هو انحرافٌ عن الحقيقة وتحريفٌ لها، هو إخفاءُ الحقيقة من باب الحماية، حماية النفس أو الآخر، أو من باب التضليل، تضليل النفس أو الآخر؛ هو أنصافُ الحقائق أو أشباهها، هو الخداعُ والتحايلُ، هو الفبركةُ والتلفيقُ، هو التزييفُ والتزويرُ، وهو الادعاءُ والمغالاةُ، وهو المراوغةُ والمواربةُ، وهو في المبتدأ والمنتهى، الكذب.
فالكذب، هو بمعظم تجلياته وألوانه جزء من نسيج السلوك الإنساني في حياته اليومية. وإن كان يمكن لبعضه أن يمر من دون أن يترك أثراً، فإن بعضه الآخر يصل بشرِّه إلى مستوى الجريمة.
فريق القافلة يجول بنا في هذا الملف على عالم الكذب، الحاضر دائماً بكبائره وصغائره في حياة الأفراد وتاريخ الشعوب.
كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه يقول: «إن الكذبة شرطُ الحياة»؛ ذلك أنها موجودة وقائمة طالما وجدت الحياة وقامـت. لكنها شرطٌ غير نبيل، وإن كان مضفوراً في مناحينا الإنسانية والمعرفية.
فالكذب، كسلوك آني أو منهجي، وكعادة، عابرة أو متأصِّلة، يتشكَّل بتشكّلنا، كما يتطوَّر بتطورنا، وهو أمر مقرون بتطوّر قدراتنا العقلية وملكاتنا الإنسانية بذات القدر الذي يقترن فيه بتطوّر منظومتنا الأخلاقية والقيمية. وفي جميع الأحوال، نحن لا نولد كذابين بطبعنا. ولكننا نولد «تابيولا رازا»، أو «لوحاً أبيض»، بحسب الفرضية المعرفية التي تبناها المفكر التنويري الإنجليزي جون لوك، القائلة إن الفرد يولد من دون محتوى عقلي جاهز، وأن المعرفة تأتي من التجربة والإدراك.
وبما أن الكذبَ معرفةٌ -حتى وإن كانت منبوذة- فإنها تُخطّ على صفحة العقل البيضاء مع التطور الإدراكي للشخص.
تشكّل الوعي
إذن، نحن نولد صادقين، كما نولد خالين من الآثام والأخطاء والخطايا. فمتى نبدأ بالكذب؟
يمكن رصد نزوع الإنسان للكذب منذ تبلور وعيه. فبحسب علم النفس الاجتماعي وعلم النفس التطورّي، يتطور الكذب مع الفرد في مرحلة الطفولة المبكرة التي يميز فيها بين الإشارات التربوية والتعليمية التي يتلقَّاها من أقرب مصادر متوافرة له وهي: الأهل أو الأبوان.
وفي المرحلة المبكرة من النمو، لا يُنظر إلى الكذب كمشكلة أو كانحراف عن السلوك الواجب، ذلك أن الكذب يعدُّ جزءاً حيوياً من عملية التطور النفسي والاجتماعي، كما أن الأطفال لا يستطيعون استيعاب قيم مثل أن الكذب خطأ وحرام. وعادة ما يكون الكذب، الذي يُراد منه الإفلات من عقاب أو إثارة إعجاب الآخرين، خيالياً، أقرب إلى حكاية خرافية غير قابل للتصديق، كأن يكسر الصغير مثلاً مزهرية في البيت، وعندما تسأله أمه عن الأمر ينسب التهمة لكائن خيالي، فيقول مثلاً أن عصفوراً بجناحين كبيرين (قد يبالغ برسم الجناحين في الهواء) دخل من الشباك وأطاح بالمزهرية! هنا لا يستطيع الطفل، الذي يتمتَّع بمقدرة مدهشة على التخيّل، التمييز بين الواقع والخيال نظراً لغياب إطار معرفي يؤهله للحكم على الشيء ما إذا كان قابلاً للتصديق أم لا. وبالتالي، فإنه لا يعرف كيف «يسكّ» كذبة مقنعة، بل قد يستغرب لماذا لا يقبل الآخرون وجهة نظره المنطقية تماماً بالنسبة له. لكنه يستطيع أن يدرك، منذ بدايات تشكّل الوعي، أن الكذب قد ينجيه من العقاب أو قد ينيله مراده أو يجنِّبه شيئاً لا يريده، وذلك حتى قبل أن يطوِّر نظرية العقل اللازمة لفهم آلية الكذب.
يبدأ الكذب باتخاذ شكل أكثر جدية وصيغة أكثر إقناعاً لدى الأطفال عند الخامسة من العمر تقريباً، عندما يتطوَّر لديهم ما يعرف بـ «الذكاء المكيافيللي»، وهي السن التي يصبحون فيها قادرين على الكذب المقنع أو القابل للتصديق. إذ تتراجع مساحة الخيال في اختلاقاتهم على حساب تمدُّد مساحة الواقع. في العلم المعرفي وفي علم النفس التطوري يُعرَّف الذكاء المكيافيللي، الذي يُشار له أيضاً بالذكاء الاجتماعي أو الذكاء السياسي، بأنه مقدرة كيان ما على إقامة علاقة سياسية ناجحة ضمن مجموعات اجتماعية، وهو مبدأ شكَّل لاحقاً نواة ما بات يعرف بالواقعية السياسية أو النفعية. وكان أول من صاغ هذا المصطلح عالم النفس الهولندي واختصاصي الثدييات فرانز دي وال، في كتابه الشهير «سياسة الشيمبانزي» (1982)، الذي يصف فيه المناورة الاجتماعية في سلوك القردة، مستشهداً بأقوال المفكر والمنظر السياسي الإيطالي الشهير نيكولو مكيافيللي في كتابه الأشهر «الأمير»، منطلقاً من فرضية قائمة على أن الوسائل التي تقود إلى أنواع معينة من النجاح السياسي ضمن كيانات اجتماعية أكبر يمكن تطبيقها بالمثل في نطاق كيانات ومجموعات أصغر، من بينها وحدة الأسرة. وهكذا، إذ يطور الطفل ذكاء مكيافيللياً، فإنه بذلك يكون قد قطع خطوة جوهرية في التطور الاجتماعي الذي يحكم علاقته بمحيطه، بدءاً بأسرته ثم المجتمع الأكبر، مكتشفاً عن وعي وإدراك أن الكذب أو الخداع قد ينجيه من «العقاب» أو «العاقبة»، ولو إلى حين، في إطار سلوك قد يتطور ليأخذ طابعاً انتهازياً، وفي حال خرج عن حدوده المحتملة قد يتحول إلى شكل من أشكال الانحراف.
عندما يتعلم الطفل كيف حقَّق له الكذب مراده، ناجياً -بسببه- من عاقبة لا يرتجيها، تراه يفتقر إلى الفهم الأخلاقي اللازم بشأن ضرورة الامتناع عن الكذب، وهو فهم يتأتى من التربية والتثقيف الأسري، ذلك أن بعض الآباء -للأسف الشديد- هم أول «الكذَّابين» الذين يتفتح وعي الطفل عليهم، فيرى أمه تكذب على أبيه أو على جاراتها، كما يسمع أباه وهو يتحدث عبر الهاتف إلى مركز عمله، مدعياً المرض وأنه لا يستطيع أن يلتحق بالمكتب اليوم! إن الأمر يحتاج إلى سنوات لمراقبة الناس يكذبون، كل أنواع الكذب، ومعاينة نتاج أكاذيبهم سواء عليهم أو على الآخرين والمجتمع من حولهم، جنباً إلى جنب مع التربية الخارجية والتثقيف الذاتي، قبل أن يطور الفرد مع الوقت فهمه الشخصي، ومن ثم منظومته الأخلاقية التي تحكم علاقاته بمحيطه ومجتمعه.
سيكولوجية «الكذب اليومي»
دوافعه ستة أم سبعة؟
يجمع علماء النفس بأن الكذب ظاهرة شائعة جداً ومعقَّدة جداً. فكما يقول بروفيسور علم النفس ليونارد ساكس، من جامعة برانديس الأمريكية: «طالما شكَّل الكذب جزءاً من الحياة، ولا يمكن أن نمضي يوماً دون أن نمارس الخداع بصورة من الصور». المفارقة أننا حين نكذب قد لا نعرف أننا نكذب حقيقة! فإذا سألك أحدهم عن الحال والأحوال، تجيبه بآلية: «بخير»، وذلك من دون أن تكون أحوالك بخير بالضرورة! وإذا بدت مقولة نيتشه بأن «الكذبة شرط الحياة» ضرب من المغالاة أو المجاز الفلسفي، فقد جاءت دراسة مهمة قامت بها عالمة النفس بيلا دي باولو، من جامعة فيرجينيا الأمريكية، لتؤكد المقولة. ففي هذه الدراسة التي أجرتها في العام 1996م، ونشرت نتائجها في مجلة «سايكولوجي توداي» المختصة بعلم النفس، طلبت دي باولو وزملاؤها من 147 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 18 و71 عاماً أن يدوِّنوا في يومياتهم كل الأكاذيب التي قالوها أو مارسوها خلال أسبوع. فوجدت أن معظم الناس يكذبون مرة أو مرتين في اليوم. كما وجدت أنهم يكذبون في خُمس لقاءاتهم الاجتماعية تقريباً، وهو كذب يستمر 10 دقائق أو أكثر، وعلى مدى أسبوع يخدعون 30 في المئة من الذين يتعاملون معهم مباشرة.
