يبدو أن الجار لم يعد قريباً وأصبح أكثر بُعداً من الأمتار القليلة التي تفصله عن جاره، إذ انزوى الجيران في الظل، واختبؤوا خلف أسوار بيوتهم ونوافذهم المغلقة. فهل ما زالت مقولة «الجار قبل الدار» سارية إلى اليوم أم أن المعايير اختلفت وتبدَّلت وأصبح السكن خاضعاَ لمعايير اقتصادية واجتماعية بعيداً عن تلك العاطفية أو السلوكية التي تفرضها المجتمعات المحافظة أحياناً؟ عبير الفوزان تحاول في هذا المقال، الإجابة عن هذه الأسئلة.
مفردة الجيران أو الجار، أصبحت منسية ومنزوية بعدما طغت عليها مفردات أخرى مثل الصديق، وزميل العمل، وأهل أصدقاء الأبناء في المدرسة.
وأمام هذه المعارف الجديدة، لم يعد هناك سبيل لكي يتعرف الجيران على بعضهم كما كان سابقاً عبر واجب الضيافة حينما كانت النساء يستقبلن جارتهن الجديدة بالشاي والقهوة ووجبة الغداء، ثم يزرنها لتقديم التبريكات لها بالدار الجديدة والتعارف، لا سيما أن صاحبة المنزل الملاصق ستصبح الجارة الأحق بالقربى. فالجار كان الأخ والصديق والقريب، وهو من يساندك وقت الأزمات ويقف معك وقت الفرح، وربما كان خازن أسرارك، فهو سترك وغطاؤك خصوصاً داخل تلك البيوت اللصيقة بعضها من بعض.
في الزمن الماضي، لم تكن تفصل الجيران جدران إسمنتية أو عوازل صوت، حتى أن أسلوب الحياة لم يكن مليئاً بالضجيج كما هو اليوم. كان الهدوء يغري الحواس بأن تقتنص الرائحة والصوت ونقاء الرؤية، لذا كانت الحدود الأخلاقية التي يلتزم بها الجار مع جاره، هي السائدة في غياب الحدود المادية من جدران وعوازل.
لقد كان الجار، شئنا أم أبينا، يتشارك وإيانا رائحة الطعام، وصوت الفرح والحزن، وأحياناً الغضب. فتفاصيل بيتك، لا بد أن يطلع عليها جارك حتى لو لم تطلعه أنت، لأن قرب المسافة وملاصقة الجدار بالجدار، والنوافذ المفتوحة، والأبواب التي لا تُغلق إلاّ ليلاً، تجعل الجار فرداً من العائلة، ومطلّعاً رغم غض البصر والحواس.
طلاق الجار
ولقرب الجار في المكان طرئف ونوادر تداولها الناس خصوصاً تلك الرواية الآتية من العصر العباسي، عن رجل طلّق زوجة جاره. وتدور الحكاية حول رجل كان في ذمته أربع نساء دخل عليهن ذات يوم فوجدهن متنازعات، فقال: إلى متى هذا التنازع؟ ما أخال هذا الأمر إلاّ من قبلك، قائلاً ذلك لامرأة منهن، اذهبي فأنت طالق. فقالت الزوجة الثانية: عجلت عليها بالطلاق، لو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقاً، فقال لها: أنت طالق أيضاً. فقالت الثالثة: قبحك الله، فوالله كانتا إليك محسنتين، وعليك مفضلتين. فقال: وأنت أيتها المعددة نعمهما طالق أيضاً. فقالت زوجته الأخيرة وكان يُشهد لها بالأناة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلاّ بالطلاق! فقال لها: وأنت طالق أيضاً.
كل هذا الخلاف كان يدور في بيت الرجل، وكان في البيت المجاور جارة لهم تسمع ما آل وسيؤول إليه الحال، فرأت ألاَّ بد من التدخل بحكم الجيرة وإصلاح ذات البين، فأشرفت من فوق الجدار قائلة: ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلاّ لما بلوه منكم ووجدوه فيكم. أبيت إلاّ طلاق نسائك في ساعة واحدة!
كانت الجارة تظن أنها بمعزل عن قرارات الجار الغاضب، لكنه واصل غضبه، قائلاً: وأنت أيتها المؤنبة المتكلفة طالق، إن أجاز زوجك. فأجابه زوجها من داخل البيت: قد أجزت، قد أجزت..!.
فهذه القصة لم تتداول إلاّ لطرافتها، لكننا نوردها هنا، ليس لطرافتها فقط، بل للعودة إلى ذلك الزمن الذي كان بإمكانك فيه أن تسمع كل حوار جيرانك بتفاصيله وأنت في بيتك وتشاركهم وتجادلهم، وربما تشارك جارك في قراراته المصيرية والعائلية.
اختفاء الشفافية
إلا أنه عندما تغيرت البيوت وكذلك النفوس، وعندما اختفت «الفرجة» – أو «الفرية» كما تسمى في بعض دول الخليج – وهي عبارة عن فتحة في الجدار بين بيتين لصيقين تسهل مرور شخص وهو محدودب للدخول أو تناول الأشياء وتبادل الحاجيات والأطعمة، اختفت معها شفافية الجار مع جاره، وأصبح لكل منهما أسراره وحياته الخاصة ولم يعد يتشارك فيها مع جاره.
