هو هوىً أكثر مما هو معـدن، وهـو أطـول الأهــواء عمراً في تاريــخ الإنسانية.
إنه الحد الفاصل بين الرخاء والفقر، بين
القلق والطمأنينة، بين المكانة الاجتماعية والسعي إليها..
شغف به الجميع: الملوك والأثرياء والفقراء والنساء.. حتى اللصوص.
لأجله اندلعت حروب، وبالتهافت عليه قامت مدن، وبحثاً عنه تحدى المغامرون كل الصعاب، وفي سبيل الحصول عليه مات ملايين البشر.
في هذا الملف، يأخذنا عبود عطية إلى عالم الذهب.. هذا المعدن الأصفر الجميل، الذي كثيراً ما شلّ عقل الإنسان، ودفعه إلى ارتكاب أكثر الأعمال جنوناً.
إنه المعدن الوحيد الذي بقي من دون تطبيقات صناعية حتى العقود الأخيرة من القرن العشرين. ولكن ما من معدنٍ على وجه الأرض حمل قيمة تماثل قيمته الثقافية والاجتماعية، حتى أن حلقة صغيرة منه أصبحت رمزاً عالمياً للحب والارتباط الزوجي.
واليوم، في مطلع الألفية الثالثة، لا تزال قيمة الذهب كامنة حيثما كانت في الألفية الخامسة قبل الميلاد. ففي عصرنا، العصر الذي يدعي الانتصار للمنطق والحسابات الباردة والعلوم والتكنولوجيا، لا يزال الذهب هوىً ، بدليل أنه من إنتاجه السنوي البالغ حالياً نحو 2500 طن، يذهب نحو 80 في المئة إلى صناعة الحلي والمفروشات والأعمال الفنية وإلى اكتنازه على شكل سبائك.. في حين أن استخداماته العلمية والتكنولوجية لم تتجاوز 20 في المئة من إنتاجه.
معدن غير قابل للصدأ.. والشغف به أيضاً. فما من مادة على وجه الأرض حظيت بالمكانة نفسها التي حظي بها الذهب في كل الحضارات والثقافات من دون أي استثناء. وما من مادة حافظت مثل الذهب على هذه المكانة طوال التاريخ المعروف.
استمدّ الذهب قيمته الكبيرة أولاً من ميزاته الجمالية وندرته. فظهر أول ما ظهر على شكل حلي وأعمال فنية منذ الألف الخامس ق.م. وتطوَّرت صناعات الحلي، وتبدَّلت أدوارها مرات ومرات. فقد كانت في الحضارات القديمة إشارة للنبل والسلطة، وفي العصور الوسطى مظهراً من مظاهر الغنى والترف. أما في العصر الحديث فقد أصبحت الحلية رمزاً يشير من خلال تلك النقطة الصفراء إلى تفرد الشخص وميله إلى الإتقان وألق المظهر.
وإضافة إلى الحلي والأعمال الفنية، عاش الذهب لفترة 2700 سنة في شكل قطع نقدية. سُكَّت منه أعداد لا تحصى من العملات، ومع ذلك لم يكتفِ الإنسان منه يوماً. وبسبب متابعة الإنسان للذهب يومياً ولآلاف السنين، ترسَّخت صورته المجردة في الأذهان. بحيث أصبحت كل شذرة ذهب في فلز أو في قطعة نقد أو في حلية تمثل كل ذهب العالم، وكل ما يرتبط به من صور وعلامات. وتتوزع هذه الصور والعلامات على جوانب شتى تبدأ بالجمال وبأرق المشاعر الإنسانية، لتمر بالقوة والنفوذ السياسي والاجتماعي قبل أن تنتهي بقدرة هذا المعدن البارد الصامت على تفجير مكامن الغرائز الأكثر وحشية وجنوناً التي لا تقيم وزناً لشيء إلا الذهب.. بالقيراط.
ألم يكن سعي الإنسان الدائم وراء الذهب هو ما أسس الخيمياء ؟ هذا العلم الذي اختلطت فيه المعرفة بالشعوذة لمدة ثمانية عشر قرناً، استنفد الذهب فيها طاقات العلماء والمغفلين على حد سواء.
معدن نبيل لفن نبيل
لعل أجمل الأسماء التي أطلقت على الذهب، وأكثرها إبرازاً لجماله، هو الاسم اللاتيني الذي أطلقه عليه الرومان AURUM أي الفجر؛ لأنه يشبه بلونه الشمس عند بزوغها، ولا يزال رمزه الكيميائي مستمداً من التسمية نفسها Au .
وإضافة إلى جمال لونه ولمعانه، فللذهب مواصفات فريدة من بين كل معادن الأرض. فهو غير قابل للصدأ، ولا يتغير لونه لأنه لا يتفاعل مع الأوكسجين، وهو قابل للطي والحفر والدق والصقل والصب. ويمكن سحب خيط بطول ثلاثة كيلومترات من غرام واحد منه دون أن ينقطع. كما يمكن لغرام واحدٍ أن يُدَق ليتحول إلى رقاقة بمساحة متر مربع.. وإذا أضفنا إلى ذلك قابليته لاتخاذ أي شكل وإعادة استخدامه، وخلود مادته غير القابلة للتحول لأدركنا بعضاً من جملة الأسباب التي تجعله مادة لصياغة الحلي من دون منافس قريب.
وبشكل عام، يمكن القول إن فن الصياغة توزَّع تاريخياً على نوعين شبه مستقلين عن بعضهما، وهما:
أولاً: الصياغة بالمعنى الحصري، وهي التي تعتمد إنتاج حلية تكون فيها مادة الذهب وشكله هدفاً بحد ذاتها. قد يُزخرف الذهب، وقد يتخذ أي شكل من آلاف الأشكال المعروفة. ولكن بريقه ولونه والشكل الذي اتخذه هو الهدف الذي يدعونا الصائغ إلى الإعجاب به.
ولونه الأصفر مثالي في اعتداله وقابليته لضم الحجارة الكريمة إليه، هذه الحجارة التي لا تلقى على يد الإنسان إلا الصقل لإظهار مادتها بوضوح. ومهمة الصائغ تقتصر على جمع ابني الأرض هذين في وحدة ذات تعبير ذاتي طافح. إنه عالم ملون ولمّاع ينبعث منه شعور بالعيد والزينة والبهاء. ولا يمكن لمثل هذا الشعور أن يظهر بمثل هذا الألق أمام أية مادة أخرى.
وإن كانت الأساليب والطرز تتغير بمرور الوقت (وهو ما قد يناقض ظاهرياً فكرة خلود قيمة الذهب)، فإن أهمية الحلية الذهبية تتعزَّز بقيمتها المقاسة بالنقد. وتسمى الحلي المصنوعة في هذا الإطار تقليدية أو تجارية لأنها في آنٍ واحد حلي وتوظيف مضمون. واليوم، تعتبر الهند المستهلك الأول للذهب (475 طناً سنوياً) بسبب شغف شعبها بالحلي، والعائد في جانب كبير منه إلى اعتبارات اجتماعية؛ يليها كل من الولايات المتحدة الأمريكية (354.5 طن) والصين (231 طناً).
ثانياً: الصياغة الفنية، وتشمل كل تلك الأعمال التي يكون فيها الذهب مجرد لغة للتعبير عن فكرة جمالية، ويكون شريكاً لجملة مواد طبيعية أخرى مثل الخشب أو المعادن الأخرى، أو الزجاج، في إنتاج شيء يرتقي بالتحفة إلى أعلى مستوى في وجدان المشاهد، لمجرد احتوائه على الذهب. إنه عالم فريد من نوعه يصل في إحساسه بجمال الذهب إلى أبعد ما يصل إليه النوع الأول من الصياغة. وأعمال الصياغة الفنية التي وصلتنا من الحضارات المختلفة لا تعد ولا تحصى، فقد بدأت قبل قناع توت عنخ آمون بآلاف السنين، وتستمر اليوم بعد فابرجيه وبيكاسو، وتتراوح ثمار هذا النوع من الصياغة ما بين التماثيل والمفروشات المغطاة برقائق الذهب، والسيوف، والعلب، والآنية المنزلية، والمزهريات وأغلفة الكتب، وحتى بعض الحلي النسائية التي تخرج بتصميمها عمّا هو مألوف وتحمل موضوعاً أو خطاباً معيناً.
الشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو خصّ المملحة الذهبية التي صاغها الإيطالي سيليني في عصر النهضة بقصيدة كاملة، ومما جاء فيها:
نقشكِ على كأس ذهب جميل..
زنبقة غدت امرأة وبقيت زنبقة أيضاً..
