ملف العدد

الترس
المحرك في كل محرك

  • 88c
  • 87a
  • 88a
  • 89c
  • 88b
  • 89a
  • 89b
  • 102a
  • 89d
  • 89e
  • 90a
  • 90b
  • 90c
  • 91a
  • 91b
  • 91c
  • 91d
  • 91e
  • 91f
  • 93a
  • 93b
  • 93c
  • 93d
  • 93e
  • 93f
  • 94a
  • 94b
  • 94c
  • 95a
  • 96a
  • 96b
  • 97a
  • 97b
  • 97c
  • 97d
  • 97e
  • 99ab
  • 100a
  • 100b
  • 100c
  • 100d
  • 100e
  • 101a
  • 101b
  • 101d
  • 101e
  • 101f
  • 101h
  • 101i
  • 101k
  • 101l

ما الذي يدعونا إلى التوقف أمام الترس في هذا الملف؟
أمن الضروري حقاً أن نتعرف إليه عن كثب ونحن نادراً ما نلحظ وجوده من حولنا؟
وما الذي يمكن أن يُقال بشأنه وصورته تقتصر على قرص بسيط مسنن عند حافته؟
والجواب هو أن العلم يقوم على مجموعة عملاقة من المبادئ البسيطة في شكلها الأولي، ومن مهمات الثقافة استكشاف أهميتها وجاذبيتها. وعندما نتطلع اليوم إلى ما هو أبعد من النتائج والفوائد التي تعود بها علينا التطورات التقنية؛ لنصل إلى تفاصيلها وما قامت عليه، نجد الترس أو العَجَلْ الصناعي، كما يسميه البعض، في صميم المسيرة التي أوصلت حضارتنا إلى مستوى من التقدم والرفاهية لم يكن يخطر على البال قبل مئة عام فقط. وأكثر من ذلك، يمكن القول إن الترس هو الجوهرة الأساس في تطور الآلة والصناعة، ويختصر أكثر من أي شيء آخر قدرة الإنسان على الملاحظة والتحليل واستكشاف قوانين الطبيعة للاستفادة منها في السيطرة على المادة وإنتاج ما يعود عليه بالفائدة.
فمع فريق التحرير وهذه الرحلة إلى عالم الترس الصناعي.

الترس نادراً ما نلحظ
وجوده
ولكن الأمر لا يعود إلى أنه نادر الوجود.

فهو حاضر في كل آلة ميكانيكية أو كهروميكانيكية من ساعة اليد، إلى موجه الدفع في محركات ناقلات النفط العملاقة. هو نفسه وإن كان بأحجام أو مواد مختلفة، فهو حاضر في كل مصنع مهما كانت السلعة التي ينتجها، وفي السيارة والدراجة الهوائية والمكوك الفضائي ومحرك الثلاجة والطابعة الإلكترونية ومفتاح معلبات الأطعمة وفي كل شيء متحرك من جمادٍ صنعه الإنسان، حتى ولو كان لعبة أطفال.

ولتفسير قلة ما نلحظ وجوده لا يكفي القول إنه غالباً ما يكون موضباً ضمن الآلة بعيداً عن الأعين. فصورته تقفز أمامنا مرات عديدة في اليوم من دون أن نعيرها الانتباه اللازم. إذ نراه ضمن شعارات وزارات الصناعة، والشركات الصناعية، والمصارف وعلى أعلام بعض الدول، وطوابع البريد وبعض العملات المعدنية والورقية، ومقدمات البرامج الاقتصادية على شاشة التلفزيون.. إنه حاضر من حولنا أكثر من أي شيء آخر ابتكره الإنسان على مر العصور، وكأنه العمود الفقري لحضارتنا وما نحن عليه، وهو بالفعل كذلك.

ما هو الترس؟
رغم تعدد أنواع التروس وأشكالها والمواد التي تُصنع منها في العصر الحديث، يمكن القول إن أساس الترس واحد وبسيط بقدر ما هو عبقري. إنه مجرد قرص أو عَجَلْ من مادة صلبة يحمل نتوءات على طول حافته تسمى أسنان . والغاية منه نقل الحركة الدائرية والقدرة من جزء من الآلة إلى جزء آخر.

ولنقل هذه الحركة يجب أن يكون هناك ناقل ومنقول إليه، وبالتالي فإن التروس تعمل دائماً بازدواج. فيكون الترس الأول مثبتاً في وسطه على محور متصل بمصدر الحركة كالماء أو المحرك الكهربائي أو النابض المعدني، وعندما يدور هذا المحور يدور الترس معه. ولكن أسنان هذا الترس تكون متشابكة مع أسنان ترس آخر فيدور هذا بدوره في اتجاه معاكس وبسرعة وقدرة محددتين سلفاً للقيام بمهمة نافعة.

وبشكل عام يمكن القول إن استخدام التروس يكمن في نقل الحركة في اتجاهات مختلفة عن اتجاه مصدرها الأولي، وأيضاً في تغيير سرعة الدوران بين الأجزاء المختلفة من الآلة؛ لتتمكن من العمل بسرعات مختلفة عن سرعة الدوران الأولية المنطلقة من المحرك. وكلما ازدادت الآلة تعقيداً وتعددت مهماتها، فلا بد وأن يزداد عدد التروس التي تضمها.