والتغير لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى درجة الجفاء نتيجة للمدنية وتطور الحياة في المدن التي ازداد فيها عرض الزقاق ليصبح شارعاً، ولم يعد الباب يفصله عن الباب متر أو اثنان، بل أخذا يتباعدان بعشرة أمتار أو عشرين متراً.
جيران المدينة
اختلف مفهوم الجيرة في الزمن الماضي، بين المدينة والقرية، وبين الحاضرة والبادية، لكننا اليوم لا نكاد نلمس هذا الاختلاف بعد أن تمازجت الأعراق بعضها مع بعض من حاضرة وبادية، وبعد أن أصبحت القرى مسخاً للمدن في أسلوب بناء بيوتها وشوارعها.
فمع أن العالم أصبح قرية صغيرة، إلاّ أن من كانوا قريبين بعضهم من بعض، أبعدتهم التكنولوجيا والمسافات المدنية. ولم يعد الجدار الملاصق سبباً لإقامة علاقة ودودة، بل أصبحت العلاقات يشوبها كثير من الريبة والخوف من الجار الجنب والجار المقابل.
ولعل هذه الريبة بدأت عندما انتقل الناس من قراهم الصغيرة إلى المدينة فاختلطوا بأبنائها وأبناء جاءوا من القرى المختلفة فأصبحوا في نظرهم «أجانب». والنظرة إلى الأجنبي أيّا كانت لغته أو لونه، هي نظرة ريبة وشك. لذا كانت المبادرة من الجار القديم إلى الترحيب بالجار الجديد ضرورة لإقامة علاقة الجيرة الودودة التي من شأنها مع مرور الوقت، أن تقضي على الريبة والخوف. فالباب بالباب والجدار بالجدار حتى لو كان الجار من مدينة أخرى. فالرسول -صلى الله عليه وسلم-، أوصى على سابع جار.
ومن هذا المنطلق، أقيمت العلاقات في جو يسوده الود والوئام إلى أن انقضَّت التقنية على المدن والقرى. فالجيرة في المدينة كانت نوعاً من الانفتاح على الآخر، والثقافات الأخرى، خلافاً للجيرة في القرى حيث تربط الجار بالجار عادة أواصر القرابة والمصاهرة قبل الجوار.
ولكن في كلتا الحالتين، كان الجار حاضراً حتى وإن اختلفت ثقافتهم وأصولهم.
إن المد الديموغرافي بالنسبة للناس والمد الأفقي بالنسبة لإعمار المدن جعل المدن الشاسعة والكثيفة السكان، مكاناً يتحوط فيه كثيرون. فلربما كان الجار الذي يجاورك هارباً من العدالة، أو منخرطاً في تنظيم، أو ذا سلوك سيء، فهو غير معروف مهما أدعى.
كما أن الحاجة لعلاقة الجيرة، انتفت بالنسبة إلى الكثيرين. فوسائل الاتصال مع الأهل والأصدقاء أصبحت متاحة أكثر من ذي قبل، وبإمكانك مثلاً، أن تتواصل يومياً مع قريبك الذي يسكن في قارة بعيدة، أو تتواصل لحظياً مع صديقك الذي يعمل في مدينة تبعد عن مدينتك مئات الكيلومترات.
كما أن المستوى الاقتصادي للفرد، أثر في مستوى الجيرة فاختفت حاجات الجيران البسيطة التي كانوا يتبادلونها مع الجيران مثل الملح والسكر والقليل من البن أو الهيل أو ما شابه.. فلقد أصبحت محال البقالة تقوم بتوصيل ما تحتاجه ربة البيت، وأصبح من العيب طلب مثل هذه الأشياء من الجار.
جيران زمن التقنية
في هذا الزمن، بدأ الجار يتراجع من صف الجوار، وبدأ مفهوم الجيرة يتنحى تاركاً المساحة لنوع جديد من العلاقات التي ظهرت في زمن التقنية، إذ تربعت على عرش الود.
فشبكات التواصل الاجتماعي بدءاً من الفيسبوك وتويتر والانستجرام، أغنت كثيراً من الناس عن العلاقات الدافئة الحقيقية، إذ وفرت لهم نوعاً من العلاقة الافتراضية المريحة نسبياً والتي تتناسب مع هذا الزمن ومتطلباته.
والتواصل مع الناس لم يعد حكراً على أن نكون وجهاً لوجه، بل إن البحث عمَّن يكفلون لنا الدهشة أو الفائدة دون عبء يُذكر هو المطلب، لذا كان الجار الافتراضي في التابعين والمتبوعين في شبكات التواصل الاجتماعي هو البديل الأنسب للجار. ولعل من المفارقات أن تتعرف إلى جارك القريب منك في الحقيقة من خلال هذه الشبكات الافتراضية، وإذا أعجبك هذا التابع الافتراضي، فربما أدخلته إلى حياتك الحقيقية ليس بوصفه جاراً فقط بل صديق تقنية.