وهكذا فإن الكذب «صفة» بشرية، تحكم علاقتنا بنفسنا وعلاقاتنا بالآخرين. نحن جميعاً نكذب، نمارس الخداع بصورة أو بأخرى، ومن الصعب أن يمضي يومنا دون أن نتحايل على موقف ما بكذبة، حتى وإن بدت الكذبة «بريئة» أو ذات نوايا حسنة، أو ذات مقصد نبيل أو على الأقل غير مؤذية.
في مقالته الشهيرة «حول انحلال فن الكذب»، التي نشرت عام 1882م، كتب الروائي الأمريكي مارك توين يقول: «الجميع يكذبون، كل يوم، كل ساعة؛ في اليقظة وفي النوم، في أحلامهم وفي مباهجهم وفي أحزانهم». قطعاً، تنطوي مقولة مارك توين على مبالغة، وهي مبالغة يقتضيها الهوى الأدبي غير المحايد. لكن المبالغة في النهاية لا تستوفي شروطها من فراغ، فالحقيقة التي لا مناص منها أن الكذب خاصية -كما هي خصلة- لا يمكن استئصالها من نسيج حياتنا وتفاصيل وجودنا. فالنقطة الخلافية هنا ليست هل نكذب وإنما: لماذا نكذب؟ تلك هي المسألة.
في هذا الخصوص، نذكر عالم النفس البارز بول إيكمان، صاحب كتاب «قول الأكاذيب: مفاتيح الخداع في العمل والسياسة والزواج»، الذي يحدِّد سبعة أسباب تشكِّل حافزاً أو دافعاً للمرء كي يكذب: فهناك الكذب الذي نلجأ له لتجنب العقاب، الكذب للحصول على مكافأة، الكذب لحماية الآخرين، الكذب للإفلات من موقف اجتماعي صعب أو محرج، الكذب لإرضاء غرورنا وتعزيز «الأنا» في دواخلنا، الكذب للسيطرة على المعلومات والتحكم بها، وأخيراً الكذب الذي نلجأ إليه لتلبية مسمياتنا وتوصيفاتنا الوظيفية.
من جانبه، أجمل جوزيف تيسي، الباحث في جامعة بوسطن الأمريكية دوافع الكذب إلى ستة، تلتقي مع دوافع إيكمان وتتقاطع معها؛ فهناك الأكاذيب «الوقائية»، التي تهدف إلى إبقاء الكذَّاب بمنأى عن أي خطر، وهناك الأكاذيب البطولية التي يُراد منها حماية الآخرين من الخطر، علاوة على الأكاذيب التي تروم المزاح والهزل لإضفاء نكهة إثارة على قصة ما، والأكاذيب التي تتعلق بـ «الأنا» التي تساعد الكذَّاب في التملُّص من مأزق محرج، والأكاذيب «النفعية» أو التي تبتغي الكسب، وننتهي بالأكاذيب الماكرة والخبيثة، وهي أسوأ دوافع الكذب على الإطلاق، إذ تتقصَّد إلحاق الأذى بالآخرين.
قد يكون من الحكمة التوقف عند نقطة جوهرية في الموضوع تجعلنا نبدي استيعاباً وتفهماً أكبر لنزوع النفس البشرية إلى «الاختلاق» بكل أشكاله، دون أن يعني ذلك لزاماً أننا نتعاطف مع الأمر. فالكذاب يلعب على التوق الإنساني لسماع ما يحب سماعه. نستعيد في هذا السياق ما قالته المفكرة والمنظرة السياسية الألمانية هانا آرندت مرة إن «الأكاذيب أكثر قابلية للتصديق وأقرب إلى المنطق من الحقيقة لأن الكذَّاب لديه الأفضلية الكبرى لأن يعرف مسبقاً ما الذي يرغب الناس أو يتوقعون سماعه». ثم إن الصدق أو الحقيقة تحتاج، في كثير من الأحيان، إلى ثقة قوية وأصيلة بالذات للتعامل معها واعتناقها. لذا، ليس مستغرباً أن تعلنها الكاتبة البريطانية جورج إيليوت قائلة: «إن الكذب سهل، بينما الحقيقة صعبة للغاية». وهي مقولة تلتقي بوجه ما مع ما قاله الكاتب الإنجليزي صامويل جونسون، إن «المرء يؤثر أن تُروى عنه مئة كذبة، عن أن تُروى حقيقة واحدة عنه لا يرغب في أن تتكشف للعيان.»
هي وهو
يجمع علماء النفس بأن أي شخص يرزح تحت ما يكفي من الضغط أو لديه ما يكفي من الحافز يمكن أن يكذب. لكن كذباً عن آخر يفرق! فقد كشفت دراسة نُشرت قبل سنوات في مجلة «جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشال سايكولوجي» (أجرتها عالمة النفس بيلا دي باولو مع زميلتها الباحثة ديبورا إيه كاشي، أستاذة علم النفس في جامعة تكساس إيه آند إم الأمريكية) أن الأشخاص المعتادين على الكذب -خلافاً للأشخاص الذين يكذبون لظرف عابر أو مكرهين- يميلون إلى أن يكونوا متلاعبين، مراوغين، ومكيافيلليين، علاوة على هوسهم المفرط بالانطباع الذي يتركونه عن أنفسهم لدى الآخرين. ومع ذلك، لا توجد صورة نمطية واحدة للكذاب. فقد كشفت العديد من الدراسات أن الأشخاص المنفتحين، المنبسطين اجتماعياً أميل من غيرهم للكذب، ذلك أنهم يكونون مُقنعين، وفي الوقت نفسه مُريحين وقابلين للتعامل معهم، كما تقترن بعض الصفات الشخصية، كالثقة بالنفس والوسامة الخارجية، بمهارة الفرد في الكذب. فنحن نصدِّق الجميلين، ونتعاطف معهم حتى وإن كانوا كذابين. ألم يشدُ عبدالحليم حافظ بـ «حلو وكذاب» متقبلاً الحبيبة «المفترضة» على كذبها، ذلك أن جمالها يغفر لها؟! أو ربما لأنها امرأة؟! فالرجال أميل للتسامح مع النساء حتى وإن كذبن، في حين لا يفوِّتون كذب نظرائهم من الجنس الخشن!
بالمقابل، فإن الأشخاص الأقل ميلاً للكذب هم الذين يتحملون المسؤولية، تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، كما يتمتعون بصداقات قوية ومتينة، ناهيك عن اتكائهم على منظومة قيمية راسخة. وقد يستغرب البعض إذا علم أن المكتئبين أيضاً لا يكذبون؛ ففي كتابه «أكاذيب! أكاذيب!! أكاذيب!!! علم نفس الخداع»، يرى الطبيب النفسي الأمريكي تشارلز فورد أن الأشخاص على شفير الاكتئاب نادراً ما يخدعون الآخرين -أو لعلهم هم أنفسهم ضحايا الخداع- إذ يبدو أنهم يرون الحقيقة ويصفونها بدقة أكبر من غيرهم.
الكذب المرضي
قد يجدر بنا هنا التوقف عند ما يعرف بـ «ميثومانيا» أو «الكذب المرضي»، الذي يشار له أيضاً بالكذب القهري، وذلك حين يصبح الكذب عادةً مرضيةً متأصلةً في نفس صاحبه، وإدماناً يصعب الشفاء منه. وكان مصطلح «ميثومانيا» أو الكذب المرضي قد دخل أدبيات علم النفس الطبي في أواخر القرن التاسع عشر. أما خصائص هذا الكذب فهي أن القصص المروية لا تكون زائفة أو مفبركة بالمطلق، وغالباً ما تنطوي على بعض عناصر الحقيقة فيها. كذلك، قد لا تكون هذه الأكاذيب تجسيداً لوهم أو شكلاً من أشكال الاضطراب العقلي. فعند مواجهة الشخص بالأمر، يستطيع أن يميِّز بأنها ليست صحيحة. علاوة على ذلك فإن الميل إلى الفبركة والتلفيق هنا طويل الأمد، فلا تكون الكذبة وليدة موقف آني أو ضغط اجتماعي ما بقدر ما تنبثق من باعث داخلي للشخص، وغالباً ما يمكن اقتفاء هذا الباعث إلى اضطرابات سلوكية ناجمة عن تعرض الشخص في حقبة ما من حياته للابتزاز أو للاضطهاد أو لإساءة المعاملة على نحو دفعه للكذب بصورة متكررة ومعتادة.
