كيف له أن يخفى وهو جارنا الأقرب؟
لقد شاء الله أن يطل علينا كل مساء أنيساً يبدد وحشة الظلام، وشاهداً أبدياً على ما يجري في عالمنا.
ما من عنصر من عناصر الطبيعة حظي في الأدب وخاصة في الشعر بالمكانة التي حظي بها القمر.
صادقه الشعراء الذين ألفوه في ليالي السهر، وفتنهم جمال ضوئه شديد الرفق بالأحاسيس، فدخل عالم الأدب منذ أن ظهر الأدب، ولم يُستنفد موضوعه حتى اليوم.
شغل العلماء منذ أن ظهر العلم، فكان السند الأول الذي ركن إليه الإنسان لاحتساب الوقت والزمن. ولا يزال موضع بحث ودراسة واستكشاف، حتى بعد أن وطأته قدم الإنسان، الأمر الذي شكل في حينه ذروة انتصار للعلم والحلم معاً!
فريق تحرير القافلة اقترب في ملف هذا العدد من القمر, شعراً وأدباً, وعلماً, في تفاصيلَ قد تخفى على الكثيرين.
القمر في معتقدات الشعوب القديمة
عندما احتاج الإنسان للمرة الأولى إلى احتساب الزمن لم يجد معيناً له على ذلك أفضل من القمر. لم يكن سهلاً على الإنسان ملاحظة تحرك النجوم وموقع الشمس في قبة السماء، لكن ملاحظة اختفاء القمر، ثم ظهوره من جديد هلالاً، واتساع صفحته المضيئة شيئاً فشيئاً ليصير بدراً قبل تقلصه، كانت أبسط الأمور عند أولئك الذين وجهوا أبصارهم إلى السماء. فعدّوا الأيام، ولاحظوا انتظام هذه الظاهرة وتكررها كل 29 يوماً تقريباً.
وقد اشتُقّ تعبير التأريخ، وهو رصد الأيام والسنوات، من كلمة أرخو السامية القديمة، وهي اسم القمر في العصور السالفة.
تضافر التقويم القمري، مع وضوح الرؤية شبه الدائمة بالعين المجردة، على فتح الباب واسعاً أمام دخول القمر في العادات والتقاليد، ففي ميزان التشاؤم والتفاؤل، يتفاءل العرب بالهلال الجديد، إلا هلال صفر، فيقولون عن مشاريع ينوونها: “إن مرّ صفر بخير”… ودخل الهلال في اللغة على أنه البداية، فيُقال “استهل ولايته بكذا وكذا …” من الهلال.
وأما البدر فيشبهون به البنت الجميلة “قمر أربعتش” أي مستديرة الوجه مثل قمر ليلة الرابع عشر من الشهر. ومع ذلك لا يرون في القمر فائدة أحياناً، إذ يقولون “أنت مثل القمر، بتونّس وما بتنفع”، أو “القمر بيونّس وما بيحميش”.
ومن حب الناس للقمر، سموا أولادهم بأسمائه المختلفة: قمر وبدر وهلال، كما سموا أيضاً: شمس وشهاب ونجم ونجمة وثريا وسهيل وغيرها من أسماء الأجرام السماوية.
وكان لكل يوم عند العرب كوكبه فللإثنين القمر، وللثلاثاء المريخ، وللأربعاء عطارد… ونقلت شعوب أوروبا هذه المعتقدات، حتى أنهم سمّوا أيام الأسبوع بأسماء هذه الكواكب.
فالفرنسيون يسمون يوم الإثنين Lundi من لفظة Lune التي تعني القمر. وكذلك الإنجليز Monday من Moon، والألمان Montag من Mund والإيطاليون Lunedi من Luna.
غير أن القمر لعب دوراً رمزياً أعمق من هذا عند الشعوب الوثنية القديمة. فقد كانت الشمس رمز الذكر المخصّب، أي الذي يبذر البذار في الأرض الزراعية، أما القمر، فهو الأنثى التي تتلقى البذار وتحمل وتثمر. ويلاحظ أن بعض اللغات، خاصة الأوروبية منها احتفظ بأنوثة القمر وذكورة الشمس حتى الآن، كما هو الحال في اللغة الفرنسية. أما الإنجليز فلا يزالون يحملون في لغتهم بعض آثار هذا المعتقد، إذ أن كلمة الزوج هي Husband ، وكلمة زراعة هي Husbandury.
وفي مصر الفرعونية ارتبطت دورة القمر الشهرية بأسطورة أوزير وصراع الخير متمثلاً في حورس مع الشر متمثلاً في ست. فصارت مرحلة اكتمال القمر تمثل لحظة انتصار أوزير واستعادته العرش بمساعدة أربعة عشر يوماً قمرياً، وكأن كل يوم يمثّل شخصاً. لهذا، ارتبطت الدورة القمرية بتجدد القوى الملكية في مصر الفرعونية، باعتبارها في صراع مستمر مع الشر الذي يهدد البلاد. كما أن نصوص الأهرام الموجودة في مقابر ملوك الدولة القديمة تصف المتوفى بأنه «قمر» لضمان تجدد بعثه دورياً بلا نهاية.
ولم تبتعد القبائل الإفريقية كثيراً عن هذه الأفكار، ذلك أن كهّان القبائل الذين يمارسون السحر والشعوذة، لا بد لهم من التضحية إما بذبح معزة أو بهبة أرز أو ذرة أو زيت لجلب الخصب إلى القبيلة. لكن هذه الأضاحي لا بد وأن يكون موعدها بداية شهر قمري جديد لأن القمر هو رمز الخصب. وكثيرة هي الحكايات التي وصلتنا من الشعوب القديمة وأساطيرها حول القمر، منها ما يقول إن القمر يتحطم مرة كل شهر وأن النجوم هي حطام القمر القديم.!
وفي محاولة لتفسير البقع الداكنة على سطح القمر، تقول إحدى الأساطير إن القمر كان يلاحق الشمس بحبه لها حتى أغضبها، فلطخت وجهه المستدير بالرماد كي يدعها وشأنها، ومنذ ذلك الحين والقمر يحتفظ بتلك البقع السود !!
وفي واحد من المفاهيم الخرافية الظريفة أن القمر يساعد عروس المستقبل، إذ عليها أن تنظر إلى الهلال من منديل حريري وتقول “أيها الهلال أيها الهلال، انا أحييك أيها الهلال، أيها الهلال كن لطيفاً معي؛ إن كنت سأتزوج فأرني كم شهراً سأظل عازبة”. وبقدر ما ترى من أهلّة من ظلال المنديل يكون عدد الشهور التي تبقى فيها عازبة!.
العرب والتقويم القمري
القمر في معتقدات العرب وتقاليدهم وعاداتهم وأدبهم، غير القمر في معتقدات الشعوب الأخرى، فالعرب في الإجمال يقطنون بلاداً حارة أو معتدلة المناخ. والليل عندهم سانحة جميلة للخروج تحت القبة داكنة اللون المرصعة بالقمر.
كان عرب شبه الجزيرة يعتمدون تقويماً قمرياً، غير أن العرب مثل كل الشعوب القديمة أيضاً لاحظوا أن المواعيد السنوية في تقويمهم القمري، لم تكن ثابتة في موقعها من السنة الشمسية. فالشهر الذي يصادف الصيف هذه السنة، يصادف الربيع بعد تسع سنوات، ثم الشتاء بعد تسع سنوات أخرى، وهكذا. وسبب هذا الانزلاق، هو أن السنة القمرية 354 يوماً، فيما تستغرق الأرض لتدور دورة كاملة حول الشمس 365 يوماً و 5 ساعات و 48 دقيقة وبضع ثوانٍ. وهذا يعني أن الشهر القمري “ينزلق” من الشتاء صوب الخريف فالصيف فالربيع، نحو 33 يوماً كل ثلاث سنوات. ويقلّ القرن الهجري (القمري) عن القرن الميلادي (الشمسي) نحو 3 سنوات. ولمعالجة هذا الأمر اتبعت الشعوب القديمة أساليب مختلفة. فمنهم من أبطل التقويم القمري واعتمد الشمسي، مثل الفراعنة الذين جعلوا سنتهم 360 يوماً (12 شهراً من 30 يوماً الشهر) زائدة 5 أيام أعياداً واحتفالات. كذلك اعتمد يوليوس قيصر، سنة 44 ق.م، السنة الشمسية، وجعلها 365 يوماً. وكانت بعض الشعوب القديمة تعمد إلى زيادة شهر كل ثلاث سنوات قمرية لتعود المواعيد القمرية إلى مكانها في السنة الشمسية.
