طاقة واقتصاد

التسرب الوظيفي..
المهدِّد الصامت لمبادرات سوق العمل!

  • 28
  • 30
  • 31
  • cvs hands

قبل 18 عاماً، وتحديداً بتاريخ 21/4/1415هـ خطت المملكة خطوة مهمة بإقرار سياسة توطين الوظائف، لكنّ سوق العمل ظلّ يواجه مشكلة حقيقية تتمثل في تنامي حالات التسرب الوظيفي، الظاهرة التي تكشف الحاجة لإيجاد بيئات عمل تلتزم بمعايير لائقة تحفظ حقوق طرفي العمل وتحقق عنصر الاستقرار الوظيفي. وأمام مساعي وزارة العمل الحثيثة في إيجاد فرص عمل للشباب السعوديين، فإن الاهتمام بمعالجة مشكلة التسرب الوظيفي يمثل أهمية لخلق استقرار في سوق العمل، والحدّ من الأضرار التي تصيب مؤسسات العمل والعاملين والمجتمع، لأن أي مبادرة تطلق بهدف السيطرة على البطالة ستكون عنصراً سلبياً ومجهضاً لسياسة توطين الوظائف مستقبلاً إذا ما استمرت في تجاهل معالجة أسباب التسرب الوظيفي.
في المقالة التالية يتحدث المهندس حامد العنزي، عن مشكلة التسرب الوظيفي، التي تعتبر معالجتها ضماناً لنجاح سياسة التوطين الوظيفي. فعدم الوقوف عند هذه المشكلة وتجاوزها سيصنع عقبات أكبر وأكثر تعقيداً، خصوصاً إذا ما علمنا أن التقديرات تشير إلى استقبال سوق العمل السعودي سنوياً أكثر من 118 ألف خريج جامعي، وهو ما يعني حاجتنا المُلحة لاستيعابهم دون منغصات تسهم في إجهاض جهود توظيفهم لاحقاً.

من يرصد التسرب؟
أوضحت وزارة العمل قبل نحو أربعة أشهر أن برنامج «نطاقات» قد أسهم في توظيف قرابة ربع مليون مواطن من الجنسين (247121) في منشآت القطاع الخاص خلال الأشهر العشرة الأولى.

وللوهلة الأولى يتبادر إلى ذهن المتابع أن برنامجاً كـ«نطاقات» الذي أسهم في توظيف ربع مليون مواطن ومواطنة خلال عشرة أشهر فقط؛ هو البرنامج الذي نبحث عنه كحل لمعضلة البطالة. لكن السؤال الكبير الذي يتوارى خلف الستار.. ما نسبة التسرب الوظيفي التي رصدها البرنامج؟ وكيف يمكن لبرنامج يحاول أن يقلل نسبة البطالة أن يتجاهل نسبة التسرب الوظيفي في قطاعات التوظيف؟

ولكي يكون المدخل لموضوع التسرب الوظيفي منطقياً، يجب علينا أولاً تحديد مفهوم أو تعريف التسرب الوظيفي. فبحسب «ستيف سكوت، التسرب الوظيفي للقوى العاملة المواطنة في القطاع الخاص, صندوق تنمية الموارد البشرية»، يُعرف التسرب الوظيفي بأنه: «إرادة الموظف في ترك عمله الحالي سواء برغبته أو برغبة المنشأة». ويعّرفه «اليكس ماسفيتر» بأنه «قرار الفرد المنتمي إلى منظمة ما يحصل منها على أجر بترك عمله الحالي».

ويُعد تجاهل نسب التسرب الوظيفي مؤشراً قوياً على أن مبادرات وزارة العمل تقف فقط على حدود زجّ العاطل في سوق العمل دون النظر لاستقراره وظيفياً أو حتى دون محاولة فهم طبيعة التسرب الوظيفي في سوق العمل.

كما أن عدم فهم طبيعة التسرب الوظيفي في وظائف القطاع الخاص سيجعل ذلك التسرب أساساً لمشكلات ومعضلات تواجه القائمين على سياسات التوظيف مستقبلاً، إذ ليست القضية في إيجاد فرصة العمل بقدر محاولة إيجاد بيئات عمل تلتزم بمعايير تلبي رغبات طالب العمل وتحقق عنصر الاستقرار الوظيفي.

