخلاص لأي شيء في الحياة سوى الكتابة، وزاد يقيني بأن أجمل مافي العالم على الإطلاق هو الكتابة، خصوصاً إذا كنت حراً فيها) إذن فالحرية شرط مهم لمتعة الكتابة ومجال متشعب لا يتعلق بمؤثر خارجي بل بعقل باطن يزورك في كل الأمكنة ويحضرفي كل أزمنتك ومراحل عمرك.
أعود إلى ماذكره الشاعر البحريني قاسم حداد في مقالته (محاولة لتقدير المسافة بين النص والشخص ) حيث ذكر بأن «الحياة بعيداً عن الكتابة ستكون دائماً ضرباً من الذل والخوف في عالم عراء بارد شديد الوحشية. بدون الكتابة أكون. بالكتابة فقط أستطيع الزعم أنني أحيا معظم أشكال النضال والمؤسسات التي عبرتها كانت قابلة للخذلان والانهيار والخسارة. لم يبق لي بعد كل ذلك غيرالكتابة / القلعة التي لاتستطيع الحياة أن تهزمها».
رأى ذلك قاسم حداد وكتب الشاعر النرويجي هوفارد ريم:
(اللغة حاستك السادسة
بها تتأمل العالم
وتفكر بالكلمات والخطابة والنشيد والكتابة
وحديث كالمطر).
من هنا فالكتابة فرح في مقابل حرية، وهم ّفي مقابل كبت وحصار زمني ومكاني نرسمه نحن بصياغة عوالمنا الاجتماعية والفكرية. ربما تكون التقاليد والعادات المحيطة بنا حصاراً. ليس الحصار دائماً ذا منبع سياسي بل ربما ينبع الحصار من بيتنا الصغير جداً في القلب.
الشعرية تنقص.. الشعرية تتكامل
تبدو الصورة الشعرية جنيناً ينم عن فلسفة الذاكرة التي تنمو بين الشاعر وحبيبته القصيدة لتمثل العمر الأدبي للشاعر وخبرته في التعامل مع القصيدة.
هناك في أعماق الشاعر ذاكرة قصيدة تنمو ولاتخرج إلا بعد سنين وهناك لاتنمو إلا على الورقة لتكون اكتمالاً بين يدي الشاعر يصور حيرته. ويتعامل الشاعر معها مثلما يتعامل البستاني مع نباتاته وأشجار بستانه وهو يقلمها.
الشاعر يُقلم زوائد نصه الشعري حتى يظهر كما يحب أن يكون عليه. وهناك نص يتأمل صورته ومضمونه واكتماله وهو جنين في بطن شاعره وذاكرة كاتبه وعندما يظهر لقارئه يكون في هيئته الأخيرة ليقول عنه شاعره هذا النص جاهز للنشر.
هذا التفاوت في النمو الذهني للنص غير مقصود من قبل الشاعر لكن تحكمه الصورة الشعرية العميقة التي تتعامل مع الإلهام الخفي أو الذاكرة الأولى وخبراتها وبرمجاتها ومرجعياتها وفطرتها.
بالنسبة لي..هناك قصائد أذكرها جيداً أتذكر لحظة ميلادها على الورقة وأذكر لحظة تشكلها في ذاكرتي.. كان تشكلها في سن الطفولة وكانت كتابتها بعد ذلك بعقد ونصف.
من تلك القصائد التي استغرقت في ذاكرتي ونمت في أعماقي قبل أن تبدو قصيدة ناقصة أقلم أشجارها على أرض ورقتي البيضاء أو على شاشة حاسوبي قصيدة (سبورتي البعيدة) وهي إحدى قصائد ديواني الثاني (لهفة جديدة). قصيدة نمت طويلاً في ذاكرتي وفي أحلامي وفي إلهامي وخرجت من وحي لحظتي الشعرية متكاملة.
وهكذا يبدو لي أن الشعر هو إحدى حالتين: إما شعور مؤجل في الصورة العميقة والسبورة البعيدة في ذاكرة الطفولة الشعرية للصورة،أو هو شعور متقدم يبذر أجنته في أحشاء الورقة البيضاء إلى أن تكتمل أعضاؤها فيبدأ في حياكة ثوبها المناسب وتخرج عنواناً في أبهى مايراه بها شاعرها.
ويبقى أن أقول: ربما يكتب الشاعر نصاً وينشره وهوغيرراض عنه ويبقى إحساسه به متربصاً. ولكن هذه التجارب خبرات يستقيها الشاعر في ظل قلة التعاطي مع الجو الخارجي والمناخ الثقافي وحالة التلقي.