يضاف إلى ما سبق أن القصص التي تُروى تميل إلى تقديم صاحبها بصورة إيجابية ومشرقة، كأن يظهر الكذاب هنا بمظهر المقدام أو المطَّلع أو صاحب علاقات مع شخصيات متنفذة في المجتمع وما إلى ذلك. هؤلاء الكذابون يكذبون بشأن أي شيء، صغيراً كان أم كبيراً، وعلى كل شيء، فشهيّتهم للكذب مفتوحة دائماً، لا يشبعها سوى المزيد من الكذب، مستقين شعورهم بالرضا والثقة من تصديق الآخرين لهم.
ويبدو أن وتيرة الكذب مختلفة بين الجنسين. فقد تكون النساء ثرثارات، كما يطيب للبعض أن يتهمهن، وقد يكذبن لكنهن لسن في مستوى كذب الرجال! هذا ما أقرته أحدث دراسة في هذا الخصوص. فوفق كشف استبيان أُجري في بريطانيا وشمل 2000 شخص، نُشرت نتائجه في صحيفة الـ «ديلي ميل» اللندنية في سبتمبر (أيلول) 2009م، تبين أن الرجال يكذبون أكثر من النساء بمعدل الضعف. إذ وجد الباحثون أن أفراد الجنس الخشن يكذبون ست كذبات في اليوم بالمتوسط، مقابل ثلاث كذبات يومياً لكائنات الجنس اللطيف. وهو ما يعني أن الرجل يكذب بمعدل 42 كذبة في الأسبوع، أي 2184 كذبة في العام، وهو ما يعادل 126,672 كذبة بالمتوسط طيلة سني عمره، مقابل 68,796 كذبة تمارسها المرأة أو تطلقها في عمرها.
أما أكثر كذبة متداولة أو «مفضَّلة» بين الجنسين فهي «لا أشكو من شيء، أنا بخير». وعند حصر أكثر الأكاذيب التي يقولها الرجال فقد شملت، من بين ما شملت: «كلا.. لا تبدين سمينة في هذا الفستان»، و«فرغت بطارية الموبايل»، و«آسف لم أنتبه إلى اتصالك»، و«أنا في الطريق» و«أنا عالق في اختناق مروري». أما أكثر الأكاذيب التي تسوقها النساء لرجالهن، فتركز جلها على سبل إخفاء آثار التسوق والتبضُّع، من بينها: «ما أرتديه ليس جديداً، فهو عندي من زمان»، و«لم يكن غالياً»، و«اشتريته في التنزيلات»، إضافة إلى أكاذيب أخرى شائعة أيضاً من نوع: «لا أعرف أين هو، لم ألمسه»، و«لدي صداع».
ولعلنا سمعنا بالكذبتين الأنثويتين الأكثر شيوعاً في التاريخ، هما: الكذب بشأن العمر والكذب بشأن الوزن! فإياك ثم إياك عزيزي الرجل أن تسوِّل لك نفسك أن تسأل امرأة عن حقيقة عمرها أو حقيقة وزنها. هنا نسوق حادثة طريفة على لسان «ستايلست» عالمي يُدعى فيليب بلوتش. ولمن لا يعرف، فـ «الستايلست» هو منسق أزياء معني بالقيام بالتسوق إنابة عن المشاهير والنجوم، واختيار ما يناسبهم من ملابس. يعترف بلوتش، المصنف من بين أشهر وأغلى منسقي الأزياء في العالم، أنه عند بداية عمله في هذا المضمار، وجد صعوبة في إرضاء زبوناته من نجمات هوليود المتطلِّبات، فكانت الواحدة منهن تطلب منه شراء ملابس لها، ثم فجأة يجن جنونها حين تبدو ضيقة عليها، فترميها في وجهه غاضبة! لم يحتج فيليب إلى وقت طويل كي يكتشف أنهن يكذبن بشأن مقاسهن، فبات حين يسأل الواحدة عن مقاسها، وتجيبه بأنه «4» مثلاً، يشتري الملابس أكبر بمقاس أو مقاسين أحياناً، دون أن يُطلع النجمة المعنيَّة على حقيقة الأمر!
على أن الكذب بين شركاء العمر ليس مأموناً، والقابلية للتصديق ليست مضمونة، ذلك أنه بحسب المسح أيضاً فإن 83 في المئة ممن استطلت آراؤهم أكدوا أنهم يستطيعون أن يعرفوا بسهولة ما إذا كان الشريك يكذب أم لا! وفي جميع الأحوال، فإن كذب النساء يظل أهون بلاءً من كذب الرجال، وعلينا أن نتذكر أن المرأة إنما قد تكون مدفوعة للكذب في الأساس لحماية الآخر (الرجل أو الأبناء) أو لحماية نفسها من مغبة نقد أو رأي سلبي لا تحتمله طبيعتها «القارورية» الهشة!
«امسك حرامي!»
لغة الجسم تفضح الكذبة
يقولون «حبل الكذب قصير»، قد يطول ويطول، لكنه لا يلبث أن ينقطع. فهل يمكن أن «نصيد» الكذبة، و«نمسك» حرامي الحقيقة؟ ربما.. مع الاعتراف بأن ذلك ليس بالأمر السهل.
ثمة مساقات وطرق تبلورت -بصفة شبه رسمية- في العقود القليلة الماضية لتبيان أسس كشف الكذب وافتضاح الكذَّابين. قد يكون عالِمْ النفس الأمريكي بول إيكمان «المعلِّم» في هذا المضمار. في كتابه الشهير «قول الأكاذيب» (1985م)، يختبر إيكمان المقدرة على كشف الكذب لأكثر من 12 ألف شخص، حيث وجد أن الشخص العادي يستطيع أن يميِّز كذبة بوضوح في 54 في المئة من المرات، وهي نسبة نجاح ليست جيدة، لكن الشخص يستطيع أن يحسِّن هذه النسبة إذا تعلَّم التقاط ما يصفه إيكمان بـ «التعبيرات الدقيقة»، وهي العواطف المقموعة أو المكبوتة التي تظهر بلمح البصر على وجه الشخص، بمنأى عن الانطباع الذي يعطيه الشخص.
تندرج هذه التعبيرات الدقيقة أو تعبيرات الوجه في إطار ما يمكن تسميته بالسلوك غير اللفظي، الذي يشمل أيضاً قراءة لغة الجسم، علماً بأن هذه القراءة تكون أدق وأوفى كلما كانت معرفتنا بالشخص المعني أكثر وأوثق، ما يجعلنا أقدر على تبين أي سلوك أو تعبير وجه مختلف عن المألوف. ولنحاول أن نقرأ لغة الجسم للكذَّاب: عادة، يكون التعبير الجسدي ككل متوتراً ومتصلِّباً، بحيث تكون حركة اليدين والقدمين في حدِّها الأدنى، كما يميل جسم الكذاب إلى الانكماش، محتلاً مساحة انتشار أقل من المعتاد. كما يبدو متقلقلاً ومتململاً في مكانه، موحياً بأنه مشغول أو في عجلة من أمره. فيما يتعلق بتعبيرات الوجه، عادة ما يصبح وجه الكذَّاب مشدوداً، خاصة عند الجبين وحول الحواجب، وقد يلعق شفتيه، اللتين تضيقان، كما قد يتحسَّس بيده وجهه وحنجرته وفمه أثناء الكلام. وإذا ما فتح فمه عن ابتسامة فإنها تكون مصطنعة وزائفة، تتصف بجمودها، مع تلاشي الحركة الطبيعية المتوقعة لخطوط التجاعيد حول العين الذي يرافق الابتسامة الحقيقية والصادقة في الغالب.
إلى ذلك، تشير معظم الثقافات إلى علامة جلية على الكذب وهي حك الأنف، وهو أمر يعود إلى الحقيقة بأن الأنف يحتوي على ما يُعرف بـ «أنسجة ناعظة» تحتقن بالدماء حين يكذب الشخص، الأمر الذي يدفعه -كرد فعل لا إرادي- إلى هرش الأنف للتخفيف من الاحتقان. بعض العلماء يشيرون إلى هذه الظاهرة بـ «تأثير بينوكيو» نسبة إلى شخصية بينوكيو المتخيلة في حكاية «مغامرات بينوكيو» للكاتب الإيطالي كارلو كولودي. وبينوكيو هذا يشتهر بأنفه الطويل الذي يصبح أطول كلما وجد نفسه يكذب! مع تداول القصة على نطاق عالمي، بات من الشائع أن يشار للكذَّاب بذي الأنف الطويل أو قد يقول أحدهم -من باب المزاح- لشخص يروي حكاية لا تخلو من فبركة: «انظر إلى أنفك.. لقد بدأ يطْوَل!».
