أسهم تطور الطب والعلوم في العصر الحديث بإطالة معدل عمر الإنسان بشكل ملحوظ في معظم أنحاء العالم. ولكن هذا التطور الذي يستحق الثناء والتقدير من زاوية أخلاقية وإنسانية تسبب في ظهور قضية مستجدة بدأت ترخي بثقلها على المجتمعات المتقدمة.
القافلة تتناول هنا بعض الآراء التي تتناول شيخوخة المجتمع من زاوية اقتصادية ما بين قلقٍ من نتائجها ومتفائلٍ بمعالجتها من خلال تغيير النظرة التقليدية التي تدمج الشيخوخة بالعجز.
القليلون منّا يعرفون أن الذين عاشوا حتى ما بعد الأربعين أو الخمسين سنة من العمر (أي ما يسمى علمياً ما بعد سن التناسل)، كانوا قلائل جداً عبر التاريخ، وتحديداً ما قبل الحقبة الحديثة أو ما قبل حقبة الطب الحديث.
وقد كشف العالم الأمريكي أدومين بيتوك في محاضرة له ألقاها عام 2004م أن ثلثي عدد الأفراد الذين عاشوا حتى سن الخامسة والستين عبر التاريخ، هم أحياء اليوم. وأضاف أن عدد المسنين في الولايات المتحدة اليوم يفوق عدد سكان كندا بمجملها، وأن الشريحة العمرية التي تشهد نمواً أكثر بكثير من غيرها هي تلك التي تضم الذين تجاوزوا الخامسة والثمانين، وأن الخمسة عشر عاماً المقبلة ستشهد نمو عدد الذين هم فوق سن الخمسين إلى 74 في المئة، بينما لن يزيد نمو عدد الذين هم تحت الخمسين سوى 10 في المئة.
الوقت المصنع
يطلق بعض الباحثين على طول العمر هذا تسمية الوقت المصنع . ويردونه إلى التطور الكبير الذي حصل في مجال الطب والأدوية وعلوم الأمراض ومكافحتها. فمنذ سنة 1918م، تاريخ انتشار وباء إنفلونزا الطيور الذي حصد عشرات الملايين من البشر في أنحاء مختلفة من العالم، لم يشهد العالم أوبئة بمثل حجمه، ومع اكتشاف المضادات الحيوية والبنسلين، قضي على الكثير من الأمراض وتمكن الجنس البشري، من خلال سيطرته على البيئة التي يعيش فيها من إطالة معدل الأعمار حتى 80 عاماً في المجتمعات المتقدمة، وأصبح معدل العمر العام في العالم فوق الخمسين.
الخبر الجيد يتضمن خطرين!
يشير بيتوك إلى أن من نتائج هذا التطور ظهور خطرين حقيقيين أشبه بقنبلتين موقوتتين. تكمن الأولى في أن سيطرة الإنسان على الجراثيم والبكتيريا سوف تدفعها إلى تطوير استراتيجيات جديدة للبقاء والهجوم. وقد بدأت طلائعها من خلال امتلاك بعض الأجيال الحالية من هذه الجراثيم مناعة ضد العقاقير المصنعة، بدأت تقلق المؤسسات الصحية في كافة أنحاء العالم.
أما القنبلة الثانية فهي آثار العمر المديد على المجتمع والاقتصاد بشكل عام. وهذا ما يستحق التوسع فيه قليلاً، انطلاقاً من مثل محدد.
لقد توفيت مؤخراً في أحد مآوي العجزة في ولاية بنسلفانيا امرأة تُدعى سارة كناوس عن عمر بلغ 119 سنة، وكانت لا تزال في وضع صحي مقبول نسبياً بالرغم من تردي وظائف بعض أعضائها كالنظر والسمع. كانت ابنتها تأتي إلى زيارتها باستمرار، وهذه الابنة بلغت بدورها سن السابعة والتسعين، ولها ابن (أي حفيد للعجوز) تقاعد من العمل قبل 15 سنة. ولأن سارة كانت تعيش على نفقة الضمان الاجتماعي طوال 53 سنة وابنتها لمدة 35 سنة، فقد أجرى بعض الباحثين حسابات لما صرفته هذه العائلة وما أنتجته طوال عمرها، فكانت النتيجة أن الإنتاج كان أقل بكثير.
حسابات سوق العمل
من المعروف أن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، شهدت ما يسمى ازدهار نمو الأطفال (Baby Boomers). لكن هذه الحقبة انتهت، وحلّت محلها ظاهرة انخفاض الولادات وزيادة نسبة المسنين بشكل لافت. ولذا، يتساءل الباحث المشار إليه آنفاً: كيف ستكون أوضاعنا في المستقبل القريب عندما سيكون لدينا عشرات الملايين من العائلات مثل عائلة سارة، وفي الوقت نفسه منتجين من صغار السن أقل؟ .
مجلة الإيكونوميست البريطانية وفي عددها الصادر في 26 نوفمبر 2005م، تطرقت إلى هذه المشكلة انطلاقاً من قضية سن التقاعد. وكشفت أن نسبة المعتمدين على المعاش التقاعدي سترتفع في بريطانيا من 27 في المئة إلى 45 في المئة خلال الثلاثين سنة المقبلة. وتقول المجلة أن هناك محاولة لإصلاح نظام معاشات التقاعد، وهذا لا يكفي. إذ يجب التطلع إلى مكان العمل نفسه وإلى سن التقاعد.