زهرات فنٍ عجيبة تغبطها الطبيعة .
فيكتور هوغو ليس الوحيد الذي وضع المصاغ من الذهب في مرتبة جمالية أعلى من مرتبة الطبيعة الحية. فعندما كتب جبران خليل جبران أن العناقيد تدلّت كثريات الذهب ، كان يرفع العناقيد الجميلة إلى ما هو أجمل.. ثريات الذهب. فالذهب هو الجماد الوحيد الذي تطلع إليه الوجدان الأدبي والفني على أنه أجمل من الطبيعة.. حتى أن اسم هذا المعدن أصبح إشارة إلى المكانة الأولى، إلى أفضل ما يمكن، سواء أكان ذلك في الوجدان الأدبي القديم عند العرب مثل المسعودي وإطلاق اسم مروج الذهب على كتابه، أم في المباريات الرياضية المعاصرة حيث الميدالية، وإن كانت لا تحوي من الذهب غير اللون، تبقى إعلاناً للتفوق والمرتبة الأولى، أم في أمور معنوية ليس فيها من الذهب غير الاسم مثل اليوبيل الذهبي للدلالة على استمرارية شيء جيد لمدة خمسين سنة، والعصر الذهبي لأمر معين إشارة إلى أفضل المراحل التي مرّ بها.
ميداليات آتية من الشمس
في القرن الثامن قبل الميلاد، ظهرت أول قطعة نقد من الذهب في ليديا (بالأناضول التركية حالياً) ليسلك بذلك المعدن الأصفر منعطفاً أدى ما بعده دوراً استمر حتى جيل كبار السن من أبناء عصرنا.
الذهب النقد.. عرفته كل المدنيات واعتمدته أساساً لتقييم السلع والأعمال. ومن أشهر مسكوكاته في العصر القديم ستاتير كريزوس، والإسكندر المقدوني، والأوريوس الروماني. وفي العصر الوسيط، البيزان البيزنطي، والدينار العربي، والفلورين الفلورنسي، والنوبل في إنجلترا. وبعد اكتشاف الذهب الأمريكي، البيستول الإسباني، ولويس الفرنسي، والجنيه في إنجلترا. وفي العصور الحديثة، الملك الإنجليزي، والنابليون الفرنسي (20 فرنكاً في فرنسا)، والنسر المضاعف الأمريكي (20 دولاراً). وللعملات الذهبية جاذبية مضاعفة. فهي وإن كانت ترمز إلى قيمة الأعمال والسلع عند سكها، فإن هذه القطع المستديرة، التي تبدو وكأنها ميداليات آتية من الشمس، اكتسبت بمرور الزمن قيمة تاريخية وتحوَّلت إلى متاحف نعرف من خلالها ما كانت عليه صور الكثيرين من ملوك وحكام العالم خلال التاريخ.
وبدءاً من عشرينيات القرن التاسع عشر، ظهرت الأوراق النقدية التي كانت مرتبطة أولاً وبشكل كامل بالذهب، وقابلة للتحويل في أي وقت. ولكن الأوراق النقدية راحت تفك ارتباطها بالذهب تدريجياً إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 15 أغسطس 1971م إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وكان الدولار آنذاك هو صلة الوصل الوحيدة بين العملات الورقية الكبرى في العالم والذهب. والعملة الوحيدة القابلة للتحويل منذ العام 1914م. وبهذه الخطوة انتهى عصر النقد الذهبي. ليبدأ عصر الذهب الملجأ الآمن .
بتحول قياس قيمة العملات الورقية إلى مقارنتها ببعضها، أصبح للاضطرابات السياسية أثر كبير على قيمة النقد الورقي أينما كان في العالم، ونظراً لصعوبة التكهن بمجريات الأحداث السياسية وبالتالي بقيمة الأوراق النقدية، ظهر الذهب كملجأ آمن للمدخرات، وصار سعره يقفز صعوداً مع كل اضطراب اقتصادي أو سياسي في العالم.
يروي ملفيل في رواية موبي ديك ، كيف أن صورة النسر المضاعف أي قطعة العشرين دولاراً الذهبية كانت معلقة فوق شراع الزورق إعلاناً بأنها جائزة لمن يستطيع اصطياد الحوت الأبيض. ولعل في هذه الصورة ما يكفي للإشارة إلى ما بدا الإنسان دائماً أنه على استعداد للقيام به من أجل الحصول على الذهب. والواقع أن العملات الذهبية وما صاحب السعي إليها واكتنازها، هو ما رسم صورة أخرى للذهب تناقض تماماً الصورة البهية التي رسمتها الحلي والمصوغات الفنية. وذلك من حكايات الأطفال حيث يظهر كيس الذهب ملازماً لصورة الشخص الجشع والبخيل، إلى حقيقة الحروب التي قضت على حضارات وشعوب وغيّرت خارطة العالم.
فمن آلاف الحوادث المأساوية في تاريخ الذهب، حيث أطاح الجشع بأبسط المقاييس الأخلاقية يمكننا أن نذكر قصة آل داميدوف في روسيا.
فقد كانت هذه العائلة تمتلك في القرن الثامن عشر كل مناجم النحاس في منطقة ألتائي في سيبيريا. واكتشفت في خامات النحاس بعض الذهب والفضة، فراحت تستخرجه سراً، لأن استخراج المعدنين الثمينين كان محصوراً بالدولة. وكان العمال يصهرون الفضة والذهب في أقبية قصر العائلة بعيداً عن الأعين. ولكن في كل مرة كان المفتشون يزورون مواقع العمل، وكانت أقبية القصر تُغرق بالماء بمن فيها من العمال لمنع المفتشين من دخولها، ومنع العمال من الوشاية.
وتزداد أهوال تاريخ الذهب بالانتقال من جشع الأفراد إلى جشع الدول. ففي مصر الفرعونية، حين كان كل ذهب العالم ذهباً مصرياً، استنفد فراعنة ثلاثين أسرة معظم مناجم الذهب في النوبة (نوب بالفرعونية تعني الذهب). ولذا نراهم بعدما خسروها يستعيدونها حرباً في العام 1530 ق.م. ويوفدون البعثات العسكرية جنوباً حتى زيمبيم (زيمبابوي). ولكن الذهب المصري الذي جمعه الفراعنة، والذي يقدره المؤرخون بنحو 3500 طن تناثر وتوزَّع في العالم القديم نتيجة لغزو الآشوريين ثم الفرس لبلاد النيل. وكرّت سبحة الحروب الطويلة التي كان الذهب في صميم الدوافع الكبرى إلى اندلاعها. فالنقود المسكوكة من الذهب الخالص في بلاد فارس كانت المحرض الأكبر للإسكندر المقدوني على غزوها في القرن الرابع ق.م. وذهب بيزنطية جذب الصليبيين إلى احتلال القسطنطينية ونهبها خلال مذبحة عملاقة. وتمنّع أهل دمشق عن دفع الذهب إلى تيمورلنك أدى إلى نكبتها الشهيرة… وكأن قانوناً تاريخياً يقول إن على جزء من الذهب أن يتحول إلى قوة تحافظ على الجزء الآخر، وإلا راح الذهب كله، وأخذ في طريقه البلاد والحضارة بأسرها.
البحث عن إلدورادو
بعد اكتشاف كولومبوس للقارة الجديدة بنصف قرن، كانت حضارتا الإنكا والأزتيك تتجردان تماماً من ذهبهما وتدخلان عصر التشتت والزوال. فعندما انهزم الإنكا الكبير أتاهوالبا أمام الغازي الإسباني بيزارو سنة 1532م، تعهد أن يدفع فدية من الذهب والفضة تملأ قاعة بطول 6.6م وعرض 5.1م إلى الارتفاع الذي تصل إليه يده المرفوعة. وفي ذلك كتب الشاعر بابلو نايرودا يقول في المغامرون الإسبان :
فيما بعد، رفع العاهل يده المتعبة
وإلى ما فوق جباه قطّاع الطريق، لمس الجدران.
فخطوا هناك إشارة حمراء ووجب أن يملأ شعبه بالذهب
والفضة ثلاث غرف حتى ذلك الخط الأحمر من دمائهم .