ضمن سياق الكلام العادي، يُلاحظ أن صوت الكذَّاب يغدو أعلى، مع ميله إلى اتخاذ نبرة دفاعية أو عدائية كما لو أنه ينفي تهمة عن نفسه. أضف إلى ذلك، تراه يتكلم أكثر من المعتاد، مضيفاً تفاصيل غير ضرورية، خشية أن يُترجم صمته أو توقفه كنوع من التردد. وقد يميل إلى المزاح أو التهكم، أثناء الحديث، دون أن يكون ذلك من شيمه.
ثمة علامات كثيرة قد تعيننا في فضح الكذاب أو اصطياده متلبِّساً بالتلفيق، وهي علامات يصعب حصرها كما يتطلب إتقانها فراسة من نوع خاص، لكنَّنا نتوقف عند لغة العيون، فهي لغة بليغة، تحكى ما لا يُحكى، وتكشف ما قد يبدو عصياً على الكشف. ألا يقولون إن العيون نوافذ الروح؟ فالكذَّاب يحرص على عدم التواصل بالعين، متجنباً النظر في عين محدِّثه مباشرة، ذلك أن تلاقي العيون قد يفضح مشاعر المرء الداخلية وقد يكشف توتره وقلقه. في قاموس العيون أيضاً، من المفيد أن نقرأ في باب «تقليب العيون» ذلك أن الكذَّاب يقلِّب عينيه وهو يتكلم كما لو كان يبحث عن جملة ما أو السطر التالي في نص أمامه، وهذا أمر طبيعي فحين نختلق حكاية أو واقعة ما نُعمل الفكر في البحث عن تفاصيل مفبركة، فنكون كأننا نفتش عن المعلومة في صفحات كتاب لم نقرأه من قبل! هناك أيضاً غمز العين وطرفها باستمرار، بسبب ضغط التوتر الناجم عن الكذب؛ إذ يُلاحظ أن معدل طرف العين يشهد زيادة فجائية حين نكذب، وهو أمر قد لا تكون لنا يد في التحكم به!
البوليغراف
التقنية في خدمة الحقيقة
لما كانت قراءة لغة الجسد، بحنكتنا المفترضة، وتصفح الوجه، اعتماداً على فراستنا المزعومة، بحثاً عن علامات خداع وافتراء صعبة الفهم وصعبة الترجمة في الغالب، فقد نجد الحل في التكنولوجيا، وتحديداً في الـ «بوليغراف»! والبوليغراف جهاز لكشف الكذب، وهو عبارة عن أداة تقيس وتسجِّل الاستجابات الفسيولوجية كضغط الدم والنبض والتنفس، ودرجة حرارة الجسد وموصلية الجلد عند طرح مجموعة من الأسئلة على أحدهم وإجابته عنها، على أساس أن الإجابات الخطأ من شأنها أن تسجِّل قياسات مميزة أو مختلفة.
يقوم البوليغراف بقياس التغيرات الفسيولوجية التي يحدثها الجهاز العصبي السيمبثاوي أثناء الاستجواب. وكان هذا الجهاز الذي اختُرع في حوالي العام 1921م، في واحدة من أوائل مظاهر التعاون بين العلماء والشرطة، قد أحدث انقلاباً في سير العمل الشرطي والتحقيقي، لكننا نستطيع أن نقول إنه انقلاب درامي أكثر منه حقيقي، ذلك أن هذا الجهاز اكتسب شهرته -المبالغ بها- من خلال الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والروايات البوليسية، التي تجنح إلى الإثارة، في حين أن دوره على أرض الواقع «البوليسي» ظل محدوداً، ويتم اللجوء إليه أحياناً في مرحلة التحقيقات الأولية دون أن يؤخذ به وبنتائجه كدليل في المحاكم في معظم أنحاء العالم، ذلك أنه بحسب دراسات عدة فإن نسبة الخطأ في هذا الجهاز تراوح بين 25 و75 في المئة، وهي نسبة كبيرة جداً بالمقاييس العلمية.
ولا يبدو أن هذا الجهاز، أو تقنيات كشف الكذب الآلية، تحظى بشعبية وسط شريحة عريضة من العلماء، بل إن باحثاً مثل جيوفري سي. بان، وهو عالم نفسي ومؤرخ للبوليغراف في جامعة يورك بكندا، ذهب إلى حد وصف كاشف الكذب بأنه «جهاز ترفيه» أكثر منه أداة علمية محكمة وذات مصداقية. إن مشكلة البوليغراف أنه يرصد فعلياً الخوف لا الكذب، فالاستجابات الفسيولوجية التي يقيسها كنبض القلب ومعدل التنفس وموصلية الجلد، قد تعكس توتراً وخوفاً ولا ترتبط بالكذب بالضرورة. وإذا أردنا أن نفهم آلية عمل الجهاز يمكن تلخيص الأمر على النحو التالي: عندما نكذب، ينطلق ما يُشبه جهاز إنذار في الدماغ لأننا نعرف أننا نقوم بشيء خطأ، لكننا في بعض الأحيان قد نكون منسجمين مع أكاذيبنا. وبالتالي، فإن المجرم الذي يخضع لجهاز الكذب يستطيع أن ينجح في الاستجواب إذا لم تكن لديه مشكلة في الكذب، وإذا كان يعرف أن الكذب قد ينجيه، بينما قد نجد الجهاز يسجِّل أن شخصاً بريئاً يكذب، لا لشيء إلا لأنه خائف ومتوتر فعلياً من الاستجواب!
والحق أن فكرة التغيرات التي يمر بها الجسم عند الكذب وتسخيرها كمقياس ليست بالأمر الجديد تماماً. تاريخياً، اعتمدت بعض القبائل في غرب إفريقيا تقنيتها الخاصة بها لكشف الكذب؛ حيث كان يقوم مجموعة من المشتبه بهم بتمرير بيضة طائر فيما بينهم، فإذا سقطت البيضة من أحدهم اعتُبر حينئذ مذنباً، وذلك انطلاقاً من الفكرة بأن توتّره، الناجم عن كذبه أو إخفاء الحقيقة، جعله يوقع البيضة من يده!
وفي الصين القديمة، كان المشتبه به يضع حفنة من أرز في فمه أثناء خطبة المدعي العام. وكان يُعتقد بأن إفراز اللعاب يتوقف بسبب القلق والتوتر العاطفي، فإذا انتهى المدعي العام من خطبته وظل الأرز في فم الشخص المعني جافاً، صدر عندئذ الحكم القاطع بحقه: مذنب!
المبدأ نفسه استثمره البدو -حتى عهد قريب- في شبه الجزيرة العربية لكشف الكذَّاب؛ مخترعين بدورهم جهازهم الخاص بهم، ضمن جلسة تحقيق عُرفتْ باسم «البِشعة». في هذه الجلسة، كان يجتمع المحكِّمون والمشتبه به في مجلس عند شخص يُقال له «المبشّع»، يقوم بتسخين أداة معدنية تشبه المقلاة بالنار، إلى أن يصبح لونها كالجمر، من شدة الحرارة، فيلعقها المتهم بلسانه، فإن كان صادقاً لم يصبه ضرر وإن كان كاذباً التصقت الأداة الساخنة بلسانه، وهي ظاهرة ينطلق تفسيرها من اعتقاد مفاده أن الصادق يكون واثقاً بنفسه، فلا يجفّ ريقه، ولا يتناقص إفراز اللعاب في فمه، فيظل لسانه رطباً، حيث تكون هذه الرطوبة كالوسادة التي تحمي سطح اللسان من الحرق، أما الكذَّاب فيكون من الاضطراب بحيث يجف ريقه وينشف لسانه ما يجعل الأداة المعدنية تلتصق به وتحرقه.
على أن الخيال البشري المفتون بالغرائبية مضى إلى حد ابتداع أدوية لكشف الكذب، أطلق عليها اسم «عقاقير الحقيقة»، من بينها عقار يُعرف باسم «ثيوبنتال الصوديوم» وهو مخدِّر سريع المفعول يتم استخدامه بغرض انتزاع معلومات من متهم يرفض التكلم، من منطلق الاعتقاد بأن الشخص لا يستطيع أن يكذب تحت تأثير عقار مخدر! على أن «مشروعية» مثل هذه العقاقير استُقبلتْ بجدل ورفض كبير في أوساط الحقوقيين في مختلف أنحاء العالم على اعتبار أنها تقتات على الضعف البشري أو تعدُّ شكلاً من أشكال انتزاع اعتراف تحت الإكراه! ناهيك عن أن نتائجها غير مضمونة ولا تعد دليلاً يُعتد به. لكن هذا لا يمنع من استغلال العقار في مداعبة الخيال في الأفلام والروايات المطعمة بالإثارة.