ويسمى أسلوب زيادة شهر أو أيام إلى التقويم، لمنع إنزلاق المواعيد عن مواقعها في السنة الشمسية “الكبس” أو “الإنساء”، لأنهم يُنسِؤون الشهور، أي يؤجلونها، حين يضيفون في ما بينها شهراً.
ما يقولـه العلم
قمرنا هو أكبر الأقمار في المجموعة الشمسية، يدور حول نفسه كل شهر تقريباً، وهي المدة نفسها التي يتطلبها ليدور حول الأرض في مدار شبه بيضاوي.
يبعد عن الأرض ما بين 406000 و 356000 كيلومتر حسب موقعه على المدار. والمحور الذي يدور به القمر على نفسه لا يسمح لنا برؤية غير 50 في المئة من سطحه، وأحياناً قليلة 59 في المئة. وهو ينزاح عن الأرض بنحو 3.82 سم كل يوم، ما يجعله يدور حول نفسه وحول الأرض ببطء متزايد…
وأظهرت الفحوص المخبرية التي أجريت على صخوره، أن تركيبة القمر المادية قد تمت بالقرب – أو في المكان نفسه – من المكان الذي تكونت فيه الأرض في النظام الشمسي.
“يشبه القمر كومة من الرمل لعب عليها أولادي” على حد قول أحد أفراد طاقم المركبة الفضائية “أبولو”، فلونه رمادي ومتبقع نتيجة ضربات النيازك والأجرام الكثيرة، ومليء بالهزمات وكأنه إنسان أصيب بالجدري. يبلغ قطر بعض الحفر عليه مئات الكيلومترات، ويعود معظمها، كما يعتقد علماء كثر إلى “فترة القصف الثقيل”. أي إلى نحو أربعة مليارات سنة ولا تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم، من دون أن تستطيع التحركات التكتونية أن تزيل آثارها. وبعض المرتفعات الطبشورية تمتد على سطح القمر إلى كيلومترات عدة، وبعض الجبال يصل ارتفاعها إلى حوالي عشرين ألف قدم مثل جبال أبنين Apennine. ولا يوجد للقمر غلاف جوي ليحميه من التأثيرات الكونية العديدة ومن حرارة الجو المتقلبة بين الليل والنهار.
كيف تكوّن؟
الفرضيات والنظريات العلمية حول تكوّن القمر عديدة ومتضاربة. إذ تقول نظرية “الالتقاط” إن القمر كان جرماً بعيداً في النظام الشمسي، تمكنت الأرض من جذبه وجعله يدور حولها في مداره الحالي.
أما افتراض “الحلقة” فيقوم على أن جسماً خارجياً تائهاً ضرب الأرض منذ حوالي 4.5 مليار سنة، عندما كانت حديثة التكوين فتطايرت فلذ أرضية في الفضاء مكونة حلقة أخذت مدارها حول الأرض مشكلّة في البداية أقماراً صغيرة، تكتلت لاحقاً لتُشكّل القمر.
من جهة أخرى، تقول نظرية “الانشقاق” أن الأرض الحديثة التكوين كانت تدور حول نفسها بسرعة تقارب الدورة الكاملة كل 2.5 ساعة، ما تسبب بتشكيل نتوء عند خط الاستواء. وأدى في وقت معين إلى انفصاله عن الأرض ومتابعة الدوران منفصلاً. ويعتقد العالم جورج داروين أن القطعة التي انفصلت عن الأرض كانت تقع في موقع المحيط الهادئ حالياً، بسبب شكل الفجوة التي يشكلها قاع هذا المحيط في الكرة الأرضية.
القمر والحياة على الأرض
للقمر آثار بالغة الأهمية على حياتنا الأرضية، وذلك من خلال الدور الذي يلعبه في حركة البحار والمحيطات وانعكاس ذلك كله على المناخ الأرضي.
فالقمر يجذب مياه البحار والمحيطات صوبه، فترتفع في وسطها مما يؤدي إلى تراجعها عن الشواطئ وهذا ما نسميه “الجزر”، وعندما ينسحب القمر إلى الجهة الأخرى من الأرض، يكون قد أفلت هذه المياه من جاذبيته فتعود لتتمدد إذا جاز التعبير – وهذا ما نسميه “المد”.
وعندما يكون القمر على خط مستقيم مع الشمس والأرض، مرتين في الشهر، ينتج عن انسحابه ما يسمى موج الربيع القوي. وعندما تكون الشمس والقمر بزاوية مستقيمة مع الأرض يكون لدينا هلال نصفي، وهو ما يُحدث الجزر المحاقي في الربع الأول والثالث من عمر القمر.
هذا التحريك القمري للمياه هو المحدد الأول لنوعية الحياة على شطآن البحار وحتى في أعماقها. فبعض الحيوانات تغير لونها حسب دورة القمر. وبعض الأسماك تضع بيوضها بتلازم دقيق مع شكل القمر، ومعظمها ينجو من شباك الصيادين عندما يكون القمر كاملاً..
وقد حاول العلم ولا يزال ربط السلوك الإنساني بالقمر، وبشكل خاص حالات الجنون. حتى أن كلمة “Lunatic” الإنجليزية المشتقة من أصل لاتيني “Luna ” تستخدم للإشارة إلى الشخص المجنون. كما أن الفرنسيين يستعملون منذ القرن الرابع عشر التعبير نفسه للإشارة إلى الجنون.
وقد كان الطبيب اليوناني هيبوقراطيس أول من ربط في القرن الرابع ق.م. بين “الجنون ومستوى الرطوبة في الدماغ”. ولأن اليونانيين القدامى ومن بعدهم الرومان تكهنوا بوجود تأثير لجاذبية القمر على مستويات الرطوبة، تعزز الربط بين الجنون والقمر، خاصة عندما يكون بدراً.
وبعدما أهملت هذه الفكرة لقرون عدة على الصعيد العلمي، عادت مؤخراً إلى الظهور، وظهرت نظريات حديثة تكاد تكون أصداء نظرية هييقراطيس. فقد تزايد في السنوات الأخيرة الاهتمام بتأثير القمر على تطور الأعضاء الحية. وعلم “البيولوجيا الزمنية” (CHRONOBIOLOGY) يدرس تأثير إيقاعات القمر على هذه الأعضاء. ويسأل أحد العلماء: “لم لا؟ فأجسامنا تتكون من الماء بمعظمها، فلماذا لا تكون تحت تأثير القمر؟ ربما كان في دمائنا مد وجزر”، كذلك في عواطفنا. ألم يقل شكسبير “إن القمر يجعل الإنسان مجنوناً؟”
الإنسان على سطح القمر
“هيوستن، هنا قاعدة السكون، النسر قد هبط” هذه الجملة كانت أول كلام إنساني يصلنا من سطح القمر. كان ذلك في 20 يوليو 1969م عندما نجحت المركبة الفضائية أبولو 11 في إيصال أول بشري إلى القمر وسط متابعة لم يسبق لها مثيل استقطبت أنظار العالم وحبست أنفاسه من أقصاه إلى أقصاه.
أقلعت أبولو من الأرض التي تدور بسرعة ألف ميل في الساعة، فتوجب الدوران حول الأرض بسرعة 18000 ميل في الساعة، ومن ثم تسريع الدوران حتى 25000 ميل للخروج من مدار الأرض، ومن ثم السفر بسرعة 2000 ميل بالنسبة إلى الأرض للوصول إلى القمر وإنزال سفينة تحمل على متنها رائدي الفضاء نيل أرمسترونغ وأدوين الدرين، اللذين مشيا على سطحه، وأخذا عينات من تربته قبل الإقلاع إلى المدار القمري، ثم التحرر منه والعودة بسلام إلى الأرض، الأمر الذي شكل ذروة انتصار العقل العلمي آنذاك.