كان الكنز الذي عاد به بيزارو من البيرو إلى إسبانيا الأكبر في التاريخ. فقد جمع من فدية الإنكا الكبير 5552 كلغ من الذهب و118882 كلغ من الفضة كما نهب من العاصمة كوزكو 1100 كلغ من الذهب و1500 كلغ من الفضة. تجردت حضارة الإنكا من ثروتها ومقدساتها وحتى من آنيتها المنزلية وتشتتت إلى قبائل صغيرة هائمة على وجهها في الأدغال والقرى الصغيرة. ولكن ثراءها السابق وبعض ما شاهده الإسبان من طقوس دينية عند هنود المويسكو يستعمل فيها الذهب بإفراط، أدى إلى نشوء أسطورة في أوروبا تتحدث عن مملكة وهمية بالغة الثراء بالذهب: إلدورادو، أي المذهب .
وعلى مدى ثلاثمائة سنة، ظل المغامرون والمستكشفون أفراداً أو على رأس حملات عسكرية يلقون بأنفسهم في أدغال الأمازون بحثاً عن هذه المملكة الوهمية.. ليموت معظمهم وهو يلهث وراء هذا السراب في الأدغال المظلمة. وعلى أنقاض حضارات هنود أمريكا، وفوق آلاف الجثث المبعثرة في الأدغال، نسج الأدباء والشعراء صوراً شتى للإلدورادو.
ففي قصته الفلسفية كانديد ، يرسل الفيلسوف الفرنسي فولتير بطله إلى إلدورادو حيث أطفال القرية المكسوون بالديباج المقصَّب بالذهب، الممزق بكامله يلعبون عند مدخل البلدة.. وكانوا يرمون قطعاً عريضة، تقريباً مستديرة، صفراء وحمراء وخضراء تلقي ببريق فريد هي من ذهب وياقوت وزمرد .
أما إلدورادو عند إدغار ألن بو، فلها الوقع المشؤوم المماثل لكلمة مستحيل ، حيث الفارس يشيخ وهو يبحث عن إلدورادو، وعندما تخور قواه يسأل ظلاً عن مكان إلدورادو فيقول له الظل: خيِّل بجرأة إذا كنت تفتش عن إلدورادو . وبمرور الزمن أصبح اسم إلدورادو اسم أي شيء جميل يداعب الأحلام. فآلاف المتاجر والشركات الاستثمارية والفنادق والمطاعم تحمل اليوم هذا الاسم الذي ما كان ليظهر لولا شغف الإنسان بالبحث عن الذهب. غير أن أهم دلالات هذه الكلمة كانت في القرن التاسع عشر حين كانت تشير إلى مكامن الذهب الكبرى التي يتم اكتشافها حديثاً. و إلدورادو القرن التاسع عشر لا تختلف كثيراً عن إلدورادو أمريكا القرن السادس عشر، حتى ولو كانت واقعية وغير وهمية. ولعل حرب البوير التي احتلت بها بريطانيا كل جنوب إفريقيا خير مثال على تكرار حكاية الذهب ومآسيه.
لا تحدثوني عن الذهب
تزامن اكتشاف الذهب في مناجم وايتوترزراند(جوهانسبورغ) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع ظهور عدة روايات في أوروبا حول إفريقيا وثرائها مثل مناجم الملك سليمان لهاغار (1885م) و لصوص الماس للويس بوسنار إضافة إلى روايات جول فيرن وكونان دويل ومان ريد التي تدور أحداثها في جنوب إفريقيا. ومن بين البريطانيين الذين جذبتهم الثروات الجديدة المكتشفة كان هناك شاب يدعى سيسيل رودس لعب لاحقاً دوراً تاريخياً لا مثيل له في تاريخ الذهب الحديث.
فقد وصل رودس إلى جنوب إفريقيا في السنة نفسها التي تم فيها اكتشاف مناجم الماس في كمبرلي. وبانخراطه في تجارة الماس تمكن خلال سنوات سبع من جمع ثروة هائلة، وأصبح وزيراً في حكومة بريتوريا، وأسس سنة 1888م الشركة المتحدة للألماس دي بيرز كما أسس اثنين من الاتحادات الأربعة لاستخراج الذهب. وحصل على براءة من الملكة فيكتوريا لإلحاق بعض المساحات الشاسعة بالإمبراطورية البريطانية وأطلق عليها اسمه: روديسيا.
ولما راحت مناجم جوهانسبورغ الواقعة تحت حكم البوير (بيض من ذوي أصول هولندية وفرنسية)، تعطي الكثير من الذهب، خطط رودس لحرب بين بريطانيا والبوير بهدف الاستحواذ على جوهانسبورغ. واندلعت حرب في غاية الضراوة واستمرت سنوات ثلاث، وهُزم البوير بعد محاصرتهم من الإنجليز من كل جهة، وأصبحت جوهانسبورغ منذ سبتمبر 1900م تحت احتلال الإنجليز وذهبها ملكاً لهم.
وحصل ما كان يخشاه آخر رئيس للبوير بول كروغر الذي قال يوماً:
لا تحدثوني عن الذهب. إنه معدن يحمل من النزاع والشقاء والنكبات أكثر مما يحمل من المكاسب.. أقول لكم إن كل أونصة تستخرج من أرضنا ستسبب فيضاً من الدموع والدماء لآلاف الناس من خيارنا .
وقد أوحى الصراع على ذهب جنوب إفريقيا للشاعر الإنجليزي روديارد كبلينغ بقصيدة تعبر عن الذهب في واحدة من أبرز مظاهره، يقول فيها:
ألا يستقر الذهب والحقد في صميم المفاتن إلى جانب الرعب الأحمق فبالذهب والرعب والحقد ثار كل بلد على آخر وبالحقد والرعب والذهب ارتبطت ضغائنهم .
أما الذي جعل الذهب سبباً في هذا الفيض من المآسي، ونعني به سيسيل رودس، فقد كتب عنه مارك توين بعدما زار جنوب إفريقيا سنة 1896م:
إنه عبقري عصري ولغز هذا القرن. إنه ملاك مجنّح بالنسبة إلى نصف العالم وشيطان بقرنين بالنسبة إلى النصف الآخر. أعترف بصراحة أنني معجب به. وعندما تحين ساعته، سأشتري بالتأكيد، حفاظاً على ذكراه، قطعة من الحبل الذي سيشنق به .
هكذا كانت حكاية الذهب في جنوب إفريقيا كما كانت أينما كان. حكاية تجمع في فصولها الجمال والرقة وعلامات الحب والألق والرخاء إلى الجشع والقسوة والدماء والموت. حكاية بدأت قبل أكثر من سبعة آلاف سنة.. وظلت على ما كانت عليه.. وستبقى.
استخداماته العلمية
حتى أواسط القرن العشرين، لم يكن للذهب استخدامات علمية أو صناعية أو تكنولوجية تستحق الذكر، إذا استثنينا طب الأسنان. ولكن المواصفات الفيزيائية والكيميائية لهذا المعدن زجّت به في العقود الأخيرة في تطبيقات علمية وصناعية مختلفة، وصار نحو 20 في المئة من الإنتاج العالمي يذهب إلى ميادين الصناعة الإلكترونية والطب والكيمياء وصناعة الطيران والأقمار الصناعية وصولاً إلى بذلات الإطفائيين.
فهو موصل جيد للكهرباء في الأجهزة الإلكترونية من الهواتف الخليوية إلى أجهزة الكومبيوتر. وهو عاكس للأشعة تحت الحمراء في الزجاج العازل للحرارة سواء أكان ذلك في نوافذ الأبنية أو في خوذة الإطفائي. وغير قابل للصدأ أو التآكل في حماية الأماكن الحساسة من الأقمار الصناعية، ومسرّع للتفاعلات الكيميائية ما بين المواد الأخرى في المختبرات من دون أن يتأثر بها. وتعلِّق الأبحاث الطبية الجارية حالياً بعض الآمال عليه في معالجة السرطانات وتسكين الآلام. وتحتل اليابان اليوم المرتبة الأولى عالمياً في مجال استهلاك الذهب لغايات صناعية: (107 أطنان عام 2003م)، يليها كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية (51 طناً).
وفي حين أن أقل من نصف الذهب المستخدم في المجالات العلمية يذهب إلى الصناعة (314 طناً عام 2003م)، يذهب الباقي (385 طناً) إلى طب الأسنان فقط. فاليابانيون والألمان والأمريكيون يستهلكون سنوياً وعلى التوالي 23 و15 و14 طناً من الذهب في صناعة الأسنان المكسوة بالبورسلين.