كذّابون.. كذّابون كبار كوفئوا!!
لم يكن الأمر وليد الصدفة أن يتم اختيار محامٍ ليكون بطل فِلم «كذَّاب.. كذَّاب» (1997م)، الذي جسّده النجم الأمريكي الكوميدي جيم كاري. ذلك أنه ينظر إلى مهنة المحاماة في بعض المجتمعات على أنها قائمة على ليّ ذراع الحقائق بهدف انتزاع حقوق أو تبرئة متهمين أو اختلاق المبررات لتخفيف العقوبات، من دون أن يعني ذلك التعميم بالمطلق.
لكن الكذب يطال كثيرين في الشرائح «المحترمة» من المجتمع. أولها وأهمها تضم أصحاب القلم، من كتَّاب وصحافيين يفترض أن الكلمة شرفهم. ومن أشهر الكذابين في هذا الخصوص الكاتب الأمريكي جيمس فراي، فبعد الشهرة العالمية التي نالتها سيرته الذاتية «مليون قطعة صغيرة»، بفضل اختيار الإعلامية الأمريكية أوبرا وينفري لها في نادي الكتاب، تبين أن أجزاء كثيرة من السيرة مفبركة وملفقة ولا تمت لحياة الكاتب الحقيقية بصلة، ما دفع وينفري في إحدى حلقاتها إلى أن تعترف لجمهورها بالقول: «لقد خُدعت».
ويبدو أن الحياة الغربية، المهووسة بالشهرة، تشجِّع على الكذب، ومن ثم تكافئ -بطريقتها- الكذَّابين! فالصحافي ستيفن غلاس الذي كان يعمل في تسعينيات القرن الماضي في مجلة «ذا نيو ريبابليلك» نصف الشهرية، كان يلفِّق القصص والتقارير، بل مضى إلى حد اختلاق مصادر ومواقع إلكترونية مزيفة. فماذا حلَّ به؟ فُصل غلاس من عمله لكن شهرته تضاعفت، حين أنتج فِلم بعنوان «شاتارد غلاس» (2003م)، ليحكي قصته كصحافي «على استعداد للقيام بأي شيء للحصول على قصة مذهلة».
وهناك جيسون بلير، الصحافي في جريدة «نيويورك تايمز»، الذي تبين عام 2003م أنه كان يلفق أجزاء عدة من قصصه، فاستقال ونشر كتاباً عن فضيحته، ليحقِّق له الكتاب من الشهرة والمال ما لم تحققه له وظيفته!
ولا ننسى واحدة من أبرز فضائح النشر الأمريكي في هذا الميدان، من خلال قصة جانيت كوك، الصحافية في جريدة «واشنطن بوست»، التي نالت عام 1981م جائزة «بوليتزر» للصحافة عن تحقيق لها نُشر في الصحيفة بعنوان «عالم جيمي»، حول فتى في الثامنة من العمر مدمن على الهيروين! وسرعان ما تبين أن كوك اختلقت الحكاية من لا شيء، فاستقالت من عملها وأرجعت الجائزة، غير المستحقَّة، لكنها باعت فيما بعد «حقوق فضيحتها» لتحويلها إلى فِلم سينمائي مقابل حفنة شهية من الدولارات.
قد نتوقع الكذب من أي طرف، من كل الأطراف ربما، إلا العلماء.. ومع ذلك، لا يبدو أنه حتى العلماء، أو بعضهم، بمنأى عن هذه الخطيئة المستفحلة بشرياً. إذ يروي لنا التاريخ حكايات عديدة عن علماء عمدوا إلى التلاعب بتجاربهم جزئياً على الأقل كي تتمخض عن نتائج مرغوبة. لكن الفضيحة الأكبر المسجلة في التاريخ القريب بطلها العالم الكوري هوانغ وو-سوك، أستاذ التوالد البيطري والتكنولوجيا الحيوية في جامعة سيول الوطنية، الذي ادَّعى في دراستين له نُشرتا في مجلة «ساينس» العلمية المرموقة، عامي 2004 و2005م، أنه نجح في اختلاق خلايا جذعية جنينية بشرية عن طريق الاستنساخ. ولقد أدين هوانغ عام 2006م بالاحتيال، حيث طُرد من جامعته، ومنعته الحكومة من متابعة أبحاثه في الاستنساخ البشري، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2009م، صدر بحقّه حكم بالسجن عامين مع وقف التنفيذ.
وقبل هوانغ، كانت الأوساط العلمية في أوروبا قد صحت في أحد أيام 2002م على فضيحة من عيار ثقيل، وذلك حين تبين أن عالم الفيزياء الألماني الشاب يان هندريك شون قد زوَّر نتائج، وُصفت بأنها مدهشة، في حقل أشباه الموصلات والموصلات الخارقة. وكان شون قد نال العديد من الجوائز العلمية المرموقة، من بينها جائزة العالم الشاب في ألمانيا، قبل تكشّف تفاصيل فضيحته، فتم سحب شهادة الدكتوراة منه، كما تمت مقاطعته رسمياً في أوساط البحث العلمي في ألمانيا.
من أبي لمعة إلى أبي شلاخ
الفشّارون يُضحكون ولا يؤذون
بعيداً عن أهل العلم وأهل السياسة وأهل الكلمة، هناك «الفشَّارون» الظرفاء، و«الفَشْر» كلمة عامية تعني الكذب غير الضار، الذي يُقصد منه اللهو والمرح والمزاح واستثارة الضحك من القلوب والترويح عن النفوس، والاستئثار بانتباه الآخرين عبر رواية قصص تنطوي على مغالاة في تفاصيلها على نحو يصعب تصديقه، وفي الوقت نفسه تراها تأسر اهتمام المستمعين.
من أشهر الشخصيات الفشَّارة في عالمنا العربي «أبو لمعة»، الفشَّار الأول في مصر، حتى صار يُضرب المثل به فيقال عن أحدهم «ولا أبو لمعة»، كناية عن فشره المفضوح! و«أبو لمعة» هو الشخصية التي تقمَّصها الممثل الراحل محمد أحمد المصري في مسلسل «ساعة لقلبك» الإذاعي، الذي اشتهر بحكاياته المختلقة التي كان يرويها عن الخواجة بيجو، كادعائه أنه ذهب إلى الإسكيمو مرة وتمدد تحت شجرة آيس كريم، مرتدياً جلابية مقلَّمة! أو أنه بنى الأهرام بنفسه، أو قتل عشرة أسود برصاصة واحدة. وفي مصر أيضاً، هناك «أبو العربي»، الشخصية البورسعيدية الفولكلورية، الذي يعمل بين صيد السمك والجمرك، حيث عُرف عنه الفشر والفهلوة ومغالاته في بطولاته والحروب التي خاضها وادعائه صداقاته بزعماء العالم.
وفي خليجنا العربي، هناك «أبو شلاخ» أو «بو شلاخ»، المأخوذ من كلمة «شلخ»، التي تعني -من بين معان عدة- «الكذب». ولا يشير أبو شلاخ إلى شخصية بعينها وإنما إلى «بطاقة توصيف» تلصق على جبين كل من يذهب بكذبه وفشْره ومغالاته حداً فاضحاً. ولقد استثمر الأديب والشاعر الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي شخصية أبي شلاخ سردياً في روايته المعنونة «أبو شلاخ البرمائي»، التي يقدِّم فيها أبا شلاخ، الذي لفَّ العالم، فأبحر في المكان والزمان، وشارك في صنع القرارات وصوغ الأحداث والحروب، وشكَّل عوناً ورأياً يُؤخذ به وهو الشاعر والعاشق والإنسان الخارق، الذي سبق عصره، في جعبته من الحكايات ما تفوق في خيالها «الفشَّار» الجامح كل خيال.
يمكن القول، في المجمل، إن الفشَّار شخصية تاريخية وعالمية، ندر أن تغيب في التراث الإنساني. ومن بين أشهر الفشارين في الثقافة الشعبية الغربية البارون مونخهاوزن، الذي عاش في الأعوام بين 1720 و1797م، وهو بارون ألماني خدم في الجيش. وعند عودته إلى موطنه، استعرض بطولاته ومغامراته التي كانت فشراً في فشر، من ذلك ادعاؤه أنه سافر إلى القمر على متن قذائف مدفع. ولقد شكَّلت مغامرات مونخهاوزن المزعومة مادة كتب وحكايات خرافية تُروى للأطفال، وفي العام 1998م، تحوَّلت بعض هذه المغامرات إلى فِلم سينمائي بعنوان «مغامرات البارون مونخهاوزن». وثمة اضطرابان نفسيان مستلهمان من اسمه ومن خرافاته، فهناك «متلازمة مونخهاوزن»، وهو اضطراب يختلق فيه أحدهم المرض بغية الحصول على الاهتمام، وهناك «متلازمة مونخهاوزن بالتأثير»، وهو اضطراب يقوم فيه شخص يرعى شخصاً آخر (الأم في الغالب) باختلاق المرض لدى ابنها أو أي شخص آخر في عهدتها من أجل الحصول على الاهتمام والتعاطف.
