ديوان اليوم

سيد العقلاء.. الهمّ..!

  • 81a
  • 78a

كل إنسان قابل لأن يعاقر الهم ويشكو منه.. الحياة، كلها، هموم.. وحين يكون «الهم» همَّ شاعر؛ فإن القضية تتحول إلى حس شعري جميل.. عماد بو خمسين ينتقي من التراث العربي شيئاً من شعر الهموم..

الهم.. ذلك الشعور المثقل بالعناء والتعب والوجع. واحدٌ من رفقاء الطامحين والطامعين والمتطلعين. إنه النتيجة النفسية التي تستقرّ كلما طالع المبدعُ رغباته مقابل إمكانياته. وهكذا لخص الشعراء العرب هذه المسألة؛ حين اكتشف كلٌ منهم أن خلواته الخاصة إنما هي منطقة تأمل لاستعادة الألم، وتذكر الأوجاع.. برفقة الهم..!

لعل أحد الجوانب المميزة لتراثـنا الشعري؛ هو امتزاج الحكمة بالألم، وهروب النفس المتعبة بالهموم إلى قراءة الحياة عبر نظرة وجدانية، ربما تتجاوز الحالة الذاتية إلى صناعة شيء من الحكمة. وكثيراً ما ذكر الشعراء همومهم وحاولوا تعليل أسبابها، وشكوا للنجوم طول السهد والسهر والتعب والوجع.. كان الهمّ الذاتي وراء هذه القائمة، وأحياناً لا يعرف الشاعر – أو لا يفصح عن – أسباب همه.. وهذا طرفة بن العبد يشكو ويعلن:

خـَـلـيــليَّ لا واللهِ مـا الـقـلـبُ سـالــمٌ
وإنْ ظـهَــرَتْ مـنـّـي شـمَـائـلُ صـاح
وإلا فـما بالـي ولم أشْهَـدِ الوَغَى
أبــيــتُ كـأنـي مُــثقَـلٌ بــجراح

ليس في هذين البيتين سبب واضح للهموم، فقد اكتفى ابن العبد بوصفِ حـاله معـها، فـلـم نعـلمْ هل هي بسبب هجر حبيبٍ أم فقد قريب، أو خسارة في تجارة..!

ومثله امرؤ القيس الذي ألـقى اللوم على الليل، وادّعى، على الرغم من براءته، أنه هو المسببُ لهذه الهموم:

ولـيـلٍ كَموجِ البـحــر أرخـى سُـدولَهُ
عَــليَّ بـأنـواعِ الهُمُـومِ ليَبْتَلي

وقد تبعه البحـتـري في هذا المعـنـى إذ يقول في الوصف:
لـو تـراهُ عـَــلِــمْــتَ أنّ الـلـيــالـي
جَـعَـلتْ فـيه مـأتـماً بعـدَ عـُـرْس

وكأن الشاعر إذا رأى أن هـمومـه لا تهـيـجُ عـليـه إلا إذا جَـنّ الليـل وسَـكـنـَـتْ الدنيا من حوله، توهّـمَ أن الليل هو المسؤول عنها والمسبب لها.

وقـد وجد الشعراء فنوناً في التفجع على أحوالهم.. وأسامة بن مـنـقـذ يرى عمره كله «زمن الهموم» باستثناء ساعة ولادته:

وإذا عَـدَدتُ سـِـنـِـيَّ ثـم نَقَصْتُها
زمنَ الهُمُومِ فتلكَ ساعةُ مَولـدي

سيد الهموم
المتـنـبـي من أكثر الشعراء ادعاءً للهمـوم والمعانـاة الداخليـة، وبالتأكيد كان من أكثرهم تأثيراً وإتقاناً لتوصيف الهم وتعديد أسبابه… وكثيراً ما صرّح:

كيـفَ الرجاءُ من الخـطـوبِ تَخَلـُّصاً
مـنْ بـعـدِ ما أنْشَبْنَ فِيَّ مَخَالِبَا
أوْحَدنَـنِـي، ووَجَـدْنَ حُزنَـاً واحِـداً
مُـتَـنَاهِـياً فـجَـعَـلْـنَهُ لـيَ صــاحِــبــا
ونَصَـبْنَـني غَـرَضَ الـرُّمـاةِ، تُـصـيـبُـنـي
مِـحَـــنٌ أحــدُّ مـنَ الســيــوفِ مَــضـاربــا
أظْــمَــتْـنِـيَ الـدنـيـا فـلمّا جــئــتُــهـا
مُـسْــتَسْقِــيَــاً مَــطَــرَتْ عَـلـيَّ مَـصـائـبـا

بالنسبة للمتنبي كانت الأسباب واضحة والتبريرات ممكنة، وانطلاقه من ذاته الشاعرة فيه الكثير من اللوم والشكوى والتعب:

رَمَاني الدهرُ بالأرزاءِ حتى
فُؤادي في غِشاءٍ منْ نِبَالِ
فَصِرْتُ إذا أصابتني سِهَامٌ
تَكسَّرَتِ النّصالُ على النصالِ
وهَانَ، فمَا أبَالي بالرزايا
لأنّي ما انْـتَفَعْتُ بأنْ أبَالي