وتوالت رحلات أبولو بعد ذلك حتى العام 1972م. وبلغ مجموعها سبع رحلات تكللت بالنجاح ما عدا “أبولو 13” التي يكمن نجاحها في انقاذ روادها والعودة بهم سالمين إلى الأرض في منتصف الطريق بعد عطل خطير طرأ على مركبتهم. وبذلك يكون عدد رواد الفضاء الذين مشوا على سطح القمر 12 شخصاً، عادوا إلينا بحوالي 382 كيلوغراماً من صخور القمر وأتربته، إضافة إلى ما جاءت به بعض المركبات السوفياتية غير المأهولة.
القمر في القرآن الكريم نوراً وقسماً..
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة عن الكون والسماء والنجوم، وكان للقمر نصيبٌ وافر منها، الأمر الذي يؤكد على عظمته وارتباط الإنسان به. فقد أقسم به الخالق سبحانه ثلاث مرات، وسميت سورة من القرآن الكريم باسمه، وورد ذكره 27 مرة بلفظ القمر، ومرة بلفظ الأهلة. ولما كان بعض البشر يعبدون القمر كما عبدوا بعض النجوم والكواكب، لما كان الإنسان يعتقده من تأثيرها عليه، أبطل القرآن هذه العبادة، لأن هذه الأجرام السماوية ما هي إلاَّ من مخلوقات الله ومسخّرة من قبله، ومن ذلك قوله تعالى:
}وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ| (فصلت/37).
والقمر يتحرك حول الأرض بين ثوابت من النجوم يسمى كل منها منزلاً من منازل القمر، وعلى ذلك فإن منازله 28 بعد الليالي التي يُرى فيها، قال تعالى:
}وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ| (يس/39).
ويؤكد القرآن الكريم على وظيفة الدورة القمرية حول الأرض من حيث اعتماد الإنسان عليها لاحتساب الزمن ووضع التقاويم:
}هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ| (يونس/5).
وتتضمن هذه الآية إشارة دقيقة إلى طبيعة كل من الشمس والقمر وتفرق بينهما كون الشمس ذاتية الإضاءة، في حين أن القمر نور، والنور هو شعاع الضوء. والعالم صار يعرف أن الشمس تصدر نورها بنفسها عن طريق الاحتراق، أما القمر فهو يعكس أشعة الشمس الساقطة عليه. ويتأكد المعنى نفسه في آيات أخرى مثل قوله تعالى:
}تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا| (الفرقان/61).
أو قوله سبحانه:
}وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا| (نوح/16).
وورد ذكر حركة القمر في مداره وديمومتها وانتظامها في آيات بينات عديدة منها:
}لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ| (يس/40).
وهناك الآية الكريمة:
}وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ| (إبراهيم/33).
وإضافة إلى ديمومة الحركة القمرية والشمسية، تتضمن هذه الآية توكيداً على أن القمر والشمس مسخران لخدمة الإنسان وفائدته. والواقع أن تسخير القمر حظي بأكبر عدد من الآيات التي ورد فيها ذكر القمر، نذكر منها على سبيل المثال:
}ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى| (الرعد/2).
ومنها:
}وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ| (النحل/12).
وأقَسَمَ الخالق سبحانه بالقمر في آياتٍ ثلاث:
}كَلاَّ وَالْقَمَرِ| (المدثر/32).
}وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ✻ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ| (الانشقاق/18, 19).
}وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ✻ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا| (الشمس/1, 2).
والهلال رمزاً..
ولأن المسلمين يلتمسون هلال شهر رمضان المبارك لبدء الصوم، وهلال شهر شوّال لنهايته وحلول عيد الفطر، وأيضاً هلال ذي الحجة حيث تبنى عليه مناسك الحج وعيد الأضحى، صار الهلال رمزاً رمضانياً وإسلامياً. وأول ما لدينا من أدلة أثرية عليه، نقود نُقشت في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، إذ كان المسلمون يريدون إحلال نقود في التداول لا تحمل رموز دول أخرى، مثل بيزنطة وفارس الساسانية التي كانت قد بادت بعد القادسية، لكن نقودها ظلت متداولة زمناً.
وقد ظهر رمز الهلال في العصور الإسلامية الأولى، وبصحبته نجمة خماسية سنة 75 للهجرة. واعتمده العباسيون في نقودهم رمزاً أيضاً بعد الأمويين. كذلك ظهر الهلال في نقوش مسجد الصخرة في القدس الشريف سنة 72 للهجرة، ثم في نقوش تاريخية من عهد الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله (أوائل القرن الهجري الخامس)، وبقي كذلك حتى العصر العثماني. واستخدم الهلال بكثرة في الأشكال الهندسية التي تميز بها فن العمارة الإسلامية فارتفع فوق المآذن وقباب المساجد.
أما الدول الإسلامية فلم تجعل الهلال يتوسط علمها، حتى ظهر على علم العثمانيين الرسمي في القرنين الثاني والثالث عشر الميلادي. وفي عهد السلطان سليم الثالث
العثماني صار علَمه أحمر اللون يتوسطه هلال ونجمة.
وتبعت العثمانيين تونس في عهد حسين الأول (1824 – 1835م). ورسمت مصر هلالاً أبيض على علمها الأحمر في العهد العثماني. لكن الملكية في عهد فؤاد الأول بدّلت العلم فجعلته أخضر وفي وسطه هلال وثلاث نجوم. واعتمدت باكستان علم الجامعة الإسلامية سنة 1947م، وعليه هلال أبيض، ثم ليبيا وماليزيا، وأخيراً الجزائر.
وفي الحرب بين روسيا وتركيا في الفترة 1876 – 1878م أعلنت الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من أنها كانت قد انضمت إلى اتفاقيات جنيف 1864م من دون أي تحفظات، أنها ستستخدم الهلال الأحمر شارة لها على سيارات الإسعاف التابعة لها مع الاستمرار في احترام شارة الصليب الأحمر كوسيلة حماية لعربات الإسعاف الخاصة بأعدائها. وهكذا بدأ استخدام الهلال الأحمر عملياً في الإمبراطورية العثمانية ووافق المؤتمر الدبلوماسي لعام 1929م، بعد مناقشات مستفيضة، على الاعتراف بشارة الهلال الأحمر التي استخدمت منذ ذلك الوقت من قبل مصر والجمهورية التركية الوليدة. كما وافق المؤتمر أيضاً على شارة الأسد والشمس الأحمرين التي كانت مستخدمة في فارس. وحتى يبطل المؤتمر أية مطالب جديدة في المستقبل، أكد أنه لن يعترف بعد ذلك بشارات جديدة. ومنذ ذلك الوقت ازداد عدد الدول التي اعتمدت الهلال الأحمر شارة لها. وقررت إيران في عام 1980م التوقف عن استخدام شارة الأسد والشمس الأحمرين واستخدام الهلال الأحمر بدلاً منها. وقوبلت بالرفض اقتراحات من دول أخرى لاستخدام شارات بديلة.
أقمار يضيئها الشعـــر، أم أشعار يضيئها القمر؟
الدكتور سعد البازعي
من يقرأ كتاب نازك الملائكة “قضايا الشعر المعاصر” تستوقفه الملاحظة القائلة إن الشعراء العرب المحدثين لم يعودوا يتحدثون عن “البدر” كما كان الحال في الماضي، وأنهم يتحدثون بدلاً عن ذلك عن القمر. والذي يركز الانتباه في القصائد اختباراً لصدقية هذه الملاحظة لا يجد ما يخدشها. ولعل مما يلفت النظر أن الشاعر المنافس لنازك حين أبدت تلك الملاحظة اسمه الأول “بدر”، بدر شاكر السياب، الذي يتحدث عن القمر وليس عن البدر في واحدة من أشهر الصور في الشعر العربي الحديث تضمنتها قصيدته المهمة “أنشودة المطر”:
عيناك غابتا نخيل ساعــة السحـر
أو شـرفتـان راح ينأى عنهمـــا القمــر
المهم هو أن الصورة السيابية تؤكد غياب الدلالة التقليدية الغزلية التي تقوم على استخدام البدر كرمز للحبيب، فالقمر هنا، مع أنه جزء من الصورة العاشقة، فإنه مصدر ضوء راحل عن شرفتين تُشبه بهما عينا الحبيبة. إنه القمر في لحظة نأي وضمور ليمسي، كما في الصورة القرآنية العظيمة، “كالعرجون القديم”، وعلى نحو يذكر بالصورة التي رسمها عمر بن أبي ربيعة في قصيدته الشهيرة التي مطلعها “أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر” حين روى قصة تحينه فرصة اللقاء بامرأة يهواها فيضطره ذلك إلى مجيء الليل وانتظار نوم الناس حوله:
فلما فقدت الصوت منهم وأُطفئت
مصـابيـــح شُبــت في الـعشــاء وأنـــورُ
وغـاب قـميـــر كنت أرجــو غــيوبــه،
وروَّح رعيـــــــــــان، ونــــــــوَّم سمــــــــــــــر
فالقمر المصغر هنا ليس صورة للحبيبة وإنما هو عدو اللقاء بها إذ يهدد بهتك ستره، مما يؤكد أن القمر رمز متعدد الوجوه في الشعر العربي، وأن التعدد وغنى الصور الشعرية الناتج عن ذلك التعدد قرين بالموهبة الشعرية في نهاية المطاف، الموهبة التي تأبى الإذعان للتكرار والألفة، حتى وإن جاء القمر بدراً لا عرجوناً قديماً.