ولعلنا نعترف بوجود إشكالية كبيرة في توظيف العاطلين والعاطلات وحدوث التسرب الوظيفي خلال فترة زمنية قصيرة في مؤسسات العمل الصغيرة والمتوسطة، تلك المؤسسات التي لا تجد دخلاً كبيراً يسمح لها باستهداف المتعطلين وجعل سياسة التوطين كاستراتيجية مشتركة بينها وبين الدولة. فتلك المؤسسات تفتقد لسياسات تنمية الموارد البشرية وتطويرها، كما أن سياساتها المالية وهيكلها الإداري يفتقد لأدوات الدعم والتحفيز إذ هي أولاً وأخيراً مؤسسات يديرها أشخاص لا تتجاوز طموحاتهم تحصيل الأرباح الشهرية دون وجود خطط استراتيجية لتطوير المنتجات أو الميل نحو التوسع في المشاريع والاعتماد على التدريب كعنصر مهم لتطوير المورد البشري وتحويل العمل بها إلى عمل مؤسساتي يسمح بتوظيف الآلاف من طالبي العمل في بيئات عمل عصرية تراعي الجانب النفسي والمادي للموظف.

القطاع الخاص رائد التسربّ
وإذا ما تناولنا أبرز الإحصاءات حول التسرب الوظيفي في سوق العمل فإننا سنجد أن %70 من شركات القطاع الخاص تعاني من معدل تغيير الموظفين وعدم استمرارهم (دراسة أعدتها برامج عبداللطيف جميل لخدمة المجتمع بالتنسيق مع «إبسوس»). ولعل هذه النسبة تعطي مؤشراً على أن التسرب الوظيفي ممارسة أخذت تتسع وتستخدم بأشكال مختلفة من قبل الموظفين السعوديين في القطاع الخاص.

وبحسب الدراسات التي تناولت موضوع التسرب الوظيفي «بندر الحربي: تسرب العمالة الوطنية من القطاع الخاص: الأسباب والحلول المقترحة»، فإن من أهم الأسباب التنظيمية التي تؤدي إلى تسرب العمالة الوطنية من القطاع الخاص عدم توافر مسار وظيفي واضح للترقية، وعدم الشعور بالعدالة في تقويم الأداء الوظيفي.

بالإضافة إلى افتقاد الشعور بتوافر الأمن الوظيفي، وعدم توافر الفرص التدريبية المناسبة، وكون الإجازة الأسبوعية يوماً واحداً فقط. كما أن من أهم الأسباب المادية والمعنوية التي تؤدي إلى تسرب العمالة الوطنية من القطاع الخاص انخفاض الرواتب، وقلة الحوافز، وعدم توافر مكافآت مالية للموظف المجتهد.

أسباب التسرب
وبحسب دراسة «التسرب الوظيفي للقوى العاملة المواطنة في القطاع الخاص»، التي أعدها صندوق تنمية الموارد البشرية 1428هـ، فإن %34 من المتسربين عملوا لمدة سنة أو أقل، في حين أن %26 عملوا من سنة إلى أقل من سنتين، أما نسبة المتسربين الذين عملوا من سنوات خمس فأكثر فيشكلون %8.6.

الجدول رقم (1) يوضح نسب التسرب الوظيفي.

ومن خلال الدراسة السابقة، فإنه يبدو واضحاً أن التسرب يزيد عند حديثي التوظيف وهم من يشكلون الغالبية المستهدفة في المبادرات التي أقرتها وزارة العمل مؤخراً.

وتوزع الدراسة السابقة المتسربين إلى فئات بحسب الراتب الشهري. ويوضح الجدول رقم (2) هذا التوزيع.

ويؤكد محتوى الجدول ارتباط قيمة الراتب بالتسرب، فكلما قلّ الراتب الشهري زادت نسبة التسرب، في حين يقلل الراتب الشهري المجزي نسبة التسرب. فنسبة %40.5 من عينة الدراسة من المتسربين رواتبهم الشهرية أقل من أو تساوي 2000 ريال، في حين تقل النسبة إلى %1.4 إذا كان راتب الموظف أكثر من 8000 ريال.