كذبة أول إبريل..
احتفاء ولكن..
هناك نوع واحد من الكذب الذي أصبح تقليداً في الغرب، الذي تختبر فيه قدرة المخيّلة البشرية على الفَشْر والاختلاق غير المؤذي. منذ عهد بعيد، يحتفي قطاع عريض في الغرب بما يعرف بـ «كذبة إبريل»، التي تصادف في الأول من إبريل (نيسان) وفيها يمارس البشر الكذب الهزلي من خلال مقالب طريفة يحتالون بها على أحبَّتهم أو زملائهم.
من غير المعروف تاريخ هذه البدعة، لكن معظم المصادر ترجعها إلى أواخر القرن السادس عشر، حين بدأ العمل بالتقويم السنوي الحالي في الغرب، بحيث يكون بدء العام الجديد في الأول من يناير (كانون الثاني)، بدلاً من التقويم السابق الذي كان يحدد رأس السنة الميلادية بين 25 مارس (آذار) والأول من إبريل (نيسان). بحسب التفسير السائد، تبنت فرنسا في ذلك العام التقويم الجديد، لكن العديد من الناس رفضوا قبول التاريخ الجديد وبعضهم لم يسمع به، فواصلوا الاحتفال بالتاريخ السابق لرأس السنة الميلادية. وبدأ الناس الآخرون يسخرون من المتشبثين بالتاريخ القديم، ووصفوهم بالحمقى، وقد يرسلون لهم رسائل تحمل أخباراً مزيفة، أو قد يخدعونهم بحيث يدفعونهم للاعتقاد بما ليس صحيحاً.
على مدى العقود المنصرمة، احتفى الإعلام العالمي بـ «كذبة إبريل» عبر تبني تقليد سنوي تقوم عبره العديد من المؤسسات الإعلامية، حتى المرموقة منها، بنشر قصص وتقارير مفرطة في غرابتها، وقياس قابلية الجمهور لتصديقها وتداولها، ومن ثم نفيها لاحقاً. من أشهر المقالب الإعلامية في هذا السياق تقرير تلفزيوني عرضه برنامج «بانوراما» الوثائقي في محطة «بي بي سي» البريطانية عام 1957م، أظهر إيطاليين يقطفون المعكرونة «السباغيتي» من الأشجار. وزعم التقرير أنه تم القضاء على الحشرة التي كانت تلحق الضرر بحصاد المعكرونة! الطريف أن عددا كبيراً من المشاهدين اتصلوا بالتلفزيون يستفسرون عن كيفية زراعة أشجار سباغيتي في حدائقهم!
غير أن كذبة أول إبريل تنقلب إلى واحد من أسوأ أنواع الكذب عندما تفتقر إلى حسّ الطرفة، فتسبب الأذية لمتلقيها، مثل بعث رسالة تعزية بوفاة شخص عزيز على المتلقي، أو دفعه إلى القيام بعمل شاق لا دافع حقيقي له.. ومثل هذه الأكاذيب لا تكشف إلا عن سوء طباع مطلقيها وافتقارهم إلى الذوق وحسن التصرف.
في نهاية حبله القصير
أخيراً، على حبل الكذب أن يُقطع، ونقطعه هنا مع احتفاليّة أخرى بالفَشْر والفشَّارين، لكنها من نوع خاص: ففي نوفمبر من كل عام، تستضيف مقاطعة كامبريا بإنجلترا مسابقة طريفة تحت عنوان «أكبر كذَّاب في العالم»، يتبارى فيها عشرات الفشَّارين من مختلف أنحاء العالم، بحيث يُمنح كل متسابق خمس دقائق كي يروي الكذبة الأكبر والأكثر إقناعاً. ومن أبطال المسابقة البريطاني جون غراهام المشهور بـ «جوني الكذَّاب»، وهو حامل لقب الكذَّاب الأكبر سبع مرات؛ من بين كذباته الفائزة أن غواصة ألمانية من الحرب العالمية الثانية غزت بريطانيا للاستيلاء على أجهزة فك التشفير الرقمي التلفزيوني.
وعلى مدى تاريخ المسابقة، الحديث نسبياً، لم تفز بها امرأة سوى مرة واحدة، وذلك في بطولة العام 2006م حيث انتزعت الكوميدية البريطانية سو بيركنز اللقب، بفضل روايتها المختلقة حول تضرر طبقة الأوزون وذوبان القمم الجليدية واضطرار الناس إلى الذهاب إلى أعمالهم على ظهور الجمال! وهذا ما يدعم النظرية القائلة إن الرجال أكثر ميلاً إلى الكذب من النساء، سواء لجهة الكذب الأصغر أم الأكبر.
وبعد.. أيمكن أن نعيش في عالم خالٍ من الكذب؟
علينا أن نعترف أن في الحياة مواقف تتطلب مواجهتها الكثير من الشجاعة، والحقيقة لا يقدر عليها إلا الشجعان. فهل نتمتع كلنا ودائماً بما يكفي من الشجاعة اللازمة والكافية للمواجهة المستمرة؟
من يجيب بـ «نعم»، أو يزعم ذلك، هو مجرد سطر في هذا الملف.
أنواع وألوان
لعل من أسوأ أنواع الكذب على نفس صاحبه والآخرين الكذب المدروس المتعمَّد الذي يهدف إلى إلحاق الأذى بالناس، وهو كذب يشي بنية خبيثة ونفس نزَّاعة للشر، فهو كالأسيد الذي يفتت حتى أكثر الروابط صلابة ومتانة، وهو بذرة فاسدة لا تروم منها نبتة صحية قابلة للنماء. لكن ليس كل الكذب كذباً في صيغته الأكثر سطوعاً؛ أي منافاة الحقيقة واجتناب الصدق، فالكذب أنواع ودرجات وألوان. ويجدر بنا هنا أن نتوقف عند بعضها.
فهناك «الكذب المكشوف»، الذي يبدو للجميع كذباً فجاً لا يسعى إلى تحقيق ضرر أو إلحاق أذى بالضرورة. وهناك «التلفيق» أو «الاختلاق»، وذلك حين يقول أحدهم كلاماً أو ينقل رواية أو واقعة يزعم أنها حقيقية دون أن تستند على حقائق مثبتة، وعلى الرغم من أن الرواية قد تبدو قابلةً للتصديق إلا أنها غالباً ما تكون مختلقةً أو مفبركةً، وهو تلفيق قد ينطوي على رغبة لإثارة إعجاب المتلقي أو للتأثير عليه أو لإرضاء غرورنا الشخصي.
وهناك التضليل، وهو إعطاء المعلومات التي تدفع الآخر إلى الاعتقاد بما هو ليس صحيحاً، أو تقديم وقائع ومعلومات حقيقية بالمعنى الحرفي للكلمة لكن بطريقة يُراد بها التضليل على طريقة «حق يُراد به باطل». وهناك الحنث باليمين، وهو الكذب تحت القسم في شهادة أو في مسألة قانونية، وقد تكون شهادة شفهية أو مكتوبة؛ وأياً كانت طبيعتها، فهذا النوع من الكذب مصنَّف ضمن الجرائم.
ثم هناك «البَلْف»، وهو الخداع الذي يمارسه أحدهم على الآخرين، فنقول إن شخصاً ما «يبلف»، أو يدعي امتلاكه مقدرة أو نية غير موجودة فعلياً، و«البَلْف» صفة المخادعين الذين يشقون طريقهم في الحياة والعمل على أجنحة من كذب، يحلقون بها لبعض الوقت، لكنهم سرعان ما يقعون. ضمن توصيف «البلف» أيضاً، نذكر الكذب الذي يُتقصّد منه الظهور بمظهر ليس حقيقي، لإرضاء الذات، التي تتآكلها الدونية والشعور بالنقص، ولإرضاء الآخر الواقع ضمن نخبة متفوقة أو مختلفة. وهو كذب يميل البعض إلى التخفيف من وطأة الزيف فيه فيصفه بـ«التجمُّل». ونستحضر هنا حجة النجم العربي الراحل أحمد زكي في فِلم «أنا لا أكذب ولكني أتجمل»، الذي جسَّد دور طالب جامعي فقير يتحايل على بيئته البائسة بادعاء صفة غير حقيقية وتقمص كيان اجتماعي ليس له، كي ينسجم مع البيئة الاجتماعية التي يريد الانتساب لها عبر علاقته مع فتاة جامعية من عائلة ميسورة.. وحين تقع المواجهة أخيراً، يستجير البطل «الكذَّاب» بما يُعرف في علم النفس بحلول توفيقية لتبرير خديعته، قائلاً بأنه لم يكذب حين نسب لنفسه وضعاً وسياقاً اجتماعياً لا ينتمي له، كل ما في الأمر أنه كان «يتجمَّل» ليقبله الآخر!