ولكن، كما ولو أن قدر الذهب يحتم عليه العودة إلى قلب القيم الاجتماعية، غالباً ما تنتهي استخداماته الصناعية والعلمية بقضايا أخلاقية وإنسانية شائكة.فإضافة إلى لصوص المقابر الذين ظهروا ولا يزالون يظهرون في مجتمعات عديدة، وهم يبحثون عن الأسنان الذهبية، تتسبب النفايات التكنولوجية في بروز قضية جديدة. ففي الهند مثلاً، تحول هذا النوع من النفايات إلى مناجم جديدة للفقراء الذين يجمعونها لاستخراج القليل جداً من الذهب الموجود فيها، مستخدمين في ذلك السيانيد الخطر جداً على الإنسان والملوّث المميت في البيئة. الأمر الذي بات يضع الحكومات أمام تحديات جديدة تستوجب المواجهة. وقد وجدت أوروبا الحل بتشريع يقضي بإقامة مجمعات لمعالجة النفايات الإلكترونية، لا لدوافع بيئية فقط، بل أيضاً لاستعادة الذهب الموجود فيها.
الأصفر بألوان عديدية
الذهب الخالص هو ذو لون أصفر. ولكن رقائقه الدقيقة حتى الشفافية تبدو خضراء. وإذا ما أضيف إليه النحاس فيصبح لونه مائلاً إلى الاحمرار، والفضة تجعله مائلاً إلى الاخضرار.
وإذا ما اختلط الذهب الخالص بالحديد فيصبح لونه مائلاً إلى الرمادي، وبالنيكل إلى البياض، وبالألمنيوم إلى البنفسجي.وتضاف المعادن الأخرى إلى الذهب لزيادة صلابته. فمن دونها يكون طرياً جداً وتكون الحلي قابلة للالتواء بسهولة.
وما يسمى في متاجر الحلي ذهباً أبيض هو في الواقع ذهب أصفر ممزوج بمعدن أبيض (مثل البالاديوم أو النيكل)، ليصبح لونه أصفر شاحباً. ولا يتخذ لونه الأبيض تماماً
إلا بعد طلي الحلية التي انتهت صياغتها بمادة الروديوم.
أما البلاتين، الذي يخلط البعض بينه وبين الذهب الأبيض، فهو معدن مختلف تماماً، ويبلغ سعره نحو ضعفي
سعر الذهب.
أما الفارق الطفيف في السعر بين الذهب الأبيض والأصفر (نحو 5 ريالات للغرام الواحد)؛ فيعود إلى أن الذهب الأبيض أصلب من الأصفر، وتتطلب صياغته جهداً أكبر، إضافة إلى ثمن طلاء الروديوم.
وتقاس نقاوة الذهب بالقيراط. وهي كلمة عربية الأصل انتشرت في معظم لغات العالم، وتعني أصلاً بذرة ثمرة الخروب، التي كانت تعتمد قديماً لوزن الذهب والحجارة الكريمة، ووزنها المثبت هو 0.2 جرام.
وفي حالة قياس نقاوة الذهب يعتمد العدد 24 قيراطاً كوحدة أساس لقياس هذه النقاوة بالنسبة إليها، كما هو مبيّن في الجدول أعلاه. ويعتبر عيار 18 قيراطاً هو الأمثل لصناعة الحلي؛ لأنه يحتوي على ثلاثة أرباع وزنه ذهباً خالصاً (نسبة عالية ومقبولة)، وتكون صلابته متوسطة بحيث تقي الحلية من الالتواء خلال الاستعمال، كما أنها تسمح للصاغة بالتعامل معه بسهولة من جهة أخرى. وهذا العيار (الذي يرمز إليه على الحلي بـ 750، أي النسبة بالألف)، هو الأكثر رواجاً في أوروبا والبلاد العربية. في حين أن شعوباً أخرى تميل إلى درجات مختلفة من النقاوة، مثل الهند حيث يفضل العيار 22، أما في أمريكا فالأكثر رواجاً هي العيارات الدنيا، ما بين 8 و 14 قيراطاً.
تبقى الإشارة في هذا المجال إلى أن وحدة الوزن الأساس لبيع الذهب الخالص هي الأونصة. وتساوي الأونصة 31.1034 جرام.
التهافت على الذهب
لا يشير التهافت على الذهب إلى موجات شرائه كما قد يعتقد البعض، بل أصبح هذا التعبير اسم عَلَمٍ لمراحل تاريخية محددة بدقة نظراً لجسامة نتائجه على أحوال بعض الشعوب والدول ومصائرها، ولذا يحتل هذا التعبير بنداً مستقلاً في كل الموسوعات. ولعل أشهر تهافت على الذهب هو المعروف بتهافت كاليفورنيا، الذي يرويه الكاتب الروسي أ.س. مارفونين.
في تلك المنطقة الصحراوية شبه الخالية من السكان، والتي كانت في مطلع العام 1848م موضع مفاوضات ما بين حكومتي الولايات المتحدة والمكسيك بهدف شرائها، كان جيمس مارشال في ليلة 24 يناير يعمل على تعميق قناة تصريف المياه من حول المنشرة التي يملكها، عندما وجد عدة حبات من الذهب -تحتل اليوم مكاناً مميزاً في متحف سميثونيان في واشنطن- ولم يقدّر المكتشف أهمية الاكتشاف، ولا مالك الأرض المهاجر السويسري جوهان سوتر. بل على العكس، فقد ذعر من الخراب والمصائب التي سيسببها الذهب له. وحاول إقناع عماله الزراعيين بكتمان الخبر (كما سيتكرر الأمر لاحقاً في إفريقيا الجنوبية وأستراليا عندما أُخّر إنتاج الذهب في البلدين). وذلك تلافياً لاستقطاب أولئك الذين كتب عنهم الشاعر الروماني: لا يحرثون الأرض ولا يبحثون إلا عن الذهب . لكن هتاف الذهب، الذهب أعلن هذه المرة عن اكتشاف لا مثيل له منذ أيام الفراعنة. ويصنف الأديب النمساوي ستيفان زفايغ في روايته اكتشاف إلدورادو هذا اليوم في جملة اللحظات الخالدة في تاريخ البشرية.
لم يبق الحدث طي الكتمان أكثر من أسبوع. فقد هرع المنقبون من كل المناطق المجاورة. وكان معدل ما يجده الواحد منهم في مجرى نهر أمريكان رافد ساكرامنتو ما بين أونصة وثلاث أونصات يومياً. وفي شهر مايو كان المنقبون يشغلون ثلاثين كيلومتراً على طول مجرى ذلك النهر.غير أن حالة الجنون الشاملة لم تظهر إلا في نهاية تلك السنة، عندما عرف جميع الأمريكيين والعالم بأسره بالخبر من خلال الرسالة التي وجهها الرئيس بولك إلى الكونغرس في 5 ديسمبر.
وكانت ردود الفعل هستيرية. ففي منتصف الشهر التالي، توجهت 61 سفينة من الشاطئ الأمريكي الشرقي لتدور حول القارة بأسرها وصولاً إلى شواطئ كاليفورنيا في الغرب. وقد استغرقت الرحلة عند بعض المهاجرين نحو ستة أشهر.
واندفع البعض إلى مرافئ المكسيك ومنها عبروا الصحراء إلى كاليفورنيا، وجازف البعض بعبور برزخ بناما الموبوء بالحشرات والأمراض.. أما الآلاف فقد اختاروا الطريق الطويل والقاسي عبر القارة على ظهور الخيل وعرباتها، وشكّل ذلك مسيرة رجال السنة التاسعة والأربعين الشهيرة التي كتبت حولها روايات كثيرة، وصورتها السينما مرات ومرات.
ولم تقتصر حمّى الهجوم على الذهب على أنحاء أمريكا فقط، بل داعبت خيال العالم بأسره. فتهافت المغامرون على كاليفورنيا من كل البلدان الأوروبية ومن أستراليا ونيوزلنده والصين.. حتى وصل عدد سكان الولاية خلال سنوات عشر إلى 400,000 نسمة. فكان الأمر فاتحة تموين البلاد بالذهب خلال قرن، وتغيير مصير مئات الألوف من البشر.
ويشار إلى أن الولايات المتحدة كانت قد وقَّعت عقد شراء كاليفورنيا من المكسيك في 2 فبراير 1848م، بعد أسبوع من اكتشاف أول شذرة ذهب في كاليفورنيا، وكان الخبر لا يزال طي الكتمان. فلم تعرف الأولى آنذاك ماذا كسبت، ولم تعرف الثانية ماذا خسرت.
غير أن التهافت على الذهب كان مصحوباً بما يدمر صورته كحكاية جميلة. فقد أدى إلى مذابح عملاقة ما بين المستوطنين البيض والهنود. وفي زمن كانت فيه الغلبة للأقوى والكلمة الأخيرة للمسدس مات الآلاف على الطرقات الوعرة في عمق القارة قبل أن يصلوا إلى كاليفورنيا.