ولا تقتصر أضرار التسرب الوظيفي على سياسات التوظيف التي تقوم على تنفيذها وزارة العمل بل تتجاوز ذلك لتشمل المنظمة والفرد والمجتمع. كما يشرح د.طلال الأحمدي من معهد الإدارة العامة.

فعلى مستوى المنظمة، تزيد التكاليف المتمثلة في إعادة التوظيف والتدريب والتعليم والإعلان عن الوظائف، وتكاليف المقابلات الشخصية للمتقدمين الجدد، بالإضافة إلى تكاليف التعليم والتدريب على رأس العمل، والإنتاجية المفقودة بين الأفراد الذين يمرون بهذه المراحل.

أما على مستوى الفرد، فقرار ترك العمل سيكون خسارة له من ناحية المنافع المادية المستمرة، وفي الأقدمية، وفي العلاوات الإضافية المرتبطة بها. كما أن علماء الاجتماع يذهبون بعيداً في إضافة بعض الأضرار الاجتماعية للمتسرب عن العمل، من ذلك؛ انقطاع العلاقات الاجتماعية للفرد وعائلته، وذلك لتغييره الوظيفة، أو انتقاله من منطقة لأخرى.

وعلى مستوى المجتمع فمن الممكن أن تؤدي الزيادة المفرطة في ارتفاع معدلات التسرب إلى زيادة في تكلفة الإنتاج، وإلى وجود طاقة إنتاجية عاطلة.

كل ذلك يجعل من الأهمية بمكان أن تسعى وزارة العمل أثناء تطبيق سياساتها الرامية لتوطين الوظائف إلى النظر بعين الاعتبار إلى الأرقام والإحصاءات الخاصة بالتسرب الوظيفي، وذلك مع كل خطة أو مبادرة تهدف إلى توظيف الأيدي العاملة الوطنية. وقد تسهم قاعدة البيانات التي كانت أحد أهم نتائج برنامجي «نطاقات» و«حافز» في إمكانية التواصل مع المتسربين وظيفياً للوقوف على أهم الأسباب التي أدت إلى تركهم العمل.

معالجة التسرب الوظيفي
نستطيع القول إن أي مبادرة تطلق بهدف السيطرة على البطالة ستكون عنصراً سلبياً ومجهضاً لسياسة توطين الوظائف مستقبلاً إذا ما استمرت في تجاهل معالجة أسباب التسرب الوظيفي.

ويمكن إيجاز أبرز المعالجات للتقليل من التسرب الوظيفي في النقاط التالية:


أولى خطوات التعامل مع المشكلة هو الاعتراف بها. فالإقرار بوجود التسرب الوظيفي، وتأثيره على سياسات التوظيف، وتقليل البطالة سيكون الباب الذي نبدأ معه بالتعامل مع إشكالية التسرب الوظيفي.


محاولة إيجاد مؤشرات وبيانات التسرب الوظيفي شهرياً أو كل ثلاثة أشهر. فترسيخ مبدأ الشفافية من خلال استعراض نسب التسرب سيكون له تأثير إيجابي على نجاح سياسات التوظيف.


بحث مدى ملاءمة معدل الأجور الحالية للمواطن السعودي بحسب المهن ومتابعة التغيرات الطارئة على تكاليف معيشة المواطن.


التعامل بحزم مع القضايا العمالية ومحاولة تقليل فترة تداول القضايا.


إنشاء دوائر قضائية عمالية متخصصة وذات استقلالية تهدف لتحسين نظام فضّ المنازعات العمالية بواسطة قانونيين متخصصين في قضايا العمل والعمال. وقد جاء هذا المقترح ضمن استراتيجية التوظيف السعودية، لكنه لا يزال غير مفعّل وما زالت اللجان العمالية تواصل عملها بالطريقة التقليدية والتي أسهمت في تراكم القضايا وتأخر إقرار الأحكام.


تأسيس الدوائر القضائية سيكون له تأثير مباشر في تقليل نسب التسرب، إذ سيكون هناك تهذيب للعدد الكبير للمتسربين من خلال إقرار وجود القضاء كمرجع ذي ثقة في التعامل مع المشكلات الواردة له، وهو ما سينعكس إيجابياً في المستقبل في تفكير الموظف كمتسرب، أو جهة العمل كمسرحة للموظف، في أن يمضي قدماً نحو قراره.

أضف تعليق

التعليقات