ويُقاس أداء زوج من التروس بما يعرف بـ القيمة النسبية ، وهي نسبة عدد الأسنان في الترس الصغير مقارنة مع عددها في الترس الكبير. وهذه النسبة هي التي تحدد بدقة مقدار عزم التدوير المنقول ما بين الترسين. فإذا كان عدد الأسنان في أحد الترسين 20 والآخر 80، فإن القيمة النسبية هي 1 : 4. أي أنه عندما يدور الترس الكبير دورة واحدة، فإن الترس الصغير يكون قد دار 4 دورات. وبالتالي، عندما يكون الترس الصغير هو الذي يدير الكبير، فإنه يسمّى ترس التخفيض لأنه يقلل سرعة الدوران بمقدار ثلاثة أرباع. وعندما يكون الترس الكبير هو الذي يُدير الصغير فإنه يُسمّى ترس التضعيف ؛ لأنه يضاعف سرعة الدوران أربع مرات.

والتروس أنواع. أقدمها وأبسطها الترس المهمازي الذي تكون أسنانه موازية للمحور. وهناك الترس اللولبي الذي تكون أسنانه غير موازية للمحور، وميزته في أنه يجعل الترس يصدر ضجيجاً أقل عند الدوران بسرعة كبيرة، ولكنه يبدد الطاقة أكثر من الأول، وهو بالتالي أقل فاعلية منه. وهناك أنواع أخرى، مثل ترس عظم الرنجة الذي تكون أسنانه على شكل V، والترس الدودي الذي يدير ترساً أصغر له شكل قلاووظ ملتف حول محور، والترس المخروطي، وترس الجريدة المستخدم في بعض السيارات والذي يتألف من ترس مهمازي، وجريدة مسننة على إحدى جهتيها يحركها الترس ذهاباً وإياباً. وأخيراً هناك الترس الكوكبي المستخدم في السيارات الأوتوماتيكية وهو يتألف من مجموعة تروس مهمازية تدور حول ترس مركزي يُدعى الترس الشمسي.

حتى القرن الثامن عشر، كانت التروس تُصنع إما من الخشب إذا كانت كبيرة؛ لاستخدامها في الطواحين والنواعير والرافعات على سبيل المثال، وإما من البرونز أو النحاس إذا كانت صغيرة معدّة للاستخدام في الآلات الدقيقة. ولكن مع تطور صناعة التعدين بدءاً من القرن الثامن عشر، صارت تُصنع من مواد عديدة منها الحديد والفولاذ والفولاذ المقوّى بالماس وحتى البلاستيك. إذ ان دراسات احتساب الأداء المطلوب من الترس أصبحت سهلة ومتطورة إلى درجة مكّنت من الاستغناء عن المواد الثقيلة، حيث لا ضرورة لها، والصلابة الزائدة عمّا تتطلبه المهمات المنوطة بالترس.

إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أنه لكل ترس عمر محدد مهما طال. فنقل الحركة من ترس إلى آخر يتم عبر احتكاك الأسنان ببعضها وتشابكها، وهذا الاحتكاك يؤدي إلى تآكل الأسنان بمرور الوقت، خاصة في تروس المصانع التي تنقل مقادير كبيرة من عزم الحركة. ولإطالة عمر الترس لجأ الإنسان إلى تشحيمه بالمواد اللزجة التي تسهّل انزلاق الأسنان على بعضها عند تعشيق ترس آخر. في الماضي، كانت هذه المواد عبارة عن شحوم الحيوانات والزيوت النباتية. أما اليوم، فقد تطورت صناعة زيوت التشحيم البتروكيميائية، وخصّت التروس الصناعية بمجموعة كبيرة من زيوت التشحيم.

تاريخه
على الرغم من تحوله رمزاً للصناعة والحداثة في عالمنا المعاصر، فإن الترس ليس حديث العهد على الإطلاق.

إنه ابن العجلة، وظهر بعدها ببعض الوقت، ولكن المراجع التاريخية لا تزال عاجزة عن تحديد عمره بدقة. كما أنه ما استطاع أحد حتى الآن الجزم بتاريخ اكتشاف العجلة. وإن كانت غالبية المؤرخين ترد هذا الاكتشاف إلى بلاد ما بين النهرين. إذ ان أقدم إثبات ملموس وصلنا عن وجود عربة متحركة على عجلات جاء في نص مسماري من حوض الفرات يعود إلى العام 3500 ق.م. كما أن أقدم دولاب لصناعة الخزف عُثر عليه في العالم يعود إلى المنطقة نفسها وإلى العام 3200 ق.م. ولذا يمكن القول إن السومريين لم يكونوا فقط أول من اكتشف العجلة بشكلها الدائري، بل أيضاً أول من نجح في استنباط مفهوم الحركة الدائرية المستديمة للاستفادة منها.

يفتقر المؤرخون وعلماء الآثار إلى الأدلة القاطعة حول مسيرة تطور العجلة في ذلك الزمن. ولا يوجد في هذا الشأن أكثر من النظريات والترجيحات التي تقول إن العجلات الأولى المستخدمة للنقل لم تكن أكثر من جذوع الأشجار.