في عصور الشعر العربي المختلفة تكرر القمر في صور شتى يمكن أن تكون شأن صور الشمس أو البحر أو غيرها من عناصر الطبيعة والكون المحيط، بل وصور أشياء لا تحصى غير هذه – مسباراً لتطور الرؤية الشعرية من ناحية، ولقوتها وضعفها من ناحية أخرى. فمن الذي يعرف الشعر العربي وينسى تشبيه ابن الرومي لرقاقة الخبز، أو قطعة العجينة، في يد الخباز، حين يشبهها بالقمر، في تحدٍ شامخ لتاريخ التسامي الرومانسي والأرستقراطي في تصوير رمز مثل القمر؟ وحين نأتي إلى شعر الحداثة، من سينسى ديوان محمد الماغوط، ذلك الشاعر المتصعلك الذي لا يقل شقاءً عن ابن الرومي، “حزن في ضوء القمر”، الديوان الذي يحمل في ثنايا قصيدته الأولى، حاملة العنوان نفسه، ما يخدش النعومة والصفاء الرومانسي التي يوحي بهما العنوان، كما في مخاطبته دمشق:
أيتها العشيقة المتغضنة
ذات الجسد المغطى بالسعال والجواهر
أنتِ لي
هذا الحنين لك يا حقوده!”
ويتصل بانهيار الصورة الرومانسية ما رسمه نزار قباني في قصيدته الشهيرة “خبز وحشيش وقمر” حيث يغدو صديق العشاق الفضي رمزاً لانهيار الإنسان العربي بما فيه من اتكالية وهزيمة وأحلام ساذجة في أعقاب 1967م.
حين يستعرض القارئ صور القمر في الشعر العربي قد يلحظ النقلات سواء في الدلالة المباشرة أو الإيحاء، لكن ما سيلحظه من اختلاف سيكون ضمن الثقافة الواحدة في نهاية المطاف، أي أنه لن يكون مثل ما سيتبين لو أن صور القمر في الشعر العربي وضعت إلى جانب صور شعرية من ثقافة مغايرة. هنا ستتجلى أقمار أخرى كأنها بعض أقمار زحل الكثيرة، أقمار لا شأن لها بوجه الحبيبة، أو حتى بالمجيء إليها والرحيل عنها، أو بالوطن القاسي على أبنائه أو بالهزائم السياسية. في معظم عصور الشعر الإنجليزي مثلاً يفاجأ القارئ مثلاً بأن القمر يرد في صيغة المؤنث، وهو وإن ارتبط في بعض القصائد بالعشق فإنه يرد بعيداً عن التشبيهات أو الأجواء الرومانسية التي اعتدنا عليها في الشعر العربي، كما في بيت ابن زريق:
استودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فالشاعر الإنجليزي السير فيليب سيدني Sidney يكتب قصيدة في القرن السادس عشر عنوانها “بأي خطى حزينة أيها القمر” (With how sad steps, O moon) يتساءل فيها عن أسباب كآبة القمر كما يوحي بها ضعف ضوئه وعما إذا كان ذلك ناتجاً عن أن القمر عاشق، وأن في السماء عشقاً مماثلاً لنوع العشق القاسي المتاح على الأرض، إلى نهاية القصيدة المنظومة على شكل السوناتة (sonnet) والتي تتيح للشاعر بث شكوى حبه من خلال المقارنة.
لكن صورة القمر الذكوري العاشق ليست أبرز ما نجد من أمثلة في الشعر الإنجليزي، وهي كثيرة. فهناك أمثلة تأخذ القمر إلى رحاب التصوير الرمزي المعقد، كما في رائعة الرومانسي كوليرج Coleridge “أغنية البحار العجوز” Rime of the Ancient Mariner التي تروي قصة مجموعة من البحارة يتيهون في البحر ويرتكب قائدهم جريمة قتل تودي بحياة طائر بريء فيحل به عقاب القوى الخارقة في البحر، ويستعمل الشاعر القمر والشمس ليرمزا إلى تغير أحوال الرحلة فيمثُل القمر رمزاً للأمن والطمأنينة بينما ترمز الشمس لعكس ذلك، وإن لم يكونا دائماً على ما يوحي به التقسيم هنا من ثبات الدلالة.
في صورة مغايرة للشاعر الإيرلندي وليم ييتس (توفي عام 1939م) يبدو القمر رمزاً للزمن، وذلك في قصيدة بعنوان “لعنة آدم” يتحدث فيها الشاعر عما حل بالإنسان منذ بدء حياته على الأرض من معاناة جعلت كل شيء بدءاً بالشعر وانتهاءً بالعشق لا يتأتى إلى بعد نضال، وبالطبع فإن ما يبرز هنا هو حرمان العشاق الذي يؤدي إلى بروز القمر، في نهاية القصيدة، بوصفه صورة للزمن المستحيل:
جلسنــا صامتيــن حين ذكر الحـب
رأينا جمرات النهار الأخيرة تذوي
وفي زرقة السماء المخضرة الراعشة
ثم قمـر متعـب كما لو كان صــدفــة
غسلتها مياه الزمن إذ ترتفع وتهبط
حول النجوم وتتكسـر أياماً وسنين
وبعد، هل نبالغ لو قلنا إن صور القمر إذ ترتفع وتهبط عبر القصائد والعصور لا تحمل تفاوت الإبداع ومتغيرات الزمن فحسب، وإنما أيضاً اختلافات الثقافة وغنى الرؤية الإنسانية في نهاية المطاف؟ وهل هو القمر يضيء اختلافات الشعر والثقافة؟ أم الشعر والثقافة يضيئان اختلافات القمر؟
في الشعر العربي
حظي القمر بمكانة كبيرة في آداب العالم وفنونه المختلفة. ولكنه لم يحظَ في أي أدب بالمكانة التي نالها في الشعر العربي، فمنذ العصر الجاهلي، لم يغب القمر عن قصائد العرب، علماً بأن مواضيع الطبيعة والغزل كانت قليلة مقارنة بالفخر والحماسة والمدح والهجاء والرثاء. وقد لجأوا إلى الوصف، لكنه بقي في إطار مادي، ولم يرق إلى الصورة الخيالية التي حفل بها لاحقاً الشعر العربي. عُذرهم في ذلك أن مجتمعهم لم يساعدهم على التأمل الطويل وربط الأفكار وفسح آفاق الخيال، لاضطراب حياتهم برحيل مستمر. ولكن ما إن بدأت الطمأنينة والاستقرار يتوافران لهم، حتى عوّضوا ما فاتهم من مشاعر في قصائدهم، بخاصة في الوصف والغزل. واللافت أن الإنسان الجاهلي كان شديد الشغف بذكر محاسن المرأة، إلا أنه نادراً ما كان يشبِّهها بالقمر أو بالبدر، فهذان كانا لوصف الرجل في الشهرة والسناء، أما المرأة فالشمس أحلى الأوصاف لوجهها.
أما في العصر العباسي ، فلم يغب القمر عن قصائد الشعراء تشبيهاً أو استعارة أو إفراطاً في العاطفة أو اعتبار الحبيب قمراً..