وفي مناجم الذهب وعلى ضفاف الأنهر قضى الكثيرون في الصراعات على المكامن الواعدة. وبقي الغرب الأمريكي لعقود تحت حكم شريعة الغاب بسبب الذهب .وما حصل في أمريكا تكرر في أستراليا عام 1851م حين تم افتتاح حقول نيوساوث ويلز التي كانت قد اكتشفت عام 1823م، بعد أن عثر على الذهب بكميات كبيرة في بالارات.
وتضاعف عدد سكان أستراليا ثلاث مرات خلال السنوات التسع التالية. وفي نيوزيلنده تضاعف عدد السكان مرتين خلال سنوات ست بعد اكتشاف الذهب عام 1861م. كما كان التهافت على الذهب السبب الوحيد لتأسيس مدينة جوهانسبورغ في جنوب إفريقيا عام 1886م، التي ارتفع عدد سكانها من صفر إلى 102,000 نسمة خلال عشر سنوات.
معدن غير قابل للصدأ.. والشغف به أيضاً. فما من مادة على وجه الأرض حظيت بالمكانة نفسها التي حظي بها الذهب في كل الحضارات والثقافات من دون أي استثناء. وما من مادة حافظت مثل الذهب على هذه المكانة طوال التاريخ المعروف.
استمدّ الذهب قيمته الكبيرة أولاً من ميزاته الجمالية وندرته. فظهر أول ما ظهر على شكل حلي وأعمال فنية منذ الألف الخامس ق.م. وتطوَّرت صناعات الحلي، وتبدَّلت أدوارها مرات ومرات. فقد كانت في الحضارات القديمة إشارة للنبل والسلطة، وفي العصور الوسطى مظهراً من مظاهر الغنى والترف. أما في العصر الحديث فقد أصبحت الحلية رمزاً يشير من خلال تلك النقطة الصفراء إلى تفرد الشخص وميله إلى الإتقان وألق المظهر.
وإضافة إلى الحلي والأعمال الفنية، عاش الذهب لفترة 2700 سنة في شكل قطع نقدية. سُكَّت منه أعداد لا تحصى من العملات، ومع ذلك لم يكتفِ الإنسان منه يوماً. وبسبب متابعة الإنسان للذهب يومياً ولآلاف السنين، ترسَّخت صورته المجردة في الأذهان. بحيث أصبحت كل شذرة ذهب في فلز أو في قطعة نقد أو في حلية تمثل كل ذهب العالم، وكل ما يرتبط به من صور وعلامات. وتتوزع هذه الصور والعلامات على جوانب شتى تبدأ بالجمال وبأرق المشاعر الإنسانية، لتمر بالقوة والنفوذ السياسي والاجتماعي قبل أن تنتهي بقدرة هذا المعدن البارد الصامت على تفجير مكامن الغرائز الأكثر وحشية وجنوناً التي لا تقيم وزناً لشيء إلا الذهب.. بالقيراط.
ألم يكن سعي الإنسان الدائم وراء الذهب هو ما أسس الخيمياء ؟ هذا العلم الذي اختلطت فيه المعرفة بالشعوذة لمدة ثمانية عشر قرناً، استنفد الذهب فيها طاقات العلماء والمغفلين على حد سواء.
معدن نبيل لفن نبيل
لعل أجمل الأسماء التي أطلقت على الذهب، وأكثرها إبرازاً لجماله، هو الاسم اللاتيني الذي أطلقه عليه الرومان AURUM أي الفجر؛ لأنه يشبه بلونه الشمس عند بزوغها، ولا يزال رمزه الكيميائي مستمداً من التسمية نفسها Au .
وإضافة إلى جمال لونه ولمعانه، فللذهب مواصفات فريدة من بين كل معادن الأرض. فهو غير قابل للصدأ، ولا يتغير لونه لأنه لا يتفاعل مع الأوكسجين، وهو قابل للطي والحفر والدق والصقل والصب. ويمكن سحب خيط بطول ثلاثة كيلومترات من غرام واحد منه دون أن ينقطع. كما يمكن لغرام واحدٍ أن يُدَق ليتحول إلى رقاقة بمساحة متر مربع.. وإذا أضفنا إلى ذلك قابليته لاتخاذ أي شكل وإعادة استخدامه، وخلود مادته غير القابلة للتحول لأدركنا بعضاً من جملة الأسباب التي تجعله مادة لصياغة الحلي من دون منافس قريب.
وبشكل عام، يمكن القول إن فن الصياغة توزَّع تاريخياً على نوعين شبه مستقلين عن بعضهما، وهما:
أولاً: الصياغة بالمعنى الحصري، وهي التي تعتمد إنتاج حلية تكون فيها مادة الذهب وشكله هدفاً بحد ذاتها. قد يُزخرف الذهب، وقد يتخذ أي شكل من آلاف الأشكال المعروفة. ولكن بريقه ولونه والشكل الذي اتخذه هو الهدف الذي يدعونا الصائغ إلى الإعجاب به.
ولونه الأصفر مثالي في اعتداله وقابليته لضم الحجارة الكريمة إليه، هذه الحجارة التي لا تلقى على يد الإنسان إلا الصقل لإظهار مادتها بوضوح. ومهمة الصائغ تقتصر على جمع ابني الأرض هذين في وحدة ذات تعبير ذاتي طافح. إنه عالم ملون ولمّاع ينبعث منه شعور بالعيد والزينة والبهاء. ولا يمكن لمثل هذا الشعور أن يظهر بمثل هذا الألق أمام أية مادة أخرى.
وإن كانت الأساليب والطرز تتغير بمرور الوقت (وهو ما قد يناقض ظاهرياً فكرة خلود قيمة الذهب)، فإن أهمية الحلية الذهبية تتعزَّز بقيمتها المقاسة بالنقد. وتسمى الحلي المصنوعة في هذا الإطار تقليدية أو تجارية لأنها في آنٍ واحد حلي وتوظيف مضمون. واليوم، تعتبر الهند المستهلك الأول للذهب (475 طناً سنوياً) بسبب شغف شعبها بالحلي، والعائد في جانب كبير منه إلى اعتبارات اجتماعية؛ يليها كل من الولايات المتحدة الأمريكية (354.5 طن) والصين (231 طناً).
ثانياً: الصياغة الفنية، وتشمل كل تلك الأعمال التي يكون فيها الذهب مجرد لغة للتعبير عن فكرة جمالية، ويكون شريكاً لجملة مواد طبيعية أخرى مثل الخشب أو المعادن الأخرى، أو الزجاج، في إنتاج شيء يرتقي بالتحفة إلى أعلى مستوى في وجدان المشاهد، لمجرد احتوائه على الذهب. إنه عالم فريد من نوعه يصل في إحساسه بجمال الذهب إلى أبعد ما يصل إليه النوع الأول من الصياغة. وأعمال الصياغة الفنية التي وصلتنا من الحضارات المختلفة لا تعد ولا تحصى، فقد بدأت قبل قناع توت عنخ آمون بآلاف السنين، وتستمر اليوم بعد فابرجيه وبيكاسو، وتتراوح ثمار هذا النوع من الصياغة ما بين التماثيل والمفروشات المغطاة برقائق الذهب، والسيوف، والعلب، والآنية المنزلية، والمزهريات وأغلفة الكتب، وحتى بعض الحلي النسائية التي تخرج بتصميمها عمّا هو مألوف وتحمل موضوعاً أو خطاباً معيناً.
الشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو خصّ المملحة الذهبية التي صاغها الإيطالي سيليني في عصر النهضة بقصيدة كاملة، ومما جاء فيها:
نقشكِ على كأس ذهب جميل..
زنبقة غدت امرأة وبقيت زنبقة أيضاً..
زهرات فنٍ عجيبة تغبطها الطبيعة .
فيكتور هوغو ليس الوحيد الذي وضع المصاغ من الذهب في مرتبة جمالية أعلى من مرتبة الطبيعة الحية. فعندما كتب جبران خليل جبران أن العناقيد تدلّت كثريات الذهب ، كان يرفع العناقيد الجميلة إلى ما هو أجمل.. ثريات الذهب. فالذهب هو الجماد الوحيد الذي تطلع إليه الوجدان الأدبي والفني على أنه أجمل من الطبيعة.. حتى أن اسم هذا المعدن أصبح إشارة إلى المكانة الأولى، إلى أفضل ما يمكن، سواء أكان ذلك في الوجدان الأدبي القديم عند العرب مثل المسعودي وإطلاق اسم مروج الذهب على كتابه، أم في المباريات الرياضية المعاصرة حيث الميدالية، وإن كانت لا تحوي من الذهب غير اللون، تبقى إعلاناً للتفوق والمرتبة الأولى، أم في أمور معنوية ليس فيها من الذهب غير الاسم مثل اليوبيل الذهبي للدلالة على استمرارية شيء جيد لمدة خمسين سنة، والعصر الذهبي لأمر معين إشارة إلى أفضل المراحل التي مرّ بها.