من أنواع الكذب الدارجة أيضاً ما يعرف بـ «الكذب الأبيض»، وهو ألطف أنواع الكذب وأخفه ضرراً وإضراراً، إذ يهدف إلى تجنب ما قد تلحقه الحقيقة من آثار غير مرغوبة. فترى الكذبة البيضاء -كون البياض يرمز إلى نقاء السريرة وسلامة النية- وسيلة يلجأ إليها البعض لتجنب «زعل» من يحب أو لحمايتهم أو لإرضائهم، وفي جميع الأحوال للحفاظ على تلك اللحمة الإنسانية اللازمة للتواصل البشري: كأن تثني مثلاً على شيء بوصفه جميلاً، دون أن يكون جميلاً في حقيقة الأمر لا لشيء إلا لأن الحقيقة لن تسهم إلا في زعزعة علاقتك بصاحب الشيء. هنا، تندرج المجاملات عادة في إطار الأكاذيب البيضاء. وقد تكون الكذبة البيضاء ذات غاية محمودة أكثر وذلك حين نضطر إلى أن نلوي الحقيقة أو نحرِّفها حماية لمشاعر الآخر، الذي قد تجرحه حقيقة لا يتوقعها أو لا يريدها.
مقابل الكذب الأبيض، هناك الكذب الأسود، المتمثل في أنصاف الحقائق أو أشباه الحقائق، وهي من أخطر أنواع الأكاذيب ذلك أنها تكون منكَّهة بالحقيقة، محيكة بها بطريقة تخدم الكذبة وتجعلها أكثر قابلية للصمود والتداول والتصديق. وهذا من طراز الكذب الاستراتيجي الذي يحدث بلبلةً في الفكر وخلطاً في المشاعر، لذا لا غرو أن يشير الشاعر الإنجليزي ألفريد لورد تينيسون قائلاً: «إن الكذبة التي تكون نصف حقيقة هي أكثر أنواع الكذب اسوداداً».
على أننا قد نكذب حتى من دون أن نكذب وذلك بإخفاء الحقيقة أو السكوت على ما يجب قوله، بحيث نتعمَّد إخفاء معلومة ما عن أحدهم، أو نغض الطرف عن تداول فهم خطأ فلا نسعى إلى تصويبه، فنراقب الآخرين سادرين في غيِّ قناعات مغلوطة دون التدخل بتوفير معلومات جوهرية تعيد تقييم هذه المفاهيم أو الأفكار أو تنسفها جملة وتفصيلاً.
في إطار الكذب المحمود نوعاً ما، دون أن يكون مقبولاً، المبالغة التي يُشار لها كذلك بـ «مطّ الحقيقة»، أو جعل شيء ما يبدو ذا معنى أكبر مما هو عليه في الواقع.
أعذب الشعر
أعذب الشعر
ثمة ضربٌ من الكذب الجميل والعذب والممتع والمغفور له: إنه الشعر بوصفه الكلام المباح حتى وإن غالى وشط وتخطَّى حدود التصديق، ذلك أن الحكمة هنا للبلاغة، فإذا كانت المبالغة سبيلاً لها كي تتحقق فلا بأس، وإلا لما قيل «أعذب الشعر أكذبه».
ربما يجدر بنا أن نتوقف عند هذه المقولة من منطلقين؛ الأول إيجابي، ويدخل مجال البلاغة القديمة ويمكن أن ينسحب على النقد الحديث أيضاً، بمعنى أنه يطالب الشعر بنوع من الانزياح عن المعنى الأول للألفاظ، إلى معنى مختلف، غالباً ما يكون على شكل صورة. ولعل أبلغ ما توصل إليه الشعراء في هذا المجال، كان يتعلق بالمبالغة في الوصف، من أجل ضمان ما يحاول الذهن أن ينقله. إن أبا الطيب المتنبي -مثلاً- يعرف أن ورد، بمعنى الأسد، لا يملك قوة زئير ينطلق من بحيرة طبريا في فلسطين، ليصل إلى نهر الفرات في العراق، ونهر النيل في القاهرة، على بعد كيلومترات، لكن المبالغة جاءت في بيت الشعر الذي وصف فيه الأسد، مكمِّلة للبلاغة اللفظية، التي جعلته يكرِّر حروف «ورد» لتحمل إيقاعاً مثيراً:
وردٌ إذا ورَدَ البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
والشعر العربي ممتلئ بهذا النوع من «الكذب»، ومنه يستمدّ كثيراً قدرته على الإدهاش من خلال صور مركبة. الكذب في هذا الاتجاه ليس كذباً حقيقياً، لأنه مجموعة من «الحيل» الفنية التي يكون الهدف منها إدهاش المتلقي. وقد انتقل هذا التوجه إلى الصور الشعرية في كل الأزمنة، في الشكل الشعري المتوارث، وفي الأشكال المحدثة. يقول محمود درويش مثلاً:
لم نأت من بلد إلى هذا البلد
جئنا من الرّمان، من سرّيس ذاكرة أتينا
من شظايا فكرة جئنا إلى هذا الزبد
لا تسألونا كم سنمكث بينكم، لا تسألونا
أيّ شيء عن زيارتنا. دعونا
نفرغ السفن البطيئة من بقية روحنا ومن الجسد.
ومن الواضح، عند التأمل الموضوعي، أن كثيراً مما يحمله النص يدخل باب الكذب، ومع ذلك ففيه البلاغة الشعرية التي تصوِّر واقعاً، عن طريق الانزياح عنه.
المنطلق الثاني لـ «أعذب الشعر أكذبه» سلبي، إذ يحتمل أن ذلك قيل من باب السخرية ممن كانوا يكذبون -من الشعراء- في بلاط السلاطين، وسيلتهم الوحيدة للتكسب؛ لذلك يمكن أن يدخل في باب المفارقة التي تقول الشيء لتوصل إلى نقيضه. ونستشهد ثانية بشعر المتنبي، وخصوصاً ما قاله في كافور الإخشيدي؛ فبالرغم من كثير من المبالغة في وصف هذا الحاكم ومدحه، ثبت في النهاية أن الشاعر كان يحتقره.
لكن أبرز ما حدث في هذا الاتجاه هو المديح الذي يُشتمّ منه التهكم على الفور، لا كما في حال المتنبي وكافور. ويُعد الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان نموذجاً جيداً في هذا التوجه، خصوصاً وهو يتعامل مع المستعمرين، أو مع السياسيين الذين يدَّعون الوطنية، وتضيع البلاد من أيديهم:
أنتم المخلصون للوطنية
أنتم الحاملون عبء القضية
أنتم العاملون من غير قول
بارك الله في الزنود القوية
وبيان منكم يعادل جيشا
بمعدات زحفه الحربية (…)
وخلاص البلاد صار على
الباب؛ وجاءت أعياده الوردية
كم كذب شعراؤنا ويكذبون وكم صدقناهم وسنصدقهم أو لعلنا نؤثر أن نصدقهم. ذلك أن الحياة المطعمة بعذب الكلام، المطرزة بالاستعارات والتشبيهات وبدائع اللغة وبديع الصورة وبلاغة الخيال في فضاء يتأرجح بين المبالغة والمغالاة، الذي يحاذي الكذب، حياة محتملة، وعيش هذه الكذبة الشعرية أو التعايش معها ليس جريمة. قد لا تكون الصورة الشعرية صادقة، لكنها تعكس صدقاً في الشعور وارتقاءً في العاطفة. هنا تحضرني أبيات الشاعر جميل بن عبدالله بن معمر العذري القضاعي، أو جميل بثينة كما يُعرف:
ارحَمِيني، فقد بلِيتُ، فحَسبي
بعضُ ذا الداءِ، يا بثينةُ، حسبي!
لامني فيكِ، يا بُثينةُ، صَحبي،
لا تلوموا، قد أقرحَ الحبُّ قلبي!
زعمَ الناسُ أنّ دائيَ طِبّي،
أنتِ، والله، يا بُثينةُ، طِبّي!
رعى الله إرثك يا جميل، ونوَّلك بقاءً جميلاً فوق بقائك! لو أن كل القلوب تتقرَّح بسبب الحب، لما ظل قلب ينبض بالعافية، ولو أن بثينة وكل النساء «البثينات» هن الطبّ لشُفي كل الرجال!