ولأن هذه الأشجار كانت في البداية غليظة وعلى قدر كبير من الاحتكاك بالأرض، وتتطلب بالتالي جهداً كبيراً من الذي يجر حمولتها (أو يدفعها)؛ راح المستفيدون منها يطورونها بإضافة أقراص مستديرة من الخشب أو الحجر عند طرفيها لرفعها عن الأرض ومن ثم تمّ تخفيف غلاظة الجذع حتى الحد الأدنى الذي يمكنه أن يبقي العجلتين ملتصقتين به ويحمل الوزن المطلوب نقله. ومن ثم، بالملاحظة والتجربة، اكتشف الإنسان أن من الأفضل للعجلة أن تدور بشكل حر حول محور ثابت، لأن ربط العجلتين بمحور متحرك يمنعهما من الدوران بسرعات مختلفة مطلوبة عند المنعطفات. واستغرقت هذه التطورات البطيئة نحو ألف وخمسمئة عام تقريباً، فحوالي العام 2000 ق.م. فقط ظهرت العجلة المفرّغة أي المؤلفة من إطار دائري مثبت إلى نقطة الوسط بمجموعة شعاعات. كما أن استنباط المحور الأمامي للعربات القابل للتحرك بعجلتيه في الاتجاهين (يميناً ويساراً) للانعطاف، لم يظهر إلا بعد ذلك بنحو ألفي عام أيضاً.

أما بالنسبة إلى الترس، فيبدو تاريخه القديم أشد غموضاً من العجلة. وهناك فجوة هائلة في معرفتنا لتطوره ما بين الألف الثاني والقرن الثالث قبل الميلاد.

المؤكد أن الفراعنة استنبطوا الرافعة، وربما في وقت واحد مع بلاد ما بين النهرين. وإن كان استخدام الرافعات في بناء الأهرامات لا يزال مجرد تكهن يفتقر إلى الإثبات، فقد وصلتنا من مصر الفرعونية البكرة المستخدمة في رفع الماء من الآبار من الألف الثاني ق.م. والبكرة كما هو معلوم، قرص يدور حول محور ثابت يحرك عند دورانه حبلاً مشدوداً إلى حافته.

ولكن ما علاقة
البكرة بالترس الصناعي؟
المبدأ هو نفسه: نقل الحركة من مكان إلى آخر وبشكل آخر. فبنية ذراع الإنسان تسمح له بتحريك شيء ضمن دائرة كاملة، أي 360 درجة. وعندما كان هذا الإنسان يلف حبل البكرة من أحد طرفيه حول أسطوانة؛ ليرفع الماء من البئر، فإن ذراعه تكون عاملة بشكل دائري، والبكرة أيضاً، ولكن الحبل الذي يحمل الماء يتحرك صعوداً في خط مستقيم.

لا شك في أن المعضلة المتمثلة في إبدال الحبل الذي يدور حول البكرة بجسم صلب لتلبية حاجة معينة، هو التحدي الذي نجح الإنسان في مواجهته عندما خطرت له فكرة حفر أسنان عند حافتي قرصين خشبيين تسمح للواحد أن يدير الآخر من دون أن ينزلق عليه.

عصر أرخميدس وما حوله
ينسب بعض المؤرخين إلى عالم الرياضيات والمخترع الإغريقي أرخميدس (287 – 212 ق.م.) اكتشاف البكرة والرافعة والترس المسنن من جملة ما اكتشفه واخترعه في عصره. والأمر غير دقيق تماماً. غير أن أرخميدس كان في الواقع أكثر من أنجز أشياء مذهلة بتطويره لهذه الابتكارات ودراسة القوانين النظرية التي تتحكم بأدائها. حتى يُقال إنه صنع رافعة مكنته من جر سفينة إلى اليابسة بواسطة واحدة!؟

معظم ما نعرفه اليوم عن منجزات أرخميدس العلمية يعود إلى ما وردنا عنه في كتابات العالم الروماني فيتروفيوس الذي عاش في القرن الأول ق.م. وترك لنا كتاباً من عشرة أجزاء يؤكد أن الترس الخشبي كان معروفاً في عصر أرخميدس، وذا استعمالات كثيرة في الآلات كالرافعات والبكرات. أما العالم الروماني الآخر هيرو الإسكندراني الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد أيضاً، فقد اختبر الترس بنفسه عندما اخترع أول آلة لقياس المسافات استناداً إلى عدد دورات العجلات في عربية بين مكان وآخر. وابتكر لهذه الغاية جهاز نقل الحركة من عجلة العربة بواسطة التروس إلى صندوق يحوي حبيبات معدنية كروية الشكل. وعند كل دورة عجلة تسقط حبة في صندوق آخر. وهكذا يمكن تحديد المسافة من خلال الاكتفاء بعد الحبّات في الصندوق عند توقف العربة.

وبتجاوز آلة أنتيكيثيرا التي نفرد لها مساحة خاصة في مكان آخر من هذا الملف نظراً إلى فرادتها في التاريخ، يمكن القول إن الرومان كانوا أول المستفيدين بعد الإغريق مما توصل إليه هؤلاء من تطوير في استخدامات الترس، خاصة في مجال بناء النواعير والطواحين المائية والرافعات التي كانت تستخدم في أعمال البناء وتفريغ السفن من البضائع. ثم جاء الدفع الأكبر في العصر الوسيط لتطوير استخدامات الترس على أيدي العرب.