ميداليات آتية من الشمس
في القرن الثامن قبل الميلاد، ظهرت أول قطعة نقد من الذهب في ليديا (بالأناضول التركية حالياً) ليسلك بذلك المعدن الأصفر منعطفاً أدى ما بعده دوراً استمر حتى جيل كبار السن من أبناء عصرنا.
الذهب النقد.. عرفته كل المدنيات واعتمدته أساساً لتقييم السلع والأعمال. ومن أشهر مسكوكاته في العصر القديم ستاتير كريزوس، والإسكندر المقدوني، والأوريوس الروماني. وفي العصر الوسيط، البيزان البيزنطي، والدينار العربي، والفلورين الفلورنسي، والنوبل في إنجلترا. وبعد اكتشاف الذهب الأمريكي، البيستول الإسباني، ولويس الفرنسي، والجنيه في إنجلترا. وفي العصور الحديثة، الملك الإنجليزي، والنابليون الفرنسي (20 فرنكاً في فرنسا)، والنسر المضاعف الأمريكي (20 دولاراً). وللعملات الذهبية جاذبية مضاعفة. فهي وإن كانت ترمز إلى قيمة الأعمال والسلع عند سكها، فإن هذه القطع المستديرة، التي تبدو وكأنها ميداليات آتية من الشمس، اكتسبت بمرور الزمن قيمة تاريخية وتحوَّلت إلى متاحف نعرف من خلالها ما كانت عليه صور الكثيرين من ملوك وحكام العالم خلال التاريخ.
وبدءاً من عشرينيات القرن التاسع عشر، ظهرت الأوراق النقدية التي كانت مرتبطة أولاً وبشكل كامل بالذهب، وقابلة للتحويل في أي وقت. ولكن الأوراق النقدية راحت تفك ارتباطها بالذهب تدريجياً إلى أن أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 15 أغسطس 1971م إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. وكان الدولار آنذاك هو صلة الوصل الوحيدة بين العملات الورقية الكبرى في العالم والذهب. والعملة الوحيدة القابلة للتحويل منذ العام 1914م. وبهذه الخطوة انتهى عصر النقد الذهبي. ليبدأ عصر الذهب الملجأ الآمن .
بتحول قياس قيمة العملات الورقية إلى مقارنتها ببعضها، أصبح للاضطرابات السياسية أثر كبير على قيمة النقد الورقي أينما كان في العالم، ونظراً لصعوبة التكهن بمجريات الأحداث السياسية وبالتالي بقيمة الأوراق النقدية، ظهر الذهب كملجأ آمن للمدخرات، وصار سعره يقفز صعوداً مع كل اضطراب اقتصادي أو سياسي في العالم.
يروي ملفيل في رواية موبي ديك ، كيف أن صورة النسر المضاعف أي قطعة العشرين دولاراً الذهبية كانت معلقة فوق شراع الزورق إعلاناً بأنها جائزة لمن يستطيع اصطياد الحوت الأبيض. ولعل في هذه الصورة ما يكفي للإشارة إلى ما بدا الإنسان دائماً أنه على استعداد للقيام به من أجل الحصول على الذهب. والواقع أن العملات الذهبية وما صاحب السعي إليها واكتنازها، هو ما رسم صورة أخرى للذهب تناقض تماماً الصورة البهية التي رسمتها الحلي والمصوغات الفنية. وذلك من حكايات الأطفال حيث يظهر كيس الذهب ملازماً لصورة الشخص الجشع والبخيل، إلى حقيقة الحروب التي قضت على حضارات وشعوب وغيّرت خارطة العالم.
فمن آلاف الحوادث المأساوية في تاريخ الذهب، حيث أطاح الجشع بأبسط المقاييس الأخلاقية يمكننا أن نذكر قصة آل داميدوف في روسيا.
فقد كانت هذه العائلة تمتلك في القرن الثامن عشر كل مناجم النحاس في منطقة ألتائي في سيبيريا. واكتشفت في خامات النحاس بعض الذهب والفضة، فراحت تستخرجه سراً، لأن استخراج المعدنين الثمينين كان محصوراً بالدولة. وكان العمال يصهرون الفضة والذهب في أقبية قصر العائلة بعيداً عن الأعين. ولكن في كل مرة كان المفتشون يزورون مواقع العمل، وكانت أقبية القصر تُغرق بالماء بمن فيها من العمال لمنع المفتشين من دخولها، ومنع العمال من الوشاية.
وتزداد أهوال تاريخ الذهب بالانتقال من جشع الأفراد إلى جشع الدول. ففي مصر الفرعونية، حين كان كل ذهب العالم ذهباً مصرياً، استنفد فراعنة ثلاثين أسرة معظم مناجم الذهب في النوبة (نوب بالفرعونية تعني الذهب). ولذا نراهم بعدما خسروها يستعيدونها حرباً في العام 1530 ق.م. ويوفدون البعثات العسكرية جنوباً حتى زيمبيم (زيمبابوي). ولكن الذهب المصري الذي جمعه الفراعنة، والذي يقدره المؤرخون بنحو 3500 طن تناثر وتوزَّع في العالم القديم نتيجة لغزو الآشوريين ثم الفرس لبلاد النيل. وكرّت سبحة الحروب الطويلة التي كان الذهب في صميم الدوافع الكبرى إلى اندلاعها. فالنقود المسكوكة من الذهب الخالص في بلاد فارس كانت المحرض الأكبر للإسكندر المقدوني على غزوها في القرن الرابع ق.م. وذهب بيزنطية جذب الصليبيين إلى احتلال القسطنطينية ونهبها خلال مذبحة عملاقة. وتمنّع أهل دمشق عن دفع الذهب إلى تيمورلنك أدى إلى نكبتها الشهيرة… وكأن قانوناً تاريخياً يقول إن على جزء من الذهب أن يتحول إلى قوة تحافظ على الجزء الآخر، وإلا راح الذهب كله، وأخذ في طريقه البلاد والحضارة بأسرها.
البحث عن إلدورادو
بعد اكتشاف كولومبوس للقارة الجديدة بنصف قرن، كانت حضارتا الإنكا والأزتيك تتجردان تماماً من ذهبهما وتدخلان عصر التشتت والزوال. فعندما انهزم الإنكا الكبير أتاهوالبا أمام الغازي الإسباني بيزارو سنة 1532م، تعهد أن يدفع فدية من الذهب والفضة تملأ قاعة بطول 6.6م وعرض 5.1م إلى الارتفاع الذي تصل إليه يده المرفوعة. وفي ذلك كتب الشاعر بابلو نايرودا يقول في المغامرون الإسبان :
فيما بعد، رفع العاهل يده المتعبة
وإلى ما فوق جباه قطّاع الطريق، لمس الجدران.
فخطوا هناك إشارة حمراء ووجب أن يملأ شعبه بالذهب
والفضة ثلاث غرف حتى ذلك الخط الأحمر من دمائهم .
كان الكنز الذي عاد به بيزارو من البيرو إلى إسبانيا الأكبر في التاريخ. فقد جمع من فدية الإنكا الكبير 5552 كلغ من الذهب و118882 كلغ من الفضة كما نهب من العاصمة كوزكو 1100 كلغ من الذهب و1500 كلغ من الفضة. تجردت حضارة الإنكا من ثروتها ومقدساتها وحتى من آنيتها المنزلية وتشتتت إلى قبائل صغيرة هائمة على وجهها في الأدغال والقرى الصغيرة. ولكن ثراءها السابق وبعض ما شاهده الإسبان من طقوس دينية عند هنود المويسكو يستعمل فيها الذهب بإفراط، أدى إلى نشوء أسطورة في أوروبا تتحدث عن مملكة وهمية بالغة الثراء بالذهب: إلدورادو، أي المذهب .
وعلى مدى ثلاثمائة سنة، ظل المغامرون والمستكشفون أفراداً أو على رأس حملات عسكرية يلقون بأنفسهم في أدغال الأمازون بحثاً عن هذه المملكة الوهمية.. ليموت معظمهم وهو يلهث وراء هذا السراب في الأدغال المظلمة. وعلى أنقاض حضارات هنود أمريكا، وفوق آلاف الجثث المبعثرة في الأدغال، نسج الأدباء والشعراء صوراً شتى للإلدورادو.