في النهاية، تجوز للشاعر «الكذبة» التي لا تجوز لغيره! يحق له أن «يبلف» وأن يغالي ويجول ويصول في عوالم «الكذب» الشعري ليست الآثمة بالمطلق!
«بروباغاندا» الحرب
من أكثر الأكاذيب خطورةً واستشراءً تلك التي تُروَّج في الحرب، وعن الحرب، والتي تكتسب «قانونية» و«مشروعية» خاصة بها عملاً بالمقولة الشائعة «كل شيء مسموح في الحب والحرب»! فتحت مفهوم «الإعلام الحربي»، يتحول الكذب فجأة إلى ضرورة قومية، تمليها شروط ذات نفس وطني تعبوي، لا يخلو من تفخيم لغوي من نوع: «الحفاظ على الوحدة»، و«تماسك اللحمة الوطنية»، وما إلى ذلك من تعبيرات تهدف إلى تبرير تغييب الحقيقة واعتماد المعلومات المضللة وتزوير البيانات وتلفيق الانتصارات والتعتيم على الهزائم! هذا النوع من الإعلام يُعرف بـ«البروباغاندا» أو الدعاية الإعلامية الحربية. وفق المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه البروباغاندا، الحقيقة «نحن» والكذب «هم»، كائناً من كان «نحن» وكائناً من كان «هم»! إن البروباغاندا في كل صيغها منحازة بالضرورة، ولا يمكن أن تكون موضوعية فيما تقدِّمه من معلومات، فهي انتقائية، اجتزائية، تشويهية، تروم التأثير في الجمهور، سواء بالكذب أو بإخفاء المعلومة، بغية صوغ تعاطف أو اتجاه في الرأي العام يخدم غايات جهة بعينها، وغالباً ما تكون هذه الجهة ذات أجندة سياسية.
لعل أشهر أقطاب الدعاية الحربية في التاريخ الحديث جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر في الأعوام من 1933 إلى 1945م. استخدم غوبلز تقنيات الدعاية الحديثة لتحضير الشعب الألماني نفسياً لخوض حرب شرسة ومدمرة، ذات طابع إبادي، فارضاً كذلك سيطرة توتاليتارية على وسائل الإعلام والفنون ومصادر المعلومات في ألمانيا، مطوراً في هذا السياق مفهوماً خاصاً لما يعرف بـ «الكذبة الكبيرة»، وهو القائل: «إذا رويتَ كذبة كبيرة بما يكفي وكرَّرتها تباعاً، فإن الناس سوف يصدقونك في النهاية»، معلناً بأن «الحقيقة هي أكبر عدو للدولة!».
والواقع أن غوبلز، الذي تصاغ رؤيته للإعلام الحربي أحياناً بالقول: «اكذبوا، اكذبوا، لا بد من أن يبقى منه شيء» لم يكن حالة استثنائية، بقدر ما كان «طليعياً» إذا جاز التعبير في الكشف عن خطورة الحقيقة في زمن الحرب.
فالدور الإعلامي الذي لعبه الإعلام في الكشف عن الحقائق خلال حرب فيتنام مثلاً، لعب دوراً أساسياً في تحديد مسار هذه الحرب وإنهائها بالشكل الذي انتهت فيه. ويبدو أن ذلك كان درساً للسياسيين وإعلامهم الرسمي. ومن الذين حفظوا هذا الدرس، بريطانيا في «حرب الفوكلاند» ضد الأرجنتين، إذ لجأت إلى ما يُعرف بـ «press pooling» أي التجمع الصحافي من خلال جمع الصحافيين في مراكز معينة أو اصطحابهم في جولات معينة حيث يمكن إطلاعهم على ما هو «ملائم» بعيداً عمَّا هو «غير ملائم». ومن دون الدخول في التفاصيل الكثيرة، يمكن القول إن لكل حرب «غوبلزها» الخاص، وطريقة خاصة في إخفاء الحقائق وترويج الأكاذيب.
وعندما يسعى الإعلام الموضوعي إلى التفلت من القيود المفروضة عليه، حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً، نرى بعض المذيعين يعلنون بحماسة جلية: «التقرير التالي يضم مشاهد مؤلمة، ولا ننصح ذوي النفوس الضعيفة بأن يروها!» ثمة أناس لا قدرة لهم على رؤية الحقيقة، وهذه حقيقة.
بينوكيو.. أنفه يفضح كذبه
في العام 1883م، أهدى الكاتب الإيطالي كارلو كولودي قرَّاءه، كباراً وصغاراً، روايته المعنونة «مغامرات بينوكيو». وكان النصف الأول من الكتاب قد كُتب على شكل قصة مسلسلة بين العامين 1881 و1883م قبل أن تظهر الرواية أخيراً كاملة، لتتحول إلى واحدة من أشهر كلاسيكيات أدب الأطفال، وإن لم يتقصَّد كولودي أن يكون عمله موجهاً للأطفال بالضرورة.
تدور الرواية حول مغامرات الفتى الشقي بينوكيو، وهو دمية خشبية مصنوعة من خشب الصنوبر نحتها حفَّار خشب فقير يُدعى غيبيتو في قرية إيطالية كائنة في مقاطعة توسكاني. ما إن يفرغ غيبيتو من صنع بينوكيو، الذي يعني اسمه باللهجة التوسكانية بالإيطالية «صنوبرة» حتى يبدأ أنف الفتى الخشبي يطول. ثم يقترن تغير طول أنفه لاحقاً بكذبه. لكن بينوكيو لم يرد شيئاً من الحياة سوى أن يتحول إلى ولد حقيقي، وهي أمنية تبدو بعيدة ولا تتحقق إلا أخيراً، مكافأة له لأنه تعلم دروس الحياة ونضج ولم يعد شقياً.
نالت «مغامرات بينوكيو» شهرة عالمية تخطت إيطاليا وقفزت عبر حقب التاريخ، حيث تم استلهامها في العديد من الأعمال المسرحية والاستعراضات الموسيقية والمسلسلات الكرتونية والأفلام السينمائية. ثمة على الأقل أربعة عشر فِلماً ناطقاً باللغة الإنجليزية عن بينوكيو (لعل أشهرها فِلم «بينوكيو» الذي أنتجته ديزني عام 1940م) ناهيك عن نسخ فرنسية وإيطالية وروسية وألمانية ويابانية وغيرها.
الكذب يهدي إلى الفجور
الكذب أخو الخيانة وشر القول، وهو من المحرمات في كافة الأديان، وعدّه الإسلام من المعاصي وأنه أساس لكل شر، ومفسدة لحياة الناس وضمائرهم.
وقد ذمّ الإسلام الكذب ومقترفيه في مواطن عديدة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ومنها قوله تعالى: {}
فى قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ بِما كانوا يَكذِبونَ
{(البقرة: الآية 10)، وقوله تعالى: }إِنَّما يَفتَرِى الكَذِبَ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِـٔايٰتِ اللَّهِ ۖ وَأُولٰئِكَ هُمُ الكٰذِبونَ{ (النحل:105)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهدى مَن هُوَ كٰذِبٌ كَفّارٌ} (الزمر: 3)، وقوله تعالى: }
وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هٰذا حَلٰلٌ وَهٰذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ{ (النحل: 116)، وقوله تعالى:{وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَو كَذَّبَ بِـٔايٰتِهِ ۗ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّٰلِمونَ} (الأنعام:21).
وفي الحديث، قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتبَ عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً)، وقوله (صلى الله عليه وسلم): ( آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمن خان)، وفي رواية أخرى: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
وشدّد الإسلام على منع الكذب ليس اختلاقاً فحسب، بل حتى رواية، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع)، كما منع الكذب لمجرد إضحاك الآخرين، قال (صلى الله عليه وسلم): (ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحك به القوم ويلٌ له ويلٌ له). كما أكد عدم الكذب في المتاجرة والمعاملات بين الناس، وربط البركة فيها بالصدق، قال (صلى الله عليه وسلم): (البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صَدَقا وبَيّنا بورك لهما في بَيعِهما، وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما).
غير أن الدين الإسلامي استثنى حالات اضطرارية أباح فيها الكذب، من أجل غايات سامية. في هذه الحالات لا يُستخدم الكذب لتحقيق أهداف أنانية فردية، بل لتحقيق خدمة للغير أو للمجتمع، دون إيقاع ضرر بالآخرين. ومن ذلك الكذب لإصلاح ذات البين وإطفاء الفتن. فقد ورد في صحيح مسلم بشرح النووي: «عن أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط (رضي الله عنها) أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول ليس الكذَّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً وينمي خيراً.
إذن فالكذب ممارسة مقيتة في الإسلام وضرب من الدناءة ومفتاح لكل شر، وإنما أباحها في حالات استثنائية من باب الضرورات، ومن أجل غايات سامية.