هل كان في الأمر صدفة أن يُعقد مؤتمران لبحث قضية الترجمة في كل من الرياض وبيروت في وقت واحد؟ أم أن هناك حراكاً وضع هذه القضية على نار حامية منذ أن صدر تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية عام 2003م حول حال الترجمة في البلدان العربية، والذي كشف أن مجموع ما ترجمه العرب منذ أيام المأمون وحتى نهاية القرن العشرين هو أقل مما تترجمه إسبانيا سنوياً؟
المؤتمر الأول الذي عُقد في الرياض من 28 إلى 30 ديسمبر، وهو الثالث من نوعه الذي تنظِّمه «الجمعية العلمية السعودية للغات والترجمة»، حدد موضوعه بـ «الترجمة والتعريب في المملكة العربية السعودية»، أما الثاني الذي عُقد يومي 29 و30 ديسمبر تحت عنوان «بيروت عاصمة الكتاب المترجم»، فقد دعا إليه «اتحاد المترجمين العرب» الذي تأسس عام 2007م عن «المنظمة العربية للترجمة»، وتناول القضية على المستوى العربي العام بكل أبعادها.
وانطلاقاً مما يكشف عنه هذان المؤتمران، وليس من باب عرض ما جاء في أوراق العمل الكثيرة فيهما، يتناول
أحمد عثمان واقع الترجمة في البلاد العربية والتحديات التي تواجهها والرؤى المختلفة لما يمكن بها أن يرتقي بها إلى مستوى المعقول والمقبول.
لماذا نترجم؟
جواب هذا السؤال يكمن في المحاضرة التي ألقاها د. محمّد مراياتي بصفته كبير المستشارين في العلم والتقنية للتنمية المستدامة (الأمم المتحدة – UNDESA)، إذ يقول إن %10 من العرب يستطيعون القراءة والكتابة بغير العربية.
هذا الرقم بحد ذاته يعني أن %90 من العرب لا غنى لهم عن الترجمة للاطلاع على الآداب والعلوم غير العربية. لكن المسألة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، إذ يضيف د. مراياتي أن 90 إلى %93 من الآداب والعلوم في العالم حالياً هي باللغة الإنجليزية. وتتقاسم الـ%10 المتبقية العربية مع لغات كبرى كالفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية (فضلًا عن 6000 لغة حية أخرى)، جميعها أنشط من العربية في الإنتاج المعرفي. ونصيبها من الـ%10 المتبقية أكبر من نصيب العربية. ولو افترضنا جدلاً أن للعربية %2 من مجموع العلوم والآداب في العالم حالياً (وهو تقدير سخي أصلًا)، فالأمر يعني أن السواد الأعظم من العرب محرومون من %98 من العلوم والآداب الموجودة حالياً إن هي لم تجد من يترجمها لهم.
عند الاطلاع على حصة الإنجليزية المهولة من مجموع العلوم والآداب العالمية، قد يتبادر إلى خاطر القارئ أن اللحاق بركب الإنجليزية أمرٌ مستحيل، وأنه ربما علينا أن ندرك أن قانون الانتقاء الطبيعي ينطبق أيضاً على اللغات: اللغات العاجزة عن إثبات نفسها تموت، واللغات الأرشق تبقى. العربية فعلاً في خطر، وهذا الأمر يلفت النظر إليه مدير عام المنظمة العربية للترجمة د. الطاهر لبيب في كلمة المنظمة، حيث يقول لا شيء يمنع العربية من أن تلقى نفس مصير اللاتينية، بحيث تصبح لغة لا يعرفها إلا نخبة رجال الدين. بالفعل، ما يشفع للعربية حتى الآن هو حفظ القرآن الكريم لها، وإصرار معظم جهات الإنتاج المعرفي والإعلامي في الوطن العربي على اعتماد الفصحى حتى الآن.
وحول ضخامة حصة الإنجليزية من المعارف الإنسانية في الوقت الحاضر، يقول الدكتور عبدالقادر فنتوخ: «لقد باتت اللغة الإنجليزية لغة مشتركة للبحوث العلمية في مختلف المجالات. فكثير من الجامعات الألمانية واليابانية، على سبيل المثال، تقدِّم دراساتها العليا حالياً باللغة الإنجليزية، ولم يعد ينظر إلى هذه اللغة كلغة ذات أهداف استعمارية، بل يُنظر إليها كوسيلة أفرزها التاريخ لعولمة التطور المعرفي عموماً، والبحث العلمي والتقني بصورة خاصة. وبالطبع، لا يجوز لهذا التحدي أن يقوض جهود الترجمة والتعريب». طبعاً، لا يجوز ذلك، لأن %98 من العرب سيبقون محرومين من الاطلاع على هذه الأبحاث العلمية، والآداب أيضاً إن لم تترجم إلى لغتهم.