ويقول:
لم يتركِ الدّهْرُ منْ قلبي ولا كبدي
شيئاً تُـتَيِّمُهُ عَيْنٌ ولا جِيْدُ

ثم مخاطباً الدنيا:
جَرَحْتِ مُجَرّحاً لم يَبْقَ فيهِ
مكانٌ للسيوفِ ولا السهامِ

ابن العبقرية
ولكن يا ترى هل المصائب والخطوب هي السبب الوحيد لهذه الهموم، أم إن هناك أسباباً أخرى؟

ابن المعتز لديه تعليل واضح:
وحَلاوَةُ الدنيا لِجَاهِلهَا
ومَرارةُ الدنيا لِمَنْ عَقَلا

والمتنبي، أيضاً، لديه التعليل نفسه:
ذو العَـقلِ يَشقى في النعيمِ بعقلهِ
وأخو الجهالةِ بالشقاوةِ يَنْعَمُ

ويؤكد:
يخلو منَ الهمِّ أخْلاهُمْ منَ الفِطَنِ
أفاضِلُ الناسِ أغْراضٌ لدى الزمنِ

إذاً فهناك سبب آخر، فصاحب العقل هو الذي يعيش في بحر من الهموم، ويتجرع مرارة الدنيا بسبب مشكلة التفكير والتأمل في الأمور، أما الخالي من الهم فهو الخالي من الفطنة، أو المحروم من العقل.

ولكن ما ذنب صاحب العقل ليكون ذا هم..؟ وأي ذنب اقترفه العقل ليقترن ذكره بذكر الشقاء والهموم؟ لعل الطموح هو السبب، والطموح مرتبط بالهمة العالية وعدم الرضا بالواقع، بل السعي إلى ما هو أفضل دائماً. ولذلك يتطرق المتنبي في قوله:

لَحَا اللهُ ذي الدنيا مُنَاخاً لِراكبٍ
فكلُّ بعيدِ الهَمِّ فيها مُعَذبُ

والدنيا سبب
يبدو أن الشعراء الذين ادّعوا أنهم من أصحاب العقول، قد سئموا من حالة الشقاء هذه ومن كثرة الهموم، فأخذوا في هجاء عشوائية الحظوظ التي تكرم من لا يستحق وتظلم المستحقين، كبعض ما ورد من أشعار عمر الخيام.

وهكذا نكون قد رأينا كيف انتقل وصف الهموم، على مر العصور، من شاعر إلى آخر، وكيف تناوله كل واحدٍ منهم بأسلوبه الخاص، حـسَـبَ سِـعَـة خياله أو قريحته الشعرية. فبعضهم ادعى أن الليل هو سبب الهموم، وآخر وضع اللوم على المحن والخطوب، وقال آخر إن العـاقـل هو من يشـقى بالهموم، بينما الجاهل أو الغافل هو السعيد. ورَبـطَ بعضهم الهموم بالهـمـة العاليـة والطموح البعـيـد، ثم وصل بهم الأمر إلى ذمّ الدنيا. والأمثـلة على وصف الهموم كثيرة ومتـنوعة لا يمكن حصرها في هذا المقال، ولا يكاد يخلو ديوان شعري منها.

ولعل القارئ يقف لحظة تأمل مع نفسه، ليسأل أين هو من هذا كله، وإلى أي فريقٍ ينتمي؟ مع العقلاء المَهْـمُـومين، أم الجُـهلاء المُنَعّمِين؟ أم أن هذا من مبالغات الشعراء فقط، وطريقتهم في تضخيم المعاني، حتى قال الناس: أعذب الشعر أكذبه… ختاماً، لا بأس بالتذكير بقول الشاعر:

نَعِيبُ زمَاننا والعَيبُ فينا
وما لزمَانِنا عَيبٌ سِوَانا
ونَهْجُوا ذا الزمانَ بغير ذنبٍ
ولـو نطقَ الزمانُ لنا هجانا

انكســـــــار
شعر / يحيى السماوي

ما كان لي أن ألتقيكِ بمستراحٍ من خريف العمرِ
لا نارٌ،
فتُذكي المَبْخـرهْ

تعبتْ صباحاتي
فألقيتُ العصا في الغابة الحجرية الأشجارِ
منتظراً بشارة هُدهدِ الرؤيا
وحين غفوتُ أيقظني صداكِ
ذُعـرتُ…
كان الماءُ من حجرٍ
ولا عشْبَ فيُنبىءُ عن طحينٍ في رحى وجعي
حزمتُ بقـَّيتي..
لكنّ بابَ البحرِ موصدةٌ
وأرصفة الموانىء مُقفـرهْ..!

ما كان لي أن أخبز الأحلامَ في ماعون صحوي..
أن أمدّ يديْ إلى العرّافِ،
كاذبةٌ خطوط يديْ
وأكذَبُ منهما ما كان يرسمه خيال المحبَره..!

***

ما كان للشيطان يغويني
فأدخل فيكِ مملكة الظنونِ..!
فدعي البقية من يقيني

خذل التشرّدُ خيمتي
وأتت رياحُ الغـُربتين على سفيني

أزف الإيابُ… فهاتِني حبل البصيرةِ..
أنقذيني من جنوني

ما كان للأقمار في عينيك تضحك ليْ
وللريحان بين يديك يغوي نحْـلَ ثغري
أطلقيني

من أسر أعنابٍ وتينِ
تاقت جمالي للرمال
ونخلتي تاقت لطيني

أضف تعليق

التعليقات