قول في مقال

الترجمة
عندما يكون غيابها أفضل

غالباً ما يتم تناول واقع الترجمة إلى العربية بالنقد، وغالباً ما يقتصر النقد على الحجم ومقارنة مستوى نشاط الترجمة عندنا بالأرقام مع ما هو عليه في بلدانٍ أخرى.
عبود عطية يتوقَّف هنا عند نوعية الترجمة وما يمكن أن تتكشف عنه، استناداً إلى مثل متطرف في تدهور نوعيته.
قبل أسابيع, عرضت إحدى الفضائيات العربية فلم «الفالس الأخير» للمخرج العالمي مارتن سكورسيزي. ويصوِّر هذا الفلم، بشكل شبه وثائقي، الاحتفال الأخير الذي أحيته فرقة الموسيقى الشعبية الأمريكية «ذي باند» في العام 1978م. ويكتسب أهميته من أنه جمع أكبر حشد من نجوم الغناء الشعبي في الغرب على مسرح واحد. وهو أمر لم يتكرر حتى يومنا هذا، وأيضاً من كونه خير معبِّر عما حصل من تحولات في الثقافة والفن والحياة الاجتماعية خلال الستينيات والسبعينيات في أمريكا والغرب عموماً.

لم تعلن فضائيتنا العربية عن المناسبة لإعادة عرض فلم ظهر قبل ثلاثين سنة. ولكننا علمنا أن محطات عديدة في أمريكا والعالم بأسره أعادت عرض هذا الفلم تحديداً للاحتفال بمرور ثلاثين سنة على ظهوره. كما أن المخرج نفسه أعاد إنتاج نسخة جديدة من الفلم ضمَّنها مشاهد لم تدخل في النسخة الأولى. أما فضائيتنا فقد اكتفت بتنفيذ توجيهات أو نصائح «القوميساريا الثقافية» بعرض هذا الفلم في هذا الوقت المناسب.. ولكن قضيتنا ليست هنا، بل في مكان آخر.

ترجمة لا تمت بصلة إلى الأصل
منذ اللحظات الأولى من متابعة هذا الفلم لاحظنا أن ترجمته إلى العربية كانت تتضمَّن أخطاءً كثيرة. وكثيراً ما ابتعدت عن المعنى الحقيقي، ومن ثم تمادت في رداءتها حتى لم تُبْقِ على أية علاقة مع الأصل!! وليس من باب إثبات ما نقول (وهو لا يصدق من دون إثبات)، بل أيضاً للغوص قليلاً في ذيول ما يترتب على الترجمة الرديئة، سنضرب مثلاً واحداً نختاره عشوائياً، وليس لأنه الأسوأ في الفلم.

يؤدي المغني وعازف الطبول ليفون هالم أغنية في هذا الفلم تدعى «ليلة أسقطوا ديكسي القديمة» وهي من أشهر أغاني الفرقة وأكثرها إثارة للجدل، لأنها تتحدث عن حال الجنوبيين المهزومين في الأيام الأخيرة من الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر.

يقول المقطع الأول من الأغنية وفق الترجمة الصحيحة:
«اسمي فيرجيل كاين، وخدمت على قطار دانفيل،
إلى أن حضر خيَّالة (الجنرال) ستونمان ودمَّروا السكة ثانيةً،
في شتاء 65(18)، كنا جائعين، وبالكاد على قيد الحياة
وبحلول العاشر من مايو كانت ريتشموند قد سقطت
إنه وقت أذكره جيداً أيضاً
ليلة أسقطوا ديكسي القديمة…»

أما الترجمة التي قرأناها على الشاشة فتقول حرفياً ما يأتي:
«اسمي فيرجيل كينغ وخدمت في قطار
حتى هبّت عاصفة هوجاء وطلبوا منا تصليح السكك
في شتاء سنة 1965 كنا نصطاد لنعيش
وفي وقتي كان الأثرياء قد سقطوا
إنه وقت أتذكره جيداً جداً
ليلة قتلوا ديكسي العجوز..

وبشكل عام، خلت «الترجمة» من أية إشارة تربط هذه الأغنية بالحرب الأهلية الأمريكية، طالما أن العام 65 (من القرن التاسع عشر) أصبح 1965، وطالما أن المترجم فهم من اسم المدينة ريتشموند «الأثرياء»، كما أن الجنرال ستونمان أصبح «عاصفة هوجاء».. وعلى هذا المنوال يتابع المترجم استهتاره بعمله وبنا، فيصبح الجنرال «روبرت إي. لي» قائد الجيش الكونفدرالي على يد المترجم «روبرتي لي الأسود»!؟! كما أن «ديكسي» وهو الاسم الذي أطلق خلال الحرب الأهلية على الولايات الجنوبية (ولا يزال مستعملاً حتى اليوم) ويعود في أصله إلى رقم 10 بالفرنسية (Dix) الذي طُبع على ورقة نقدية من فئة 10 دولارات في نيو أورليانز إبان الحرب، توهم المترجم الذي يتمتع بثقافة عامة تساوي صفراً مكعباً، أنه اسم رجل.