فما تقدَّم لا يعني أن الحل هو في التسليم بـ «الانتقاء الطبيعي» و«انهيار العربية» تحت الضغوطات الخارجية بحيث يبدو وكأن نشر التعليم بالإنجليزية هو الحل. فلو عدنا إلى أرقام الأمم المتحدة، لوجدنا أن كل لغات العالم هي حالياً في محنة «العشرة في المئة» ذاتها، غير أنها لا تجعل من هذه المحنة ذريعة لوقف جهود الترجمة عندها والاستسلام للإنجليزية. إذ إن الترجمة، ومهما بلغت تكلفتها من جهود تبقى أقل تكلفة من التضحية بلغة قومية، إلى درجة أن معظم شعوب العالم (بمعنى كلها) ترفض وضع مكانة لغتها موضع أية مساومة مهما كانت النتائج المتوخاة من هذه المساواة.
مَنْ يترجم لمن؟
أما بخصوص لماذا علينا أن نترجم بأنفسنا، عوضاً عن ترك باقي الدول تترجم أعمالها إلى العربية (وهو أمر يحصل بالفعل حالياً)، فسؤالٌ يجيب عنه د. مراياتي في المعرض نفسه، عندما يقول إننا إذا نظرنا إلى سياسات الدول في دعم الترجمة من لغتها، نجد العناصر التالية: «تصدير غير تنافسي، لسلعٍ استهلاكية وليس إنتاجية، ولثقافة وقِيَم الدولة وليس المعرفة التنافسية».
فما الذي يعنيه ذلك؟
الشطر الأول يعني أن الدول الأجنبية مستعدة بالفعل لدعم الترجمات من لغتها إلى العربية، إلا أنها لا تهدف من هذا العمل أن تدخل السوق بشكل تنافسي، إنما لرفع العتب إن صح التعبير. من هنا، يصعب التوقع أن يكون عدد الطبعات لكل ترجمة كبيراً. والأهم، لا يمكن الاعتماد على أن نوعية الترجمة ستكون جيدة.
الشطر الثاني يخص «السلع» المترجمة، أي الكتب نفسها: ليس من مصلحة دور النشر الأجنبية أن تترجم كتباً لن تُباع، ومن هنا فهي ستحصر إنتاجها بالكتب الاستهلاكية (كتب اليوغا والجمال والأكثر مبيعاً مثلًا)، لا الإنتاجية (الكتب العلمية والفلسفية والتاريخية مثلًا)، وللأسف النوع الثاني من الكتب هو ما يحتاجه العرب حالياً.
أخيراً، الشطر الثالث يشرح نفسه بنفسه؛ ولئن كان الاطلاع على الثقافات والقيم المغايرة من مصلحة القارئ العربي، إلا أن نظاماً قرائياً تغيب عنه المعرفة التنافسية هو نظامٌ غير فعَّال على صعيد التنمية.
تاريخنا في الترجمة
وتاريخ مأزقها الحالي
في كل الأحوال، لا يخفى على أحد أن العرب لهم باعٌ طويلٌ في الترجمة. فقد عرف العرب الترجمة منذ العصر الأموي وطوروها، حسبما يقول رئيس اتحاد المترجمين العرب د. شحادة الخوري في كلمة المنظمة العربية للترجمة، بحيث بلغت أوجها خلال العصر العباسي. ويشهد التاريخ الأوروبي للعربية أنها أدت دور حافظ وناقل المعرفة الكلاسيكية خلال عصور الظلمة الأوروبية: ذلك أن العرب انكبّوا في تلك الفترة على ترجمة النصوص الكلاسيكية (أي الإغريقية والرومانية) في جميع المجالات من فلسفة وأدب وعلوم. وتلازم بدء عصر النهضة الأوروبية مع إقبال الأوروبيين على دراسة النصوص الكلاسيكية، ولما كانت بعض المخطوطات الأصلية قد ضاعت أو تَلُفَت بطبيعة الحال، كانت الترجمات العربية لتلك المخطوطات المرجع الوحيد لها.
تلى عصر الظلمة العربية نظيره الأوروبي، فهمدت حركة الترجمة أسوةً بغيرها من مظاهر الثقافة في العالم العربي. ثم عادت فظهرت في بلاد الشام ومصر في القرن التاسع عشر. وهي المرحلة التي ناقشها الدكتور عبد اللّطيف عبيد، نائب رئيس اتحاد المترجمين العرب، والدكتور قصي الحسين. وكانت العربية التي طالعت هؤلاء المترجمين في حال حرجة، حيث إن الصيغة الموحدة منها كانت في حال تحجر وصدأ نتيجة القرون الطويلة من قلَّة الاستعمال. ونظراً لهذه الحال، اضطر المترجمون الأوائل إلى تحديث العربية، لا حباً بها بقدر حاجتهم لتيسير عملهم وتوحيد لغة الترجمة المستقبلية. وكان في هذا العمل مساهمة جبَّارة في بعث العربية، كما نتجت عنه أكثر مناهج الترجمة الحديثة، كمنهج يعقوب صرّوف، وأحمد فارس الشدياق، وجرجي زيدان، وناصيف اليازجي، وغيرهم، ممن غطّوا مجالات الصرف والنّحو والبيان والاستطراد والمجاز وغيرها من مجالات اللغة العربية.
من جهة أخرى، وضع الدكتور عبيد حركة الترجمة اللبنانية ضمن إطارها الموسّع، ذاكراً أن مصر كانت في حال نشاط اقتصادي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