وإذا كان صعباً أو مستحيلاً أن يَخفى القمر في قصيدة عمر ابن أبي ربيعة، فهو يُفتقد في قصيدة أبي فراس الحمداني الذي عاد إلى أجداده الجاهليين مستعيراً منهم مكانة القمر في وصف الرجل وشهرته وسناه، إذ تباهى حين بلغه أن الروم قالوا “ما أسرنا أحداً لم نسلب ثيابه وسلاحه غير أبي فراس”، مبدعاً قصيدته الشهيرة “أراك عصيَّ الدمع”، ليبلغ الفخر ذروته فيها، بقوله:
سيذكرني قومـي إذا جد جدهـم
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
وحتى أبو العلاء المعري، الشاعر الضرير كان له مع القمر، موعدٌ في قصيدته عن الموت المسلط على الناس، فقال في شكِّهم أحياناً في حتميته:
وقد كذبوا حتى على الشمس أنها
تهانُ، إذا حان الشروق، وتُضرَبُ
كــأن هـلالاً لاح للـطعـــن فـيـهــــمُ
حناه الردى، وهو السنان المجرَّبُ
وبانتقال العرب إلى الأندلس، كان القمر بين حوائجهم، وقد زينوا به طبيعة تلك البقعة النضرة، وحل ضيفاً عزيزاً على أشعارهم وموشحاتهم. فمن سجنه مثلاً، لم ينسَ ابن زيدون القمر. جعله هو نفسه وقد خسفَ، وذلك في قصيدته إلى أبي الحزم، بقوله:
هل الرياح بنجم الأرض عاصفةٌ
أم الكسوف لغير الشمس والقمرِ؟
ثم راح القمر يطل من الموشحات الأندلسية طرِباً فرِحاً، ومن ذلك قصيدة عبادة، ومطلعها “بدرُ تمّ، شمس ضحى غصن نقا، مسك شمّ”، ومنها أيضاً ما مدح به ابن زمرك السلطان ابن الأحمر، مهنئاً إياه بشفائه:
والـزُهـرُ في روضـــــة السمــــاء
كــالـزَّهـــرِ قــد راق بابــتســــامْ
والصبـــح مستــشــــــرق اللـــواء
والـــــبدر يستــــقبــــــــل التمــــام
وبعدما ساد عصر الانحطاط لنحو خمسة قرون، انبلج فجر النهضة والانبعاث، كاشحاً الغيوم عن سماء الأدب واللغة، لتظهر شمسها وأقمارها.. ويطول السرد والأمثلة إذا شئنا مطاردة القمر في شعر هؤلاء، فنكتفي ببعض النماذج كقول سعيد عقل في رائعته “رندلى”:
ألـــعيـــنـيـــــــــكِ تــــأنٍّ وخطَـــــــرْ
يفرش الضوءَ على التلّ القمر؟
وقد جعله يُطل كُرمى لعيني الجميلة الحبيبة، ليضحك للغصن ويرتاح إلى ضفة النهر “رفيقاً بالحجر”، أو كقول الأخطل الصغير في “عيد الحبيب” أن “النور والعطر”:
تجاذباه الهوى، بـوركت من فلك
مقسم الوجه بين الشمس والقمر
فأي حبيب لا يتمنى أن يكون وجهه الشمس والقمر معاً؟.. أو كاعتبار نزار قباني نفسه وحبيبته في “حكاية نحن”:
فعند كل وردة خبرْ
إن مرة سُئلتِ، قولي:
نحن دَوّرْنــا القمــر
فقد تماهى وإياها معه، فأي كلام بعد يمكن أن يقال؟.
الهلال..
أوصاف وصفات
• شُبِّه الهلال بقُلامة ظفر (ابن المعتز):
وَلاحَ ضـــوءُ هَلالٍ كـــادَ يفضحنـا
مِثلَ القلامةِ قد قُصّتْ من الظِّفْرِ
• وشُبِّهَ بحرف نون ذهبي خطّه خطَاط ماهر (أبو العلاء المعرّي):
ولاحَ هلالٌ مِثلُ نونٍ أجادَها
بِجَاري النّضارِ الكاتبُ ابن هلالِ
• وبشَعيرة السكَين (كشاجم):
أهلاً وسهلاً بالهلالِ بـدا لعيــــنِ المبصــر
كَشَعِيـــرةٍ من فضــــةٍ قد رُكّبـتْ في خنجَرِ
• وَبِقَوْسِ رامٍ (أبو عاصم البصري):
رأيـــت الهــــلالَ وقـــد حلّقـــــتْ
نجـــــومُ الثريّــــــا لكي تلـــحقَــهْ
فشبّهتــــهُ وهــــــــو فــــي إثرهــــا
وبينهمـــا الـــزهرةُ المشرقَـــــةْ
بقــــــوسٍ لــــرامٍ رأى طائـــــــــراً
فــأرسَــــلَ في إثــره بُنــــدُقَــــــــهْ
• وبمنجل حاصدٍ شهبَ الدّجى (أحد الشعراء):
انــظـر إلى حُسْــنِ هلالٍ بَــــــدَا
يُذهبُ مِنْ أنــــوارِه الحندســــا
كَمِنجـلٍ قد صِيغَ من عسجـــــدٍ
يحصُدُ من شُهْبِ الدّجى نَرجسَا
• وبدُملوجٍ أو سوار (الخالدي):
وهــلالٍ يلـــوحُ في ساعِـدِ الـغَـرْبِ
كدملــوجِ فضّـــــة أو ســــــوارِ
• وشُبّه أيضاً بصولجان في يدي ملكٍ (ابن وكيع):
وَجَــدَّ في أَثَـــــر الجوزاءِ يَطْلبهــــا
في الجوِّ ركضَ هلالٍ دائم الطلبِ
كصولجـانِ لُجَيــنٍ في يديْ ملـكٍ
أدناه من كرةٍ صيغَتْ من الذّهبِ
• وشُبّه بإكليل ملك (أبو الفرج الوأواءِ):
وكـــأن الهـلال تحــــت الثريّـــــا
ملـــك فـــوقَ رأسِـــــــــهِ إكـــليـــــلُ
•
ومن الصور البديعة التي تحمل حركةَ الامتلاء البطيء تشبيه الهلال بمرآةٍ من ذهبٍ مستترة (العسكري):
وكــــأَنَّ الهـــــــلالَ مـــرآةُ تبــــــرٍ
تــنجلـــي كـــلّ ليلـــةٍ إصبـعيـــــنِ
•
وفي صورة مركّبة شُبَّه كحَرْفِ كأسٍ بلوري، وبدرِهم فوق دينار أكبر منه حجماً (ظافر الحداد):
كَحَرْفِ جــامٍ من البلّور قابَلَــه
ضوءٌ وأخفى الدّجى إشراقَ سائرِهِ
أو دِرهـــمٍ فــوق دينــارٍ تجــلَّلـــه
علواً فضـاق عن استيعـــاب آخـــرِهِ
• وشبّه أيضاً بنصف سوار (ابن الرومي):
وكـــأنَّ الهـــلالَ نصـــفُ ســـوار
والثريـــا كــفٌّ تُــــشيــــــر إليـــــهِ
• وبزورق أَثقلَتْه حمولته (ابن المعتزّ):
وانظـر إليه كــزورقِ من فضّـــةٍ
قد أَثقلتْــــهُ حمولـــةٌ من عنبـرِ
•
ويُقال إنَّ أحداً لم يصف امتلاءَ نِصفه كما وصفه ابن المعتزّ، ويعتبر تشبيهه الهلاَلَ بمحرِقةِ العطر من التشبيهات النادرة:
ما ذُقتُ طعـمَ النــومَ لو تــدري
لأنَّ أحشــائـــــي علـــــى جَمْــــــرِ
فـي قمــــرٍ مُسْتَـــــــرَقٍ نِصفُــــــه
كَأنّــــــــه مُـــــحرِقَــــــةُ الــعِطْــــــرِ
البدر..
في لغة التشبيه
شَُبِّه البدر بالدِرهم وبالروضة وبخوذة من فضة وبوردة بيضاء وبكأس من فضة. وكلّ ذلك في لوحات شعرية رائعة. وهذه باقة من أبياتٍ قيلت في وصف البدر.
