قول آخر

الشعر قبضة نثرية

1
النثر منطقة رعوية خالية من السلاح، والشعر قبضة زهر وعشب من ذلك الحقل عشوائي الإيقاع ربما هكذا عرف أول راعٍ أغنيته الخضراء تحت شجرة بلوط، وهو ينظِّف نايه المصنوع من سيقان قصب السكر، كما ينظِّف جندي بارودته آخر الليل. قد يكون هذا التعريف غير صالح في نظر فيلسوف علم اللسانيات وهو يشرح نصاً بمشفر النقد المسنون فوق طاولة الفرضية الخضراء. وقد يكون غير جدير أيضاً، أن يلتقطه طالب في الثانوية، لا يحب الرياضيات، ليكتبه على قماشة من كتان ويعلقه على دراجته ليقول: هذا علمي المعرفي.

إلا أن هذا التعريف يعبِّر عن التباس ضروري في دورة الإبداع الدموية، بين قاصٍ اكتشف أن ما ينقصه لكتابة رواية تاريخية بيتان من شعر الغزل، وشاعرٌ اكتشف أن ما ينقصه ليكمل ديوانه الأخير فصل من رواية بوليسية. ولا يفك هذا الالتباس تدخل جراحي في غرفة العملية الإبداعية، أو إضافة متغير ضروري لمعادلته التفاضلية، أو الذهاب في نزهة في حديقة وطنية، في منهاتن مثلاً.

2
هل يغضب أحدٌ عندما يمشي النثر حافياً ويحني أنامله المشققة بتوت الشعر؟ وهل من حق أحد أن يحبس القصيدة في سجن الرجعية عندما تفتح الأغنية على مصراعيها للناس؟ إن الأدب العربي الحديث تحوَّل من حديقة مبللة إلى بادية صفراء، تقطنها قبائل وعشائر تتقاتل فيما بينها، قبائل يسكن خيامها البوم، لا ترى بعر الآرام في عرصاتها ولا قيعانها. فحملة تسير إلى كتاب نثري تدثر ببرنسٍ شعري أحمر، وغزوة تشن على قافية نافقة، وأسرى وسبايا وجرحى يتداوون بالشعر الشعبي وأطفال مشردون.

هكذا هي الحال من خمسين سنة. ففي كل مرة يدخل النثر إلى إيوان الشعر، تسل السيوف، وتنتصب الرماح، والسكاكين والخناجر تحت الطنافس الحريرية. رغم كل ذلك، ظل الشعر والنثر محافظين على الود الذي بينهما، يلتقيان نهاية الأسبوع في مقهى مفتوح على شارع التحلية، ويقضيان نهار الخميس سوياً في ممارسة هواية صيد السمك. يحدث ذلك منذ سنين، والثقافة العربية مشغولة بمعارك داحس والغبراء بين الشعري والنثري في الصحافة وفي الأمسيات والصالونات الأدبية. ليس من الطبيعي أن يستمر الجدل حول قصيدة النثر طيلة خمسين سنة دون حل لهذا النزاع، ولا يمكن أن تظل القصيدة العمودية خاضعة للأحكام العرفية دون أمل في أن تعود هذه المدينة إلى خريطة الثقافة العربية كما كانت.

3
إن اغتيال الأجناس الأدبية ليس من اختصاص النقد الأدبي، بل من اختصاص المخابرات السرية، والادعاء بأن أوزان القصيدة العربية قد ماتت بالسكتة القلبية ليس من اختصاص ناقد ألسني، بل من اختصاص الطبيب الشرعي. فالنقد العربي اليوم يقسم وقته بين نقد الأدب والمقبرة، بين دراسة النظريات النقدية ومجالس العزاء، فالنقد الأدبي مات، والقارئ العربي مات، والشعر العربي مات. لذلك ليس على القارئ أن يشكل محكمة مستعجلة للنظر في النصوص، شعرية أو نثرية، ولا أن ينساق خلف دعوات حضور تنفيذ الأحكام الغيابية على مرتكبي هذه النصوص.

4
أعتقد أن القارئ العربي ما زال قادراً على فرز المشهد المشتبك كالأسلاك الشائكة دون أن تدمي يديه أطرافها المدببة، ومن دون أن يطلق رصاصة واحدة في الهواء. وهو قادر أيضاً على محاذاة الساحل النقدي المتعرج دون أن يتقاطع معه أو يتبلل بمياهه المالحة أو تعلق في شسع نعله طحالبه الطفيلية. فما عليه إلا أن يحتكم إلى ذوقه الشخصي، فإن كان ذوقه كافياً لاختيار لون قميصه الأزرق كسماء ربيعية بعد ديمة سكوب، فذوقه إذاً يكفي لاختيار قصيدة غزل يضعها على جيد زوجته في يوم ميلادهما المجازي. وإن كان ذوقها كافياً لاختيار شال حرير يفيض بأوراق الخريف تغطي به استدارة قمرها المورد، فذوقها يكفي لاختيار ديوان شعر يتساقط من صفحاته الكرز وحبيبات التوت البري.

أضف تعليق

التعليقات