ديوان اليوم

غمزة

  • 76a

غمزة هي قصيدة للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، كتبها من منفاه في بودابست. ويصف فيها مشهداً كان قد رآه وهو فتى لا يزال يعيش في قريته دير غسانة بفلسطين.
الكاتب محمد العمودي يصر على أن في هذه القصيدة من الجمال والحياة والحركة ما لم ير مثله في قصيدة معاصرة من قبل، ويقدِّم هنا قراءته لها وهي تصف رقصة الدبكة التي يقودها أبو زكي خلال عرس شقيقه في تلك القرية الفلسطينية الوديعة.
تبدأ القصيدة بداية قاطعة، وكأنها تنهي الحكاية بأهم ما فيها قبل أن تشرع في نقل تفاصيلها. أو كأنها تطلب من القارئ أو المستمع أن يقف لحظة، ليستوعب ما حدث. وجمال عبارة انجن الولد! ليس في قطعيتها فقط، وإنما في انتقاء المفردتين التي تنقل لنا صورة بصرية لامرئ يضرب كفاً بكف في تعجبٍ واستسلام لأمرٍ واقع.
غمزة من عينها في العرس
و انجن الولد!
وكأن الأهل والليل
وأكتاف الشباب المستعيذين من الأحزان بالدبكة
والعمات والخالات والمختار
صاروا لا أحد.

في هذه الأسطر تظهر الحساسية الذكية التي تعامل بها الشاعر مع فكرة أن ينشغل الشباب الفلسطيني ولو لحظات، وسط الأزمة السياسية الخانقة، بالدبكة الغارقة في الفرح. وبدلاً من أن يعتذر، أو أن يدافع عن حق هؤلاء الشباب في الاحتفال، مكَّن القارئ من أن يكون وسط الحدث، وأخبره من دون تصنّع أن في دبكة الشباب، استعاذةً من الأحزان المحيطة. لا أكثر. ولا أقل. وفي هذه الأسطر القليلة أيضاً، يشعر القارئ بكل عناصر الفرح في القرية الفلسطينية، الليل، والأهل والعمات والخالات، وأكتاف الشباب في الدبكة.. ثم توقفت الحركة، لتركز على اللحظة الخاطفة بين البطل اللوِّيح، والفتاة التي خصته بالنور.
وحده اللويح،
في منديله يرتج كل الليل
والبنت التي خصته بالضوء المصفى
أصبحت كل البلد.

وفي منديل اللّويح، يرتج كل الليل، وكأنما أصبح للنسمات أنفاس تترقب حركة منديله في اليد، ثم يأتي التناقض الجميل بين الليل والنور من البنت التي تخصه بالضوء المصفى. وبعدما كانت الحركة في القصيدة بطيئة وإن كانت قاطعة، تتسارع بشكلٍ مفاجئ وجميل في رقصة اللوّيح:
مد يمناه على آخرها
نفض المنديل مثنى وثلاثاً
قدم ثبتها في الأرض لمحاً
ورمى الأخرى إلى الأعلى كشاكوش وأرساها وتد.
كلما أوشك أن يهوي على سحجة كف
جاءه من سحبة الناي سند.
يلقف العتمة كالشهوة من أعلى بروج الليل
حتى ضوء عينيها تماماً
يعرق الصدر وشعر الصدر من ميلانه يمنى ويسرى
ثم يسري عرق الظهر عمودياً تماماً
وحياء القلب خلى كل ما في القلب يخفى
والقميص الأبيض المبتل من أكتافه حتى حزام الجلد
خلى فقرات الظهر تحصى بالعدد.

لم أر أبياتاً تصف حركة، بذلك الجمال الذي رأيته في هذه الأبيات، لقطة حية نشعر معها بأننا نرى، ولا نقرأ. ومع كل فعل من أفعال الحركة، تنتقل العين لتلتقط التغير الدرامي في الصورة. ثم تأتي الخاتمة، لاهثة الأنفاس لتبدأ لا لتنهي، حكاية العشق.
غمزة أخرى ولو مت هنا
غمزة أخرى ولو طال انتظاري للأبد!

واختلاف الأبيات وحلاوتها ليس فقط لجمالها اللغوي، ولكن لبساطة الحركة التي تصفها. مجرد رقصة في عرس. ليست الحركة عملاً عظيماً، يكتب الشاعر عنه لأهمية تدوينه، ولا حتى لها عمق أو أبعاد أخرى سيجد فيها الشاعر أشياءً تفسح له مجالاً للكتابة عنها بعد ذلك، ولا تحمل معاني إنسانية معقدة. ليست حركة الأطفال الفقراء الذين يلعبون في حارة ضيقة، أو حركة العاملة العجوز التي تكافح من أجل لقمة العيش. رقصة فقط. مجرد رقصة، وإن كانت رقصة تنبض رجولة وجمالاً.

أضف تعليق

التعليقات