عصر بني موسى بن شاكر
بنو موسى هو الاسم الذي يعرف به أبناء موسى ابن شاكر الثلاثة الذين عاشوا في القرن التاسع الميلادي وتربّوا في عهدة الخليفة المأمون بعد وفاة والدهم. وبرعاية مستمرة من الخليفة، أصبح محمد وهو أكبر إخوته عالم فلك ورياضيات، وبرع أحمد في الميكانيكا، والحسن بالهندسة الأوقليدية.

وبعدما انطلق الإخوة الثلاثة من دراسة وهضم كل ما سبق أن اكتشف واخترع على أيدي الإغريق، حققوا من الإنجازات العلمية والاختراعات الميكانيكية ما تجاوز إلى حدٍ بعيد كل ما اكتشفته حضارات العلم حتى آنذاك. وقد وضع الأشقاء الثلاثة مجموعة من الرسائل العلمية منها ما هو حول موازين الحبوب، وقياس المسطحات والمساحات الكروية، وتقسيم الزوايا، والحركة الأولى للكرة وبداية العالم وحول الذرّة.

وينسب إلى أحمد وحده كتاب الحيل الذي تُرجم مؤخراً إلى الإنجليزية، لما يحتويه من ابتكارات ونظريات في علم الميكانيكا لم يستطع علماء العالم من التوصل إلى ما يشبهها لقرون طويلة من بعده. ومن ابتكارات أحمد التي نذكرها على سبيل المثال لسهولة قراءتها ولأنها وصلتنا مصورّة، فانوس آلي التلقيم، يعمل بكرة عائمة تتحرك نزولاً كلّما انخفضت كمية الزيت الباقية فيه، فتحرك بواسطة مجموعة تروس الفتيل صعوداً نحو الهواء ليستمر الاشتعال لأن النار تأكل الفتيل بمرور بعض الوقت، ويحتاج إلى سحب من داخل الفانوس.

وفي القرن التالي وضع أبو عبدالله الخوارزمي موسوعته العلمية مفاتيح العلوم التي تضم قسماً خاصاً بالمكوّنات التي استخدمها صنّاع الآلات العجيبة ، وتؤكد أن الترس كان في صلب هذه المكونات، وتدعم صحة الأخبار التي وردتنا عن صناعة أدوات زينة متحركة مثل شجرة من معدن ثمين تتحرك عليها دمى تمثل الطيور.

ومن أهم تطبيقات الترس التي برع فيها العرب استناداً إلى أبحاث بني شاكر، كانت صناعة الساعات كبيرة الحجم. فقد وصلنا من رضوان ابن الساعاتي كتاب ضخم وضعه لوصف الإصلاحات التي أجراها للساعات التي أنشأها والده عند بوابة جيرون في دمشق في العام 1160م، ويتضمن حديثاً عن مجموعة كبيرة من التروس ناقلة الحركة.

ومن القرن الثالث عشر الميلادي، وصلنا كتاب الآلات لابن الرزاز الجزري، الذي أنجزه في ديار بكر عام 1206م. وكان هذا العالم الذي انشغل لمدة ربع قرن في خدمة الأسرة الأرتقية الحاكمة، قد أبدع العديد من الأدوات الدقيقة لاستعمالات أسياده، إلا أنه ترك أيضاً مجموعة دراسات تناولت مشروعات كبرى ذات منفعة عامة. وأهمها النواعير وسواقي المياه، التي وصلت على يديه كما تدل الرسوم التي تزين مخطوطاته إلى مستوى فائق التطور والتعقيد لجهة استخدام التروس الكثيرة في ضبط حركة السواقي والنواعير والطواحين.

ومن ألمع علماء العرب في الميكانيكا، وربما آخرهم، تقي الدين محمد ابن معروف عالم الفلك الذي وُلد في دمشق أو القاهرة وتوفي في اسطنبول عام 1585م. فمن بين مؤلفاته العلمية الكثيرة، وصلتنا نسختان من كتابه الكواكب الدرية الخاص بصناعة الساعات الميكانيكية. ويتضمن هذا الكتاب العائد إلى العام 1559م، ثلاثة وستين رسماً لآليات الساعات بكل ما فيها من تروس ناقلة للحركة.

في ذلك العصر كانت أوروبا تصوغ نهضتها. غير أنها لم تضف آنذاك الكثير على ما أنجزه العرب، إلا إذا استثنينا محاولات ليوناردو دي فينشي اختراع آلاتٍ جديدة، تؤكد رسومه لها أن التروس بقدراتها الحركية تحتل مكانة أساسية فيها.

وببطء أولاً، راحت الآلة تتطور في أوروبا، وتكاثر استعمال الترس ولكن بالبطء نفسه، حتى كانت الثورة الصناعية في القرن السابع عشر.

الترس والثورة الصناعية
يُطلق المؤرخون اسم الثورة الصناعية على العصر الذي تسارعت فيه التطورات التقنية والعلمية، وتحديداً ما بين العام 1712م تاريخ اختراع أول محرك بخاري في بريطانيا على يد توماس نيوكومن، والعام 1913م تاريخ ظهور أول سكة تجميع في معمل هنري فورد للسيارات في أمريكا. وصحيح أن كل حقول المعرفة الإنسانية تطورت بشكل هائل في هذه الفترة بما فيها الطب وعلم الأحياء والرياضيات، ولكن الآلة الميكانيكية كانت وبقيت ولا تزال في قلب هذه التطورات؛ لأنها تشكل حاجة إلى تطوير باقي الميادين، كما أنها بحد ذاتها هدف دائم للتطوير كي تصبح أفضل وتؤدي المزيد من المهمات.