• عبد الله الموصلي الكاتب:
فــكـــأنَّ البــدرَ التمــامَ عــروسٌ
وكــأنَّ الــــــنجـــــومَ مُنتـقبـــــاتُ
• ابن المعتز:
قمرٌ بدا لك مُشرقــاً في ليلــــهِ
حَسَر الدّجى أذيالَهُ عن ذيلِــهِ
خُلِعَتْ على الآفــاقِ من أنـــوارِهِ
خِلَعُ البياضِ فأومَضَتْ في ليلِهِ
وإذا تقدّم في النجـومِ حسبتَـهُ
مَلكـاً تَسيـرُ مواكبٌ مـن حولِــهِ
• أحدُ الشعراءِ:
والبدرُ في أفق السماءِ كَدِرهمٍ
ملقـــىً على ديبـــاجــــةٍ زرقـــاء
• الشريف العقيلي:
والبدرُ فـي كبـدِ السماءِ كَوَردةٍ
بيضاءَ تضحك في رياض بنفسجِ
ظهور من
تحت السحاب
•
ويروى أنَّ شرف الدين ابن الوزير عَون الدين نظر ليلة إلى القمر يدخل تحت السحاب تارة وينكشف تارة، فقال لمن حَضَر من الأدباء لِيقُلْ كلَ منكم في ذلك شعراً، فقال الأديب مُفلح:
كـــأنّمــــا البــــدرُ حيــــنَ يبـــــدو
لنـــا ويَسْتـــحجــــبُ السّـــحابـــــا
خريــــــدةٌ مــــــن بنـــــي هــــــلالٍ
لاثَـــتْه عـــن وجهِهــــا نقــــابـــــــا
• وقال ابن عون الدين:
إذا تطلّـع هذا البـدرُ من فــرج
من السحاب وغارتْ حولَـه الشُهُبُ
تخالُــهُ في رقيــقٍ من مَــلاءتِــهِ
خرقــــاءَ تَسفـــِرُ أحيانـــــاً وتــنتقــِبُ
• وقال الأكرم من بني هبيرة:
وكـأنَّ هـذا البـدرُ حيـثُ تظُلُّــــهُ
سحُــبٌ فَيُـخـفَـــى تـــارةً ويَؤوبُ
حسناءُ تبدو من خلالِ سُجوفِها
طـوراً وَننظــرُ نحـوَهــا فتغيـــبُ
•
وكان عبد الملك بن إدريس جالساً مع المنصور أبي عامر والبدرُ يظهرُ تارةً ويخفى بالسحاب تارّة، فقالَ:
أرى بـدرَ السمـــاءِ يلوحُ حينـــــاً
فيبـدو ثــــمّ يلتحــفُ السحـابــا
وذاك لأنّـــــــه لمـــــــا تـــبــــــــدّى
وأبصَرَ وجهَكَ استحيـا وغابــا
خسوف وصور:
• قال أحد الشعراء:
انظر إلى البدرِ في (حال) الكسوف بدا
مستسلمـاً لقضـاءِ اللهِ والقَـدَرِ
كأنّه وجـــهُ معشــــوقٍ أدَلّ عــلى
عُشّاقِـــهِ فابتــلاه الله بالشعـــرِ
• وقال آخر:
والبـدرُ كالمرآة غيّـــر صَقْـلَهــا
عَبَـثُ الـعذارى فيــه بالأنفـــاسِ
والليلُ ملتِبسٌ بَضــوءِ صباحـــهِ
مثلَ التباسِ النقْسِ بالقرطَاسِ
المُحاقِ:
• قال سعيد المرزباني:
والبدرُ في كبدِ السماءِ قدِ انطوى
طرفـــاهِ حتــى كـــاد مثـــل الـزّورقِ
وتــراه من تحــتِ الـمُحــاق كأنّمـــا
غَرَقَ الـجميــعُ وبعضُــهُ لم يغـــرقِ
• وقال آخر في مُحاق الشهر:
لَقَــدْ سَرَّنـي أنَّ الهــلالَ غُدَيّـــةً
بدا وهو مَحقُورُ الخيـالِ دقيــقُ
طـــواه مرورُ الشهرِ حتى كأنَّــه
عِنـــانٌ لَـوَاهُ باليــــديِـــنِ رَفيــــقُ
الجميل قبيحاً!
على الرَّغم من تصوير القمر تصويراً بديعاً، إلاَّ أنه لم ينجُ من الهجاء والذم، فالعرب تقول في ذم الهلال إذا رأته؛ “لا مرحبا بِحُجين، مُحِلُّ الدَّينِ، ومُقرِّبُ الحِين”. وقالوا: في القمر عيوبٌ عديدة: لونه لون الأبرص، ووجهُه وجه المجذوم، يحلّ الدَّين ويُعجِّل كراء السَكن، ويُنهِكُ الأبدان، ويُخلقُ الكتّان، وَيَنُمُّ على العاشِق، ويفضح السارق. وهذه بعض الأبياتِ في ذلك.
• يقول ابن المعتز:
يا سارقَ الأنوارِ من شمسِ الضُحى
يا مُثكلـي طيبَ الكَرَى ومُنغِّصـي
أمَّا ضيــاءُ الشمـسِ فيـكَ فَنَاقِــصٌ
وأرى حَرارَةَ حَرِّهـــا لـــم تنقُـصِ
لـم يَظفــرِ التشبيـــهُ منـــك بطائـــلٍ
مُتـسلِّــخٌ بَــهَـقــاً كجلــدِ الأبــرصِ
• وقال علي بن سعيد:
لَبَـــــذْلُ وَجـهـــــي إلــــى لــئيــــــم
أمَــــرُّ مـــــن وَقْفَــــــــةِ الــــــــوداعِ
فالبــــــدرُ فــــي وجهِــــــهِ كــدوحٌ
حين اجتَدى الشمسَ في شعاعِ
• وقال ابن الرومي :
لـو أرادَ الأديـبُ أن يـهجـوَ البـدرَ
رَمــــاه بالـخطّـــةِ الــشَـنْعــــاءِ
قـالَ يـا بدرُ أنتَ تَغــدُرُ بالســـــاري
وتُغـــري بِــزَورةِ الحـسنـــاءِ
كَلَفٌ في أديـم وجهِـــك يحــكي
نَــمَشـــا فــوقَ وجنــــةٍ بَرصـــــاءِ
يَعتريـكَ النقصَـانُ ثمّ يخليّــكَ
شــبيــــــهَ القُلامـــــةِ الحـنفــــاءِ
وَيليكَ السـرارُ في آخرِ الشهر
فَيمْحوكَ عـن أديــــمِ السمَــــاءِ
وإذا البدرُ نيـلَ بالهجـو فليــخْـَشَ
أُولو الفضلِ ألسُنَ الشعراءِ
ما بِقَدْرِ المديحِ بل خيفة الهجوِ
أخَــذْنـــــا جَــوائِــــــزَ الخــلفـــــاءِ
أكثر من حالة.. أكثر من اسم
للقمر من أول ظهوره إلى آخر سرارِه أسماء مختلفة منها:
•
الهلال: غُرّة القمر. وقيل يُسمّى القمر لليلتين من أول الشهر هلالاً، ولليلتين من آخر الشهر، ستٍ وعشرين وسبعٍ وعشرين، هِلالاً، ويُسمّى ما بين ذلك قمراً.
• الطالع: القمر البادي من علوٍّ .
• الرَّمِدْ: الذي صار على لون الرماد.
•
نمير: صفة من نَمِر: الذي فيه بقعة بيضاء وبقعة أخرى على أي لون كان .
• الزبرقان: القمر في الليلة الخامسة عشرة من الشهر.
•
الباهـر: يُقال قمر باهِر إذا علا الكواكبَ ضوؤه وغلبها وبَهَر القمرُ النجوم. والثلاثُ البُهر هي الليلة السابعة والثامنة والتاسعة.
• الزمهرير: القمر إذا اشتدّ ضوؤه.
• الغاسِق: القمر إذا وَقَبَ (دَخَلَ في الظلِّ الصَّنوبري الذي يكسِفُه ).
• طويس: الطَّوْس: الهلال ، وجمعه أطواس. والطوس القمر.
• أويس: أَوْس هو العِوَض أو العَطية – وأويس هو تصغير لأَوْس.