ففي قصته الفلسفية كانديد ، يرسل الفيلسوف الفرنسي فولتير بطله إلى إلدورادو حيث أطفال القرية المكسوون بالديباج المقصَّب بالذهب، الممزق بكامله يلعبون عند مدخل البلدة.. وكانوا يرمون قطعاً عريضة، تقريباً مستديرة، صفراء وحمراء وخضراء تلقي ببريق فريد هي من ذهب وياقوت وزمرد .
أما إلدورادو عند إدغار ألن بو، فلها الوقع المشؤوم المماثل لكلمة مستحيل ، حيث الفارس يشيخ وهو يبحث عن إلدورادو، وعندما تخور قواه يسأل ظلاً عن مكان إلدورادو فيقول له الظل: خيِّل بجرأة إذا كنت تفتش عن إلدورادو . وبمرور الزمن أصبح اسم إلدورادو اسم أي شيء جميل يداعب الأحلام. فآلاف المتاجر والشركات الاستثمارية والفنادق والمطاعم تحمل اليوم هذا الاسم الذي ما كان ليظهر لولا شغف الإنسان بالبحث عن الذهب. غير أن أهم دلالات هذه الكلمة كانت في القرن التاسع عشر حين كانت تشير إلى مكامن الذهب الكبرى التي يتم اكتشافها حديثاً. و إلدورادو القرن التاسع عشر لا تختلف كثيراً عن إلدورادو أمريكا القرن السادس عشر، حتى ولو كانت واقعية وغير وهمية. ولعل حرب البوير التي احتلت بها بريطانيا كل جنوب إفريقيا خير مثال على تكرار حكاية الذهب ومآسيه.
لا تحدثوني عن الذهب
تزامن اكتشاف الذهب في مناجم وايتوترزراند(جوهانسبورغ) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مع ظهور عدة روايات في أوروبا حول إفريقيا وثرائها مثل مناجم الملك سليمان لهاغار (1885م) و لصوص الماس للويس بوسنار إضافة إلى روايات جول فيرن وكونان دويل ومان ريد التي تدور أحداثها في جنوب إفريقيا. ومن بين البريطانيين الذين جذبتهم الثروات الجديدة المكتشفة كان هناك شاب يدعى سيسيل رودس لعب لاحقاً دوراً تاريخياً لا مثيل له في تاريخ الذهب الحديث.
فقد وصل رودس إلى جنوب إفريقيا في السنة نفسها التي تم فيها اكتشاف مناجم الماس في كمبرلي. وبانخراطه في تجارة الماس تمكن خلال سنوات سبع من جمع ثروة هائلة، وأصبح وزيراً في حكومة بريتوريا، وأسس سنة 1888م الشركة المتحدة للألماس دي بيرز كما أسس اثنين من الاتحادات الأربعة لاستخراج الذهب. وحصل على براءة من الملكة فيكتوريا لإلحاق بعض المساحات الشاسعة بالإمبراطورية البريطانية وأطلق عليها اسمه: روديسيا.
ولما راحت مناجم جوهانسبورغ الواقعة تحت حكم البوير (بيض من ذوي أصول هولندية وفرنسية)، تعطي الكثير من الذهب، خطط رودس لحرب بين بريطانيا والبوير بهدف الاستحواذ على جوهانسبورغ. واندلعت حرب في غاية الضراوة واستمرت سنوات ثلاث، وهُزم البوير بعد محاصرتهم من الإنجليز من كل جهة، وأصبحت جوهانسبورغ منذ سبتمبر 1900م تحت احتلال الإنجليز وذهبها ملكاً لهم.
وحصل ما كان يخشاه آخر رئيس للبوير بول كروغر الذي قال يوماً:
لا تحدثوني عن الذهب. إنه معدن يحمل من النزاع والشقاء والنكبات أكثر مما يحمل من المكاسب.. أقول لكم إن كل أونصة تستخرج من أرضنا ستسبب فيضاً من الدموع والدماء لآلاف الناس من خيارنا .
وقد أوحى الصراع على ذهب جنوب إفريقيا للشاعر الإنجليزي روديارد كبلينغ بقصيدة تعبر عن الذهب في واحدة من أبرز مظاهره، يقول فيها:
ألا يستقر الذهب والحقد في صميم المفاتن إلى جانب الرعب الأحمق فبالذهب والرعب والحقد ثار كل بلد على آخر وبالحقد والرعب والذهب ارتبطت ضغائنهم .
أما الذي جعل الذهب سبباً في هذا الفيض من المآسي، ونعني به سيسيل رودس، فقد كتب عنه مارك توين بعدما زار جنوب إفريقيا سنة 1896م:
إنه عبقري عصري ولغز هذا القرن. إنه ملاك مجنّح بالنسبة إلى نصف العالم وشيطان بقرنين بالنسبة إلى النصف الآخر. أعترف بصراحة أنني معجب به. وعندما تحين ساعته، سأشتري بالتأكيد، حفاظاً على ذكراه، قطعة من الحبل الذي سيشنق به .
هكذا كانت حكاية الذهب في جنوب إفريقيا كما كانت أينما كان. حكاية تجمع في فصولها الجمال والرقة وعلامات الحب والألق والرخاء إلى الجشع والقسوة والدماء والموت. حكاية بدأت قبل أكثر من سبعة آلاف سنة.. وظلت على ما كانت عليه.. وستبقى.
مهد الذهب
100,000 أوقية سنوياً
يستخرج الذهب في المملكة العربية السعودية من منجم مهد الذهب الواقع في منتصف الدرع العربي على بعد 380 كيلومتراً شمال شرق مدينة جدة، والذي تملكه شركة التعدين العربية السعودية – معادن.يوجد الذهب في هذا المنجم على شكل سلسلة من عروق الكوارتز التي تحتوي أيضاً على الفضة والزنك والنحاس كمعادن مصاحبة.
وينتج المنجم سنوياً ما يقارب 100,000 أوقية من الذهب و300,000 أوقية من الفضة. ويكفي احتياطي الخام لاستمرارية الإنتاج بمعدلاته الحالية لمدة سبع سنوات مقبلة. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الارتفاع المطرد في أسعار الذهب فمن المحتمل أن يطول عمر استخراج الذهب السعودي، لأن عمليات الاستخراج من المكامن الصعبة أو المكلفة حالياً قد تصبح مجدية اقتصادياً في المستقبل.
وقد أكدت الدراسات في منطقة المهد أن استخراج الذهب منها قد حصل قبل ثلاثة آلاف سنة. وثبت من التحليل الكربوني ومن المراجع التاريخية أنه قد تم استخراج المعادن الثمينة من مهد الذهب خلال العصر العباسي، في عهد هارون الرشيد (750م). إذ تم آنذاك استخراج ما يزيد على 40 طناً من الفضة والذهب.واستؤنفت العمليات التعدينية للمرة الثالثة في عهد جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز، رحمه الله، في الفترة الواقعة ما بين عامي 1939 و1954م، حين أنتج المنجم حوالي 23 طناً من الذهب و31 طناً من الفضة. غير أن الأعمال توقفت نتيجة لتدني أسعار الذهب مقارنة بارتفاع التكلفة.
وفي العام 1983م، قام خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد ابن عبدالعزيز -يرحمه الله- بافتتاح المنجم رسمياً، وفي منتصف عام 1988م بدأ الإنتاج التجاري. وقامت شركة معادن بتنفيذ برنامج استكشافي للبحث عن الخام في منطقة الامتياز، وكانت النتائج مشجعة وناجحة وأدت إلى مضاعفة حجم الخام وإطالة عمر المنجم.
ليس نادراً ولكن الظمأ إليه لا يُروى
في كل بيت, وأينما كان في العالم، يوجد شيء من الذهب. وعندما نضيف إلى ذلك أن في كل مدينة متاجر يتكدس الذهب في واجهاتها، وبعضها يحتوي على أسواق كاملة خاصة بالذهب, وفي كل مصرف في العالم خزائن تحتوي على ذهب مكتنز للحكومات والأفراد, يصعب علينا اعتبار هذا المعدن نادراً. ولكن..
تشير مصادر المجلس العالمي للذهب (في تقرير سبق للقافلة أن نشرت مقتطفات منه) أن مجمل ما أنتجته البشرية من الذهب خلال خمسة آلاف سنه يبلغ نحو 155,000 طن, أي أقل من إنتاج العالم من الحديد خلال ساعة واحدة, ولو جمعنا كل هذا الذهب وصهرناه في قطعة واحدة لحصلنا على مكعب لا يزيد ضلعه على 19 متراً.. فكيف الحال إذا علمنا أن هناك أكثر من 30,000 طن من أصل هذا المجموع قد ضاع.