ولهذا جمع المؤرخون كل تطورات ذلك العصر تحت اسم الثورة الصناعية ، وقسّم هؤلاء هذا العصر إلى مرحلتين: المرحلة الأولى (1712 – 1830م) وسموها مرحلة النسيج والبخار، ومرحلة ثانية (1830 – 1912م) وهي مرحلة الكيمياء (خاصة في مجال التعدين) والكهرباء. وفي المرحلتين كانت الآلة الميكانيكية في الصميم، والترس في صميم الآلة.. كل آلة، سواء أكانت هذه الآلة مخصصة للإنتاج الزراعي، أو صناعة النسيج أو النقل البري والبحري (والجوي بدءاً من العام 1903م)، أو لتوليد الطاقة، أو الاتصالات، وصولاً إلى الآلة صانعة أدوات الآلات الأخرى.

منذ ذلك العصر، صار كل اختراع يؤدي إلى مجموعة اختراعات، وكل واحد من هذه الاختراعات يحتاج إلى ابتكارات جديدة وأدوات تسمح بتنفيذه.. وما من شيء مشترك بين أول السلسلة وآخرها غير الترس الحاضر دائماً في كل آلة متحركة.

مبدأ عمل الترس كان هو نفسه وبقي كذلك، ولكن إنتاجه واجه تحديات جديدة. فمتطلبات الصناعة الجديدة من التروس أصبحت أكبر من أن تتمكن الأيدي الحرفية من تلبيتها. كما أن الدقة في المقاسات أصبحت مسألة بالغة الأهمية.

في العام 1775م اخترع البريطاني جون ويلكنسون أول آلة ثقب بالغة الدقة، (وهو ويلكنسون نفسه الذي نقرأ اسمه على شفرات الحلاقة اليوم)، الأمر الذي مكّن جيمس واط في العام نفسه من صناعة أول محرك بخاري فاعل عملياً بعد المحرك الأولي الذي كان نيوكومين قد اخترعه قبل ستين عاماً. بعد ذلك بقليل صمّم بريطاني آخر يُدعى هنري مودسلي أول مخرطة دقيقة للمحركات، وطوّر جهاز القياس الدقيق المعروف باسم الميكروميتر . وبلغ الهوس بالدقة ذروته عندما اخترع جوزف ويتورث آلة قياس دقيقة حتى جزء واحد من مليون من البوصة.

تضافرت هذه الابتكارات مع غيرها من الاحتياجات إلى دفع ريتشارد روبرتس إلى تطوير مخرطة المعادن بحيث أصبحت أقوى، ولاحقاً إلى اختراع أول آلة لقطع التروس. وكان إنتاج التروس بالجملة وبمواصفات ومقاييس دقيقة للغاية، هو ما جعل بناء الآلات بالكثرة المطلوبة أمراً ممكناً، وبالتالي من الثورة الصناعية ككل واقعاً ملموساً غيّر معالم الحياة على الأرض جملة وتفصيلاً، بدءاً من الشرائح الاجتماعية في المدن وصولاً إلى الفلسفة والأدب مروراً بالسياسة والاقتصاد والتجارة والرفاهية وحتى استعمار بعض الشعوب لبعضها الآخر.

وعلى مدى القرن العشرين بأكمله استمرت الصناعة في تقديم آلاف المنتجات التي سهّلت أمور الحياة وزادت من رفاهية الإنسان (وربما في بعض الأحيان من شقائه). ولم يقتصر دور الترس على الإنتاج، بل شكّل جزءاً أساساً من مئات التطبيقات الميكانيكية التي دخلت بيوتنا، بدءاً بكسّارة الجوز اليدوية البسيطة، مروراً بكل ساعة يد ميكانيكية وأي جهاز كهربائي يؤدي أصغر الحركات وأبسطها، وصولاً إلى وسائل النقل من الدراجة إلى الطائرة النفاثة من دون أن ننسى السيارة التي تدين بالفارق بين ما هي عليه اليوم وما كانت عليه عربات الخيل في الماضي من حيث سلاسة القيادة والسرعة والقدرة على صعود المنحدرات ليس فقط إلى المحرك العامل بالاحتراق، بل أيضاً إلى دور مجموعات من التروس أشهرها تلك التي تتولى نقل الحركة وتعرف باسم الفيتاس أو صندوق التروس .

شعار الصناعة
في صناعة الشعارات
كانت الثورة الصناعية قد امتدّت في أواخر القرن الثامن عشر من بريطانيا إلى أمريكا، وفي مطلع القرن التاسع عشر إلى فرنسا وهولندا وألمانيا وباقي الدول الأوروبية. وحمل المستعمرون الأوروبيون ما تيسّر لهم (أو ما شاءوا) من صناعتهم لزرعها في مستعمراتهم في الشرق الأقصى في الهند والصين واليابان، وسعت روسيا جاهدة أن تنضم إلى هذه المنظومة منذ مطلع القرن العشرين.