•
زُرَيْق: من الزَّرِق: شديد الصّفاء. أو الزرقة: البياض حيثما كان. وقيل هو أن يغشَى السواد بياضٌ.
•
البدر: القمر إذا امتلأ، وسميّ بدراً لأنه يُبادر بالغروب طلوع الشمس، يُقال لأنه يُبادر بطلوعِه غروبَ الشمس. وليلة البدر هي ليلة أربع عشرة.
• الجلَم: الهلال ليلة يُهِلُّ (شُبّه بالجَلَم، وهو ما يُجَزُّ به الشَّعر).
•
العفراء: البيضاء. والعفراء من ليالي الشهر: الليلة الثالثة عشرة. ويُقال العُفر من ليالي الشهر: السابعة والثامنة والتاسعة وذلك لبياض القمر فيها.
•
الساهور/السَّهَرُ (كلاهما سِرياني): والساهور: دارةُ القمرِ، كالغِلاف له. يُقال للقمر إذا كَسَف دَخَلَ في ساهورِه.
• العقيب: عَقَبَ الليل والنهار: جاء بعده. عِقبةُ القمر: عودتُه.
•
ابن جُمير: الليل المُظلِم، وقال ثعلب: ابن جمير هو الهلال. وقال ابن الأعرابي: يُقال للقمر في آخر الشهر ابن جمير لأن الشمس تجمُرُه، أي تواريه.
• السلتي: وهو اسم القمر باليونانية.
•
سمير: السّمر هو ظلّ القمر. أو القمر صاحب الظلّ، وقد يكون سبب تسميته بالسمير لأن الناس يجلسون فيه للحديث في الليل.
•
القمر: قيل في تسميته قمراً قولان: أحدهما أنه اشتق من القُمرة، وهو بياض تعلوه كِدره، وقيل لأنّه يَقمُر النجومَ ضياءَها، لأنها لا تُرى في ظهورِه وإنارته كما تُرى في مَغيبه ونقصانه.
•
والفَخت: ضوء القمر أول ما يظهر. وبه سميّت الفاختة لشبه لونها بذلك، وهي ضرب من الحمام.
•
والعرب تُسمّي الشمس والقمر “القمرين”، فيُغلبّون القمر لعلّتين: إحداهما التذكير والأخرى أنّهم أَنِسوا بالقمر.
•
والعرب تُسمّي كلّ ثلاث ليالٍ من الشهر باسم. فيقولون: ثلاث غرر، وثلاث نفل، وثلاث تسع، وثلاث عشر، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث ظُلم، وثلاث حَنادِس والحندس هو الليل شديد الظلمة، وثلاث دآدي (والدِئداء هو أشد عدو البعير)، وثلاث محاق، والعرب تُسمّي كل ليلة من لياليه باسم.
•
وقيل: “ليلٌ قمراء”، و”ليل ظلماء”، ومن الغرابة تأنيث الليل، ويروي أحد النحويين أنه عُني بالليل “الليلة”، أو أُنِّث على تأنيث الجمع.
أنغام القمر
في الأغنية العربية
يشبه استخدام القمر في الأغنية حاله في القصيدة، فمنذ العهد الأول للأغنية العربية المدونة على أسطوانة، لا المحفورة في الذاكرة الجماعية وحسب، ظهر للقمر شأن. فها هو العراقي (بصوت ناظم الغزالي) يشبّه خد حبيبته بالقمر: “مثل بدر التم وأشرق عالرياض”.
وتعايد أم كلثوم المسلمين بعيد الفطر السعيد، بعد صيام شهر رمضان والتماس الهلال، بـ “هلت ليالي القمر”، لتقاسم لاحقاً عشاق فنها في أغنية “ألف ليلة” لحظة مع الحبيب: “الليل وسماه ونجومه وقمره … وأنت وأنا يا حبيبي”.
غير أن أجمل ما غنته أم كلثوم في مقارنة الحبيب بالقمر كان في أغنية “حبيبي يسعد أوقاته” التي كتب كلماتها بيرم التونسي، وفيها تقول:
حبيبي زي القمر قبل ظهورُه يحسبوا المواعيد
زي القمر يبعث نورُه من بعيد لبعيد
زي الـقمــــــر بس جمالُـــــــه كــــــل يـــوم يــــزداد
وكل ما يهـلّ هلالـه تنعـــاد الأعيــاد
واللــــيلـــــــة عـيـــــــــد
ويؤكد محمد عبد الوهاب أننا “كلنا نحب القمر”، ويجاريه في التأكيد طلال مداح بإنشاده “هو بدر”. أما عبد الحليم حافظ الذي غنى “ع شانك يا قمر”، فتحول مدّاحاً له، “عاشقاً ليالي السهر”. وتشكو فايزة أحمد حالها لأمها، وتقول لها أن النصيب يطرق الباب “يما القمر عَ الباب” وما القمر هنا غير الحبيب.
أما الشاعر صلاح جاهين، فحوّل الصاروخ المسافر إلى القمر، إلى ما يشبه الحافلة التي تنقل ركاباً من الطبقات الشعبية لحنها وغناها الشيخ سيد مكاوي، تقول:
قــرَّب خُـــد تـــذكـرة يــا نـــاوي عالسفــــر
حانقـوم مِ القاهـرة دوغــــري عــالقمــــر
وثمة أغنية في القمر طارت بشهرة وليد توفيق في العالم العربي، وهي باكورته، “قمر الليل يا قمري”، ولم يفت هاني شاكر معاتبة القمر:
كـده برضـه يا قمــر تصاحبني عَ السهر
ولم يتغير القمر، بمفهومه الرومانسي، في الأغنية، بعدما وطأته قدم أول إنسان. وكانت للحدث ترجمة في أغنيتين لوديع الصافي ووداد، “يا طالعين عَ القمر”، و”نجمات الليل”، علماً بأن للصافي شأناً آخر مع القمر في “يا قمر الدار” إذ يحوله مرسالاً ينقل سلامه إلى الأحبة.
يبقى القمر في صوت فيروز، وفي أعمال الأخوين رحباني، حيث تربع سعيداً، وحملت أكثر من خمس عشرة أغنية لهذا الثلاثي، كلمة قمر، في عنوانها، ومنها “نحن والقمر جيران”، و “حبيبي بدو القمر”، و “طلع القمر غفي حبيبي” و “القمر بيضوي عَ الناس والناس بيتقاتلو”…
حتى إن إحدى مسرحياتهم كانت جسراً للقمر. مع هؤلاء، لم تبقَ فكرة في الحب أو الوصف أو الغزل أو الوجدانيات أو الطبيعة، إلا حضرت قمراً في أغنية. ولعل أروع تلك الأفكار، أن ثمن القمر “عشر ليالي سهر”، وعلى فيروز أن تدفعه، لئلا يطل في غفلة منها، وتسرقه
جارتنا اللي مزاعلتنا وتعـــطيــــه لحــبيبــــي
ويــحبّـــا حــبيـبــي … وأنــــا صيـــر غـريبـــي
وبعد؟ “هل يخفى القمر”؟
في الأغنية الغربية
ولا يقل شأن القمر في الأغنية الغربية عما هو عليه في الأغنية العربية. تغنى به فرانك سيناترا في “نهر القمر” (Moon River) و”طر بي إلى القمر” (Fly me to the Moon). ومن أشهر أغاني الفيس بريسلي “القمر الأزرق” (Blue Moon)، كما أنها أولى أغانيه الهادئة خلافاً لأسلوبه الصاخب في الغناء.
وغلين ميللر أمريكي آخر غنى “معزوفة ضوء القمر” (Moonlight Serenade) والعالم بأسره يعرف أغنية “على ضوء القمر” (Au clair de la lune) التي غنتها الشعوب بكل اللغات، وكان الفرنسي جان باتيست لولي قد لحنها سنة 1685م.
محطات في تاريخ القمر
الألف الثالث ق.م: أول تقويم قمري في بلاد ما بين النهرين
الألف الثاني ق.م: توقع غير علمي للخسوف ومواعيده في الصين
القرن الخامس ق.م: ظهور الرياضيات الفلكية في بلاد ما بين النهرين
سنة 155ق.م: الروماني بوسودونيوس يقيس المسافة بين الأرض والقمر وحجمه.