ثقافة تفريغ الثقافة
الفضائية العربية التي اتسم أداؤها (من خلال هذا الفلم على الأقل) بهذا الاستهتار المريع، وبهذه الخفة التي ما بعدها خفة، هي مجرد كبش محرقة لأنها ليست الوحيدة، ولا أسوأ من غيرها. ولكنها غير مظلومة لأنها ارتكبت فعلاً هذه الجناية الثقافية المحددة.

فخلال بحثنا على الإنترنت عن الكلمات الدقيقة لهذه الأغنيات (وهو أمر كان يمكن أن يلجأ إليه المترجم الذي يعاني من مشكلة في السمع إضافة إلى مشكلته مع الثقافة العامة)، اكتشفنا ما يدل بوضوح على الفرق الشاسع ما بين الثقافة من جهة وتفريغ الثقافة من جهة أخرى.

اكتشفنا مثلاً أن الجدال الذي ثار في صفوف الأمريكيين عند ظهور هذه الأغنية حول تعاطف الأغنية مع الجنوبيين الكونفدراليين، وبقاء هذا الحنين حتى يومنا هذا.

واكتشفنا أن مؤرخين ناقشوا اتهام خيالة الجنرال ستونمان بتخريب سكة الحديد في الأيام الأخيرة من الحرب الأهلية الأمريكية، لأن الجنرال المذكور كان في الأشهر الأخيرة من الحرب قد انكفأ عن أي عمل عسكري مهم.

وناقش آخرون ربط سقوط مدينة ريتشموند بالعاشر من مايو، لأن المدينة كانت قد سقطت فعلاً قبل ذلك بأسابيع.. وغير ذلك الكثير الكثير من النقد والجدال والتقدير الذي انطلق قبل أكثر من ثلاثين سنة ولا يزال مستمراً حتى اليوم.

أما عندنا، فإن الاعتماد على الترجمة كما قدمتها الفضائية العربية التي تقدِّم حتى بعض برامجها المحلية بالانجليزية، يبقينا كما يقول المثل: «مثل الأطرش في الزفة». لا معلومة تبقى في الأذهان، ولا فكرة حول موضوع القصيدة، وطبعاً لا ردة فعل عاطفية طالما أن الكلام الذي قرأناه على الشاشة أشبه بالهذيان الذي لا معنى له على الإطلاق.

إنها حالة متطرفة جداً من حالات الترجمة المنحطة التي تحوِّل المعلومة أو الفكرة إلى مجرد كلام لا معنى له.

طبعاً هناك جهود مشكورة في الترجمة. ولكن إلقاء نظرة عامة عليها، يظهر أنها تبقى محصورة ضمن دوائر ضيقة وصغيرة جداً، وغالباً ما تكون أكاديمية الهوية والإنتاج.

أما على صعيد الثقافة العامة ووسائل نشرها في المجتمع، فإن حالة الفضائية العربية هذه ليست استثناءً رغم فجاجة فضيحتها. فالكتب والروايات والأفلام السينمائية تتعرض كلها على أيدي عشرات ومئات المترجمين إلى العبث. ولا مجال هنا لإعطاء أمثلة محددة في هاتين الصفحتين، لأن كوارث الترجمة في أي من روايات دان براون التي عرفت رواجاً شعبياً كبيراً على سبيل المثال تملأ مجلداً كاملاً، منها ما هو مقزز، ومنها ما هو مضحك في أعمال يخرِّب الضحك المزاج العام الذي يفترض بهذه الأعمال أن تشيعه.

بعبارة أخرى، لقد تجاوز تدهور نوعية الترجمة الخطوط الحمر. وعلى هؤلاء المستهترين بعمل يفترض القيام به إحساساً بالمسؤولية إضافة إلى الدراية المهنية والثقافة العامة، أن يعلموا أنهم باتوا يدمرون مورد رزقهم.. لأن الأداء، في الترجمة كما في أي مجال آخر، إذا انحدر إلى مثل هذا المستوى من الرداءة، يجعل غيابه أفضل من وجوده.

فهل سيأتي يوم يصبح فيه غياب الترجمة أفضل من وجودها؟

أضف تعليق

التعليقات