وفي العام 1918م، انتهت الحرب العالمية الأولى، وخرج العالم منها بقناعة مشتركة واحدة: القوة والغلبة هما لمن يملك الصناعة المتطورة. وترسّخت هذه القناعة في الحرب العالمية الثانية التي حُسمت بالشكل المعروف بفضل ما كانت الصناعة الأمريكية قادرة على توفيره من منتجات عسكرية وغيرها آنذاك. وهنا ظهرت وظيفة جديدة للترس: الدعاية السياسية. فلبساطة شكله وسهولة قراءته ووضوح ما يرمز إليه، تحول رسم الترس إلى شعار للصناعة. احتلّ بشكل واضح شعارات معظم وزارات الصناعة في دول العالم، وأيضاً شعارات غرف التجارة والصناعة.

والواقع، وإن تساوى العالم في الشرق والغرب على تلقف الترس الصناعي رمزاً وشعاراً، فإن الإقبال عليه في الدول النامية غير الصناعية كان أكبر مما هو عليه الحال في مهد الثورة الصناعية أو حيثما بلغت ذروتها. وكأنه تحوّل إلى عنوان لطموح المجتمعات وتطلعاتها أكثر بكثير مما هو تعبير عن واقع الحال. وأكثر من ذلك، تحوّل على أيدي حكام الدول الفقيرة إلى ما يشبه الوعد السياسي بمستقبل أفضل.

فبإضافة صورة قصر تيانانمين وأربع سنابل قمح وخمس نجوم إلى الترس الصناعي تشكّل شعار جمهورية الصين الشعبية، وبإضافة سكين عريض النصل رمزاً لحصاد المزروعات إلى الترس تشكّل الرمز الذي احتل علم أنغولا، ووضع رأس الثور داخل ترس صناعي شكّل علم حزب الشعب الماليزي.. وصولاً إلى علم أفغانستان الذي احتفظ بالترس الصناعي في الثمانينيات والتسعينيات رغم التعديلات التي طرأت عليه أكثر من مرة.

وفي مثل هذه الدول الطامحة إلى التصنيع أكثر من غيرها (من دون أن يعني ذلك استثناء هذا الغير) خرج الترس من شعارات المؤسسات الحكومية ليحتل مكانة لافتة على الأوراق النقدية والعملات المعدنية وطوابع البريد، والميداليات التذكارية، خاصة إذا كانت لمناسبة إنجاز مشروع صناعي على الصعيد الوطني.

وفي العقد الأخير من القرن العشرين، وبتفكك الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، تفكك النهج المحدد في الدعاية السياسية والإعلام الذي كان متبعاً في هذه المنظومة، والذي كان قائماً على المباشرة في الخطاب واستخدام الرمز الواضح توكيداً للوعد.. فتراجعت صورة الترس الصناعي من على الأوراق النقدية وحتى من شعارات بعض الدول والأحزاب، كأنغولا التي تخلت عن الترس كشعار على علمها في العام 2003م، وأحلت محله رسماً للشمس مستوحى من رسم أثري عثر عليه في أحد كهوف البلاد. ولكن ذلك لم يؤد إلى تراجع مكانة الترس في شعارات شركات القطاع الخاص ومصانعه والمؤسسات الاقتصادية في معظم دول العالم.

فتطور فن التصميم وتعددت مذاهبه وتنوع العاملون فيه المشبعون بثقافات مختلفة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أعطى لرسم الترس الزخم الذي خسره من جرّاء خسارته لدور الواعد في البلدان الفقيرة.

وهكذا استمرت هذه الأداة الصناعية البسيطة في فرض نفسها على الشعارات عند تصميمها، حتى أن عدد الشعارات التي تحملها في بلد واحد ذي وضع اقتصادي متوسط، أصبح أكبر من أن يُحصى. أما القطاعات التي تنتمي إليها هذه الشعارات فتتراوح ما بين المصانع على اختلاف منتجاتها، والمؤسسات الحكومية الراعية للصناعة، والمصارف، وصولاً إلى البرامج الاقتصادية على شاشات الفضائيات. فالترس هو الشعار الذي اكتسح كماً وتنوعاً واستعمالاً أي شعار آخر كسنبلة القمح رمز الزراعة والخير، أو الحمامة رمز السلام.

محركاً للفن
لم تقتصر صورة الترس الصناعي فنياً على الفنون الغرافيكية وتصميمات الشعارات، بل كان أثره أبلغ من ذلك على أعمال العديد من الفنانين، وربما على مسيرة الفن في القرن العشرين.

ففي تفسير للعوامل التي أدت إلى نشوء التجريد الهندسي في فن الرسم خلال العقد الثاني من القرن العشرين، تُجمع المصادر على أن الصناعة بكل ما فيها من آلات وأدوات صناعية ذات أشكال هندسية بسيطة مثل الدائرة أو المربع أو المستطيل، كانت من أهم المؤثرات التي ألهمت الفن التجريدي القائم على التعامل مع هذه الأشكال والأحجام والمساحات.

وأكثر من ذلك، هناك فنانون لم يكتفوا بالتعبير غير المباشر عن أثر الصناعة في عالمهم، بل تناولوها مباشرة في لوحات فنية حافلة بالتروس والعجلات والعتلات ومقروءة بسهولة رغم ملامستها في بعض النواحي التجريد الهندسي. ومن هؤلاء نذكر فرانسيس بيكابيا ودييغو ريفيرا وبشكل خاص فرنان ليجيه الذي يدين بحيز مهم من شهرته إلى لوحاته المستوحاة بوضوح من المصانع والأدوات الصناعية.