القرن العاشر الميلادي: الفلكي والجغرافي العربي أبو معشر يكتشف العلاقة بين القمر وحركة المد والجزر في البحار.
1085م: بدء تدريس علم الفلك العربي في الغرب.
1609م: قانون كيبل حول أهليليجية المدار القمري حول الأرض.
1608م: رواية “الإنسان في القمر” لفرنسيس غودوين.
1679م: الإيطالي كاسيني يضع خارطة لسطح القمر.
1835م: أدغار الان بو يكتب: “اكتشافات قمرية، رحلة جوية مذهلة”.
1850م: أول صورة فوتوغرافية للقمر.
1856م: رواية “من الأرض إلى القمر” لجول فيرن.
نهاية القرن التاسع عشر: النظريات العلمية الأولى حول نشوء القمر.
20 ديسمبر 1961م: قرار من الأمم المتحدة يجيز استكشاف القمر لكل دول العالم، ويمنع ضم أي جزء منه إلى أية دولة من الدول.
1966م: هبوط ناجح لأول مسبار فضائي سوفياتي على سطح القمر.
1968م: أول رحلة بشرية إلى مدار حول القمر (أبولو 8 الأميركية).
1969م: هبوط الإنسان على سطح القمر لأول مرة.
بعد العام 1973م: إهمال الرحلات القمرية المأهولة.
1994م: القمر الصناعي “كليمانتين” يضع خارطة دقيقة وكاملة لسطح القمر بأسره.
2003م: إطلاق المسبار الأوروبي “سمارت-1” لدراسة تضاريس القمر ومكوّنات تربته.
———————-
كادر
منذ الآن ترقب الانفجار القمري
“أكبر اصطدام كوني في تاريخ البشرية”، “أكبر انفجار في الألفية الثالثة” “اصطدام العمالقة في الفضاء”. مثل هذه العناوين ستتصدر صحف العالم في التاسع من آب (أغسطس) سنة 2039م، للحديث عن اصطدام النيزك المرقّم “1999 N 10” بسطح القمر بعيد الساعة الثانية فجراً بتوقيت غرينتش.
فالرصد الفضائي وحسابات العلماء سمحت منذ اليوم بتوقع هذا الاصطدام الأكبر من نوعه الذي يمكن للبشرية أن ترصده، إذ أن النيزك المذكور الذي يبلغ قطره نحو كيلومتر، سيصطدم بسطح القمر بسرعة 15 كيلومتراً في الثانية، متسبباً في انفجار يعادل 38 ألف ميغا طن من الديناميت. أي نحو مليوني مرة قوة انفجار قنبلة هيروشيما.
وسيتمكّن سكان أوروبا وآسيا وإفريقيا من مراقبة الحدث بالعين المجردة. ويحتمل أن تنبعث من الانفجار قوة ضوئية مدة ثانية واحدة، تعادل ضوء سطح القمر بأسره، وسينجم من هذا الاصطدام فوهة قمرية (تشبه الفوهات البركانية) قطرها بين 15 و 20 كيلومتراً.
———————-
كادر
القمر بالأرقام
• عمره:
4.56 مليار سنة.
• متوسط قطره:
3476 كيلومتراً.
• وزن كتلته:
7.35 × 1022 كيلوغراماً.
• حجمه:
2.2 × 1019 متراً مكعباً.
• كثافته:
3.34 كيلو غرام في المتر المكعب.
• المعدل الوسطي للحرارة على سطحه:
-150º ليلاً و 150º+ نهاراً. (درجة مئوية)
• متوسط بعده عن الأرض:
304000 كيلومتراً.
• جاذبيته:
1.62م في الثانية (سدس جاذبية الأرض).
———————-
كادر
معرض «القمر كاملاً»
في العام 1999م، أقام المصور مايكل لايت معرضاً فوتوغرافياً في غاليري هايارد في لندن بعنوان: “Full Moon Exhibition”، ترددت أصداؤه في أنحاء العالم ولا تزال.
لم يكن لايت هو صاحب الصور، بل وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، التي فتحت خزائنها أمامه ليطلع على 39000 صورة التقطها رواد برنامج أبولو، ولم ينشر منها سابقاً سوى الجزء اليسير.
اختار لايت 129 صورة من مختلف الرحلات ليحيك منها صور رحلة واحدة تبدأ بإطلاق الصاروخ وتمر بالدخول في المدار القمري، ثم النزول على سطح القمر، فمغادرته والعودة إلى الأرض. وقد عمل لايت ثلاثين عاماً على رفع المستوى التقني والجمالي للصور المختارة بحيث جعلها دقيقة حتى أقصى حد ممكن، رغم تكبيرها إلى أحجام هائلة كانت تجعل كل من يدخل المعرض يشعر برعشة الوقوف على سطح الكوكب.
وعندما اطلع قائد رحلة أبولو 15، رائد الفضاء دايفد سكوت، على المجلد الفاخر الذي يضم صور المعرض، علّق عليه بالقول: “إن معرض القمر كاملاً هو الأقرب إلى الحقيقة من بين كل ما رأيته منذ أن كنت هناك. إن وكالة الفضاء كانت بحاجة إلى مايكل لايت قبل ثلاثين عاماً”.
والمعرض الذي أقيم لمناسبة مرور ثلاثين سنة على نزول الإنسان على سطح القمر جال على عواصم عدة منها مدريد، امستردام وسيدني، قبل أن يدخل نهائياً إلى “متحف التاريخ الطبيعي” في نيويورك.
———————-
كادر
الخيال والقمر
أدب الأطفال يسبق علم الكبار
سبق الأدب العلم في إيصال الإنسان إلى سطح القمر. ولعل القصة المصورة للصغار من سلسلة “تان تان” التي صدرت سنة 1954 بعنوان “مشوا على سطح القمر” هي الأشهر عالمياً.
وغالباً ما كان أدب الخيال العلمي منطلقاً لمحاولات تطبيقية. فعندما ظهر كتاب فرنسيس غودوين “الإنسان في القمر” سنة 1638م، فكّر أحدهم في اختراع وسيلة سفر إلى القمر تقوم على بناء هيكل خشبي تحمله عدة طيور صوب الأعلى!
وعندما نشر جول فيرن سنة 1865 روايته الخيالية “من الأرض إلى القمر”، فكّر أحد الأثرياء الأمريكيين ببناء مدفع عملاق يقذف بمركبة مأهولة في إتجاه القمر.
غير أن أكثر الأمور إثارة للحيرة ورد في الرواية الثانية لجول فيرن “حول القمر” التي نشرها سنة 1870م. إذ أن موقع إطلاق الصاروخ في الرواية هو في فلوريدا بالقرب من كاب كانيفرال التي اعتمدت بعد نحو قرن منطلقاً للرحلات الفضائية، كما أن موقع هبوط المركبة الفضائية في الرواية هو في المحيط الهادي ولا يبعد سوى أميال معدودة عن المكان الذي هبطت فيه “أبولو 11” بعد مئة عام !!
مئة وجه للقمر
نال القمر حصته من فن الرسم، وبلغ اهتمام الفنانين به ذروته في القرن التاسع عشر.
الفنان هنري روسو رسم القمر في لوحة تجمع غجرياً إلى أسد فوق أرض صحراوية في لوحة ذات مناخ يذكر ببيئتنا العربية. والرومنطيقي أوجين ديلاكروا رسم “لصوص الخيل” يقومون بإحدى سرقاتهم ليلاً في لوحة لا يضيئها غير القمر.
غير أن أشهر ظهور للقمر في الفن كان على يدَيّ الرسام الياباني يوشيتوشي ( 1798 – 1861م) الذي رسم مجموعة لوحات بلغ عددها المئة وأسماها “مئة وجه للقمر”. وفي هذه اللوحات المعدة أساساً للطباعة ونشرتها دار “أكياما بويمون” ما بين 1885 و 1892م، نرى القمر شاهداً على أحداث وأبطال ومشاهد مستوحاة من التاريخ الياباني القديم الذي كان غالياً جداً على قلب الرسام. ولعل ما دفع الرسام إلى اعتماد القمر كبطلٍ ثانٍ في هذه اللوحات التاريخية، هو كونه الشاهد الوحيد الذي بقي من تلك الازمنة الغابرة.