وتقول المصادر نفسها إن ذهب الحكومات المكتنز في المصارف المركزية بلغ عام 2003م نحو 28,554 طن, في حين أن الذهب المكتنز من قبل الأفراد وصل إلى 35,000 طن. والباقي مجموع على شكل حلي وأعمال فنية.
في العام 2003م, استهلكت صناعة الحلي 2532 طناً, أي أكثر من إجمالي الإنتاج العالمي لتلك السنة (إذ امتصت بعض الذهب المكتنز من سنوات سابقة) وتشهد هذه الصناعة نمواً مستمراً بسبب النمو الاقتصادي الكبير في الهند والصين. وفي المقابل, فإن إنتاج العالم يبدو عاجزاً عن اللحاق بنمو الطلب.
فقد انخفض إنتاج جنوب إفريقيا من 1000 طن سنة 1970م إلى 376 طناً سنة 2003م. وارتفاع الإنتاج في بعض الدول يبقى أقل من أن يكفي لإرواء ظمأ صناعة الحلي وحدها. فكيف الحال بتلبية طلبات المكتنزين الذين يجتاحون بورصات العالم أمام كل اضطراب سياسي أو عند ارتفاع مؤشر التضخم في الدول الكبرى؟
فبشكل عام يمكن القول إن ظمأين يتحكمان بسوق الذهب في العالم. ظمأ الأفراد إلى الحلي, وظمأ المكتنزين الباحثين عن مجال آمن لاستثماراتهم ومدخراتهم. وطالما أن الظمأ الأول صار يستهلك أكثر من إجمالي الإتناج العالمي, فإن هامش إرواء الظمأ الثاني يبقى محصوراً في تلك الأطنان القليلة التي يرضى المكتنزون الآخرون من حكومات وأفراد بالتخلي عنها, وهي لا تصل أبداً إلى مستوى التخلي التام.
ضيق هذا الهامش هو ما أدى إلى استعار حمى الذهب خلال العام 1980م عندما وصل سعر الأونصة (في 19 يناير) إلى ما فوق 800 دولار. وعندما لم يعد هناك من ذهب معروض بأقل من ذلك، اضطر المستثمرون في يوليو من السنة نفسها إلى الاتجاه صوب المعادن الثمينة الأخرى فارتفعت أسعار البلاتين والفضة بشكل صاروخي، وفي الوقت نفسه قفزت أسعار الماس واللوحات الفنية وصولاً إلى السجاد الايراني بنسب خيالية. وهذا يعني أمراً واحداً: إقبال لا يرتوي على سلع تحافظ على قيمتها عندما يتعاظم التضخم.
ثمنه اليوم.. وغداً
وبعودة أسعار الذهب إلى الارتفاع المتواصل خلال الأشهر الأخيرة حتى وصلت إلى مستويات لم تعرفها منذ حمّى عام 1980م، يعدد المحللون جملة أسباب غير العامل الطارئ المتمثل بالأزمة السياسية الإيرانية-الأمريكية والمخاوف من تداعياتها الاقتصادية. وأهم هذه الأسباب:
1 –
النمو الاقتصادي الكبير في الهند والصين وازدياد القوة الشرائية في الأولى للحلي الذهبية. وبالثانية للاكتناز المصرفي، وبناء مخزون استراتيجي من المعادن لضمان الإمدادات، حسبما أعلن المسؤولون.
2 –
تضاؤل الذهب المكتنز على شكل سبائك بعدما صارت صناعة الحلي تستهلك أكثر من إجمالي الإنتاج العالمي.
3 –
عدم استثمار مناجم جديدة تستحق الذكر في العالم خلال السنوات العشر الماضية.
4 – استمرار التضخم في أمريكا وأوروبا الغربية واليابان.
وفي سياق الحديث عن دور التضخم وازدياد الكتلة النقدية في العالم، ضرب أحد المحللين على شاشة تلفزيون بلومبرغ مثلاً بالقول إنه إذا واصل مؤشر البورصة الأمريكية دو جونز ارتفاعه خلال العقد أو العقدين المقبلين من 11 ألف نقطة حالياً إلى 25 أو 30 ألف نقطة، فيجب أن يصل ثمن الأونصة إلى ما بين 5 آلاف و10 آلاف دولار!!
المنتجون
الصغار
يتقدمون
باتجاه الكبار
لا تزال جنوب إفريقيا المنتج الأول للذهب في العالم بفضل مكامن وايتواترزراند (حوالي 376 طناً سنوياً). ولكن إنتاجها يتضاءل، ولم يعد يمثل سوى ثلث الإنتاج العالمي، مقابل الثلثين قبل عشرين عاماً.
وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا المرتبتين الثانية والثالثة، ثم الصين، وروسيا.
أما إندونيسيا والبيرو فتظهران تقدماً كبيراً في الإنتاج الذي وصل تباعاً في كل منهما إلى 163 و 172 طناً سنة 2003م، بعدما كان نتاجهما طنين و 18 طناً قبل ذلك بسنوات عشر.
كلفة الذهب
انتهى عصر التبر، أي الذهب الذي يعثرعليه بشكل قطع مستقلة في مجاري الأنهار. وإنتاج الذهب اليوم يقوم على استخلاصه من خامات صخرية وترابية. ولاستخراج طن واحد من الذهب يجب على المنتج أن يعالج 200,000 طن من الخام، وهو عمل جبّار ومكلف مادياً. وتبلغ كلفة إنتاج الأونصة الواحدة اليوم حوالي 278 دولاراً في بعض المناجم، وتشمل أجور العمال والمعدات، واستخلاصها من الخام، وأيضاً إعادة تأهيل موقع الاستخراج بيئياً بعد انتهاء الاستثمار.
وفي أفضل المناجم لا يمكن أن تنخفض هذه الكلفة إلى ما دون 170 دولاراً للأونصة.أما التكلفة البيئية فهي أكبر بكثير.
فاستخراج الذهب يتطلب الكثير من الطاقة، ويستهلك الكثير من الماء. والأسوأ من ذلك أنه يستوجب استخدام مواد كيميائية سامة مثل السيانيد والزئبق وبكميات كبيرة يشكل التخلص منها معضلة عالمية.ففي حوض الأمازون وحده، يقدر وزن الزئبق الذي ينتهي في مياه الأنهار بنحو 200 طن سنوياً، على الرغم من أن الزئبق لم يعد مستعملاً في الاستخراج إلا في نحو 10 في المئة من الإنتاج العالمي. وبشكل عام، فإن إنتاج 2500 طن من الذهب سنوياً (المعدل الحالي) يستوجب بقر الأرض لاستخراج 500 مليون طن من الخام.. الأمر الذي يترك أثراً عملاقاً على المعالم الطبيعية والحياة فيها.
اقرأ عن الذهب
على الرغم من أهمية شأنه، فإن الكتب التي تتناول الذهب كمعدن ليست كثيرة، مقارنة بوفرة الكتب التي تتحدث عن الحلي وطرزها وكنوز العالم الذهبية. الكتاب الوحيد المتوافر حالياً بالعربية في الأسواق هو الذهب.. مضامينه، اكتشافاته، الهجمات عليه . وهو من تأليف الباحث الروسي أ. س. مارفونين وترجمة ميشيل خوري. وقد صدر عن دار الفاضل في دمشق.
يقع هذا الكتاب في 446 صفحة، وهو فريد من نوعه لجهة شموليته لتاريخ الذهب وقيمته ودوره في كل حضارات العالم والاقتصاد العالمي قديماً وحديثاً، إضافة إلى مضامينه على الصعد الوجدانية والفنية، وسرده بالتفصيل لكل اكتشافات مكامن الذهب الكبيرة في العالم. ولعل أبرز أقسام الكتاب الأربعة هو القسم الرابع الذي خصصه المؤلف لجملة مواضيع جمعها تحت عنوان الظمأ إلى الذهب في القرن العشرين ويتناول فيه بالتفصيل إنتاج الذهب المعاصر وخريطته وحركته التجارية والمحطات الكبيرة التي شهدها عالم الذهب خلال العقود الأخيرة, وبشكل خاص تقلبات الأسعار والعوامل التي أدت إليها. مما يجعل من هذه الصفحات معيناً كبيراً على فهم الأمور الغامضة التي تتحكم في مسار إنتاج الذهب وحركته وحتى أسعاره التي عادت لتستقطب مؤخراً الكثير من التحليلات والتوقعات. وقد كان هذا الكتاب عوناً كبيراً لنا خلال إعداد هذا الملف.