ولكن من جملة ما أخذه النقاد على لوحات فرنان ليجيه، هو ما جاء على لسان الناقد الأمريكي الدكتور فرانسيس أو. كونور لمناسبة المعرض الاستعادي الذي أقيم لهذا الفنان عام 1998م في نيويورك، ومفاده أن هذه اللوحات التي تمكنت من التقاط صرير الترس غير المشحّم وضجيج الحفّار الكهربائي وارتجاجاته، بقيت سطحية إلى حد بعيد، ومجرد تلاعب أشكال هندسية بألوان أولية، وكأن الترس والحفّار والآليات ككل هي الاهتمام الأول والأخير للرسام الذي عجز عن التقاط ما هو أبعد منها. ويقارن الناقد أعمال هذا الرسام الفرنسي بلوحة أخرى رسمها المكسيكي ريفيرا في أحد مصانع السيارات، وتمكن فيها من رسم العمال إلى جانب التروس في جو تتلمس العين حرارته المرهقة، وصخبه المشبع بالحركة الإنسانية التي لا مكان للهدوء فيها.

ولكن هذا لا ينفي كون ليجيه فنان الصناعة بامتياز. فإضافة إلى لوحاته العديدة في هذا المجال، أنجز الرجل فيلماً سينمائياً صامتاً عام 1924م، بعنوان الباليه الميكانيكي .

ونرى الترس الصناعي في هذا الفيلم بطلاً مكملاً لأداء الممثلة، التي نراها في المشهد الأول من الشريط جالسة على أرجوحة، أما المشهد الثاني فكان ترساً صناعياً ضخماً يدير ترساً آخر. ومن ثم عودة إلى الممثلة.. ثم إلى منفاخ صناعي وخفاقة بيض تدور والخ.. وينتهي الشريط لاحقاً بمجموعة مشاهد سريعة تظهر: رأس امرأة، ساقين مبتورين، ساعة، قبعة، وحذاء… وقد زجّ ليجيه باسم شارلي شابلن وصورة ظله في هذا الفيلم في مطلع الفيلم مع العنوان، وفي نهايته أيضاً.

وشارلي شابلن نفسه كان حسّاساً تجاه متغيرات الحياة نتيجة طغيان النشاط الصناعي في عصره، وخصّ الموضوع بفيلمه الشهير الأزمنة الحديثة (1936م). فرأيناه في الصورة الدعائية لهذا الفيلم جالساً فوق ترس ضخم، وكأن الترس أصبح رمزاً لا للصناعة فقط، بل للمعاصرة والحداثة ككل.

أما اليوم، فقد تراجع دور الترس في الأعمال الفنية، وعلى الأرجح؛ لأن الحياة الحديثة ألفت وجوده، فصار جزءاً من الواقع، بعدما كان رمزاً للتحول والتغيير. ولهذا فإننا لم نعد نراه على سبيل المثال، إلا في بعض أفلام العنف الرخيصة، حيث تدور المواجهات ما بين الأبطال والأشرار في أحد المصانع، حيث يسقط أحد الأشرار على ترس متحرك، ويقتصر دور الترس على سحقه.

التأمل بصمت أمام آلة صاخبة
بين تعقيدات الآلات والمصانع الكبيرة وبساطة شكل الترس تناقض..

وبين تنوّع آلاف المنتجات الصناعية وتبدلها يوماً بعد يوم، وبقاء الترس كما كان عليه في التاريخ القديم، تناقض آخر.

وهناك تناقض ثالث بين الضجيج الصادر عن المصانع والصناعيين والمستهلكين في العالم بأسره من جهة، وصمت الترس الذي يقف وراء كل هذا الضجيج. وتناقض رابع ما بين مهمة وأداء كل آلة على حدة التي يحتاج تحديدها إلى صفحات عديدة، ومهمة الترس التي حددت بكلمات قليلة منذ القدم، وتقول نقل الحركة من مكان إلى آخر بين أجزاء الآلة .

فهل الترس حقاً مجرد أداة صناعية أم غير ذلك؟
كل ما اكتشفه الإنسان أو اخترعه يعود في جذوره إلى وقفة أمام ما وضعه الخالق في الطبيعة والقوانين التي تسير بموجبها. وفي هذه الوقفة تثمر الملاحظة فكرة. والفكرة غالباً ما تكون بسيطة جداً. ولكن ما بين الفكرة البسيطة التي هي مجرد عمل ذهني والتطبيقات الملموسة والمطورّة هناك مراحل مختلفة. وما بين فكرة نقل الحركة من جهة، ومصانع بناء الطائرات من جهة أخرى، ظهر الترس في مرحلة متقدمة جداً، هي أقرب إلى مرحلة الوقوف أمام الطبيعة منها إلى عصر المكوك الفضائي. وبشيء من المبالغة لإيضاح الفكرة، يمكننا القول إنه ينتمي إلى الطبيعة وقوانينها أكثر مما ينتمي إلى الصناعات الحديثة.

ولهذا، وفي حين لا تحرك المصانع الكبرى ككل أي مشاعر في نفوسنا على الصعيد الجمالي والعاطفي، نرى أن بعض مصممي الساعات السويسريين أبدلوا صحن المينا الذي يحجب آلة الساعة برقاقة من البلور الشفاف، دعوة إلى الاستمتاع بالتروس الصغيرة تدير بعضها بوداعة أرقّ من وداعة الفراشات.