ففي ألمانيا، خفضت الحكومة سن التقاعد من 70 سنة إلى 65 سنة. كما أن سن التقاعد في بريطانيا محدد بـ 65 سنة بالقانون الذي صدر سنة 1925م، وكان المقياس آنذاك هو التوقع بأن يعيش الفرد قليلاً فقط بعد سن التقاعد. وفي فرنسا فإن سن التقاعد الرسمي هو 60 سنة أما الفعلي فهو أقل من ذلك، بينما ينقلب الوضع في اليابان، حيث السن الرسمي هو 60 سنة أما الفعلي فيقارب الـ 70 سنة.
وبينما يتوقع علماء الاقتصاد تباطؤ النمو الاقتصادي في الدول الغربية نتيجة انخفاض عدد الشبّان الذين يدخلون سوق العمل، يقترح البعض إطالة فترة العمل إلى ما بعد سن الخامسة والستين، والتشديد على الإنتاجية وليس على السن. أمرٌ كهذا يتوقف مدى قبوله بين كبار السن على نظرتهم لسنوات التقاعد، ففي بلجيكا وإيطاليا وفرنسا قامت الاحتجاجات على مشروع نظام يقضي بتأخير سن التقاعد إلى ما بعد الخامسة والستين، وأجبرت بعض التوجهات السياسية حكومة ألمانيا على تعديل النظام المقدم لإطالة سن التقاعد من 65 سنة إلى 67 ليطال شهراً واحداً كل سنة حتى العام 2032م. وفي الوقت نفسه، تؤكد التقارير أن ثلث المتقاعدين في سوق العمل الأمريكية يتوجهون لشغل وظائف أخرى لا تبالي لأعمارهم بل لنوعية أدائهم المهني، أما عن أولئك الذين لم يصلوا إلى سن التقاعد بعد من الموظفين في أمريكا، فيتوقع نصفهم العمل لما بعد السبعين عاماً، إما لضرورة مالية ترغمهم على هذا الخيار، وإما لنمط حياتهم الذي يدور حول كونهم في سوق العمل. وإذا كان صحيحاً أن كبار السن يصبحون أقل قدرة على فهم بعض القضايا وسرعة الإنجاز، فيمكن للخبرة أن تعوض عن ذلك. كما أنهم يصبحون أكثر استعداداً للقبول بمرتبات أقل.
إلى ذلك، هناك أسباب أخرى لإطالة سن التقاعد، منها أن الاقتصاد يشهد تحولين رئيسين في معظم الدول المتقدمة وهما ازدياد الاعتماد على العمل الذهني بدلاً من اليدوي، واتساع قطاع الخدمات على حساب قطاعي الصناعة والزراعة. ولهذا، فإن التردي في الأوضاع الصحية للعاملين تصبح أقل شأناً مما مضى.
الشيخوخة لم تعد تعني العجز
نتيجة لتطور الطب والعلوم، لم تعد السن المتقدمة مرادفاً للعجز كما كان سائداً في الماضي. يقول آرنولد شيبل البالغ من العمر 82 سنة ولا يزال يُدرّس في جامعة كاليفورنيا، إن دماغ الإنسان يحتوي على 100 مليار خلية عصبية. ولا أحد ينكر أن التقدم في السن يجعل بعض هذه الخلايا يموت. لكن هذا التراجع يتفاوت بين شخص وآخر.
فالتراجع الكبير هو عند الذين يتعرضون لمرض الزهايمر، لكنه ليس خطيراً عند الأصحاء الذين يمارسون التمارين الجسدية والذهنية، وخصوصاً أولئك الذين يواجهون تحديات. فعند هؤلاء تسهم هذه النشاطات في تشكيل تشعبات جديدة في المناطق الدماغية المختصة باستيعاب وتحليل المعلومات.
والدكتور جين كوها مؤلف كتاب السن المبدعة يؤكد ذلك، مضيفاً أن هذه التشعبات تزدهر في سن الخمسين والستين وما بعد الستين. أما شيبل وهو عالم أعصاب، فيضيف أن الفرد في السن المتقدمة يستطيع أن يرتب المعلومات العادية بطرق غير عادية، وما هذا إلا الإبداع بعينه. ويقول إنك إذا أعطيت شاباً تحت الأربعين مشبكاً عادياً للأوراق (clip)، أو عود أسنان وطلبت منه أن يصنع منه أشكالاً، للاحظت أن قدرته تفوق حتماً قدرة من هو فوق هذه السن. لكنك إذا نظرت إلى مسائل أخرى تتعلق بالإبداع العملي مثل حل المشكلات اليومية، للاحظت أن المبدعين من كبار السن هم أكثر عدداً من الصغار. ومن الأمثلة التي يضربها شيبل في هذا المجال هناك بين فرانكلين الذي ابتكر النظارة ثنائية البؤرة في سن الثامنة والسبعين. كما أن رسامين كباراً من أمثال بيكاسو وماتيس وكونينغ كانوا يتطورون نحو الأفضل كلما تقدمت بهم السن كما يقول الرسام شيرش كلوز.
وتدعيماً لهذا الرأي، تؤكد الأبحاث الدماغية وخصوصاً من خلال التصوير بواسطة الطنين المغناطيسي أن مختلف مناطق الدماغ تتفاعل فيما بينها خلال السن المتقدمة أكثر منها في سن الشباب. فالمتقدم في السن يستطيع أن يبدع في مجالات تستعصي على الشبّان. وربما كان الإنسان في هذه السن المتقدمة هو من يستطيع إيجاد الحلول للمشكلات المعقدة التي تنتظر المجتمعات عل صعد عديدة.