ولهذا أيضاً، ومع الاعتراف بأن الترس ليس كل شيء في الصناعة، والتأكيد على أن لا غنى عنه في أية صناعة، ورغم محدودية دوره في كل الصناعات، يبقى الترس مدعاة لوقفة تأمل.. لا تنتهي.

آلة أنتيكيثيرا.. الكومبيوتر الأول

اكتشف علماء الآثار هذه الآلة في حطام سفينة رومانية تعود إلى العصر الكلاسيكي غارقة قبالة شواطئ جزيرة أنتيكيثيرا في بحر إيجه، وهي مغطاة بطبقة من الترسبات المرجانية المتحجرة، فنقلت إلى المتحف الوطني في أثينا حيث لم يعرف أحد أولاً ما كانت الغاية منها، وتم الاكتفاء بتسميتها آلة أنتيكيثيرا .
بعد ذلك بعقود عديدة، وتحديداً في العام 1958م، بدأ مؤرخ العلوم البريطاني ديريك برايس بدراسة هذه الآلة، وتوصل إلى نتيجة مذهلة، ما كان يمكن لشخص أن يصدقها لولا صدقية هذا العالم الذي لا يُلقي كلامه جزافاً، وأيضاً لولا إعادة بناء نموذج آخر لها يدعم صحة الاستنتاج القائل إن آلة أنتيكيثيرا هي في الواقع كومبيوتر فلكي ، وهي أكثر الآلات تعقيداً التي صنعها الإنسان على مرّ العصور حتى القرن الثامن عشر.
كانت هذه الآلة في الأصل ضمن علبة خشبية تشبه علب الساعات القديمة التي كانت توضع على الطاولة، أما داخلها فكان يتألف أساساً من مجموعة تروس تتضمن ثلاثين ترساً من أحجام مختلفة، إذا تحرك واحد منها تحركت التروس كلها دفعة واحدة؛ ليشير كل منها إلى معلومات فلكية عديدة مثل المراحل القمرية ومواعيد الخسوف والكسوف، ومواقع الأبراج، وحركة الشمس وباقي الكواكب التي كانت معروفة من المجموعة الشمسية آنذاك، وذلك استناداً إلى معلومة واحدة ملقمة في موضع واحد من الآلة وتتعلق بكوكب واحد.
آنذاك.. أي في العام 80 ق.م. والتاريخ الدقيق لا يعود إلى تحليلات علماء الآثار لحطام هذه الآلة أو لحطام السفينة الغارقة، بل لما ثبتت عليه مؤشرات هذه الآلة عند غرقها والتي تشير إلى معلومات فلكية محددة، عرف برايس من خلال مقارنتها بالجداول الجاهزة أنها كانت صحيحة كلها دفعة واحدة في العام 80 ق.م. فقط.
فبعدما كانت المصادر اليونانية والرومانية قد أشارت إلى وجود آلتين في صقلية خلال القرن الثالث ق.م. لمعرفة مواقع الكواكب ومتابعة حركتها (من دون تأكيد على أن أرخميدس كان مخترعها)، وبعدما شكك الكثيرون في صحة مثل هذه الأخبار، جاء الاكتشاف في العصر الحديث مؤكداً صحة الأمر، ودليلاً لا مثيل له عما يمكن لمجموعة تروس صغيرة أن تقوم به.. ألا وهو تحركها كلها وفق برنامج محدد يشير إلى كل المتغيرات في نطاق معين فور تغيير المعطيات في مكان آخر. وهو المبدأ الأساس الذي يقوم عليه برنامج الكومبيوتر الحديث.

في اللغة
لا تفيدنا المعاجم العربية عن تاريخ تسمية العَجَلْ الصناعي بـ الترس . ولكن من المرجح أن ذلك يعود إلى تشابهه الشكلي مع أداة الدفاع العسكرية التي تحمل الاسم نفسه، خاصة عندما كان العجل الصناعي قرصاً كاملاً غير مفرّغ إلى عجلة وأشعة.

وبسبب قيام الثورة الصناعية في بريطانيا وأمريكا أولاً؛ لم تتطور فقط المفردات اللغوية الخاصة بعالم الترس بحد ذاته، مثل كلمة Pitch التي تعني المسافة بين سن وآخر من الترس، و Ratio التي تقيس أداء ترس مقارنة مع آخر، بل دخل الترس الذي يسمّى بالإنجليزية Gear في تعابير مجازية لا علاقة مباشرة لها بالصناعة، ومنها على سبيل المثال:

– 
In Gear: منضبط، شخص نظامي في عمله.
– 
Out of Gear: مختل، مشوش، متوقف عن العمل.
– 
Got out of gear: تقال للساعة التي تتوقف عن العمل.
– 
Gearing the economy to: توجيه الاقتصاد وضبطه لغاية معينة.
– Hunting gear: مستلزمات الصيد.

ومن باب الاستعارة، بات من الممكن تسمية مجلة وبرنامج تلفزيوني مختصين بشؤون السيارات توب غير أي الترس الأعلى .

أضف تعليق

التعليقات

عمر

معلومات جيدةواحسن ان ترفق بصور توضيحية

حسن سيد

ازاي أعرف نسبة البكلاش أو التأمل بين التروس وبعضها أرجوا الرد ولو في قوانين ياريت

حنين

ممكن مصادر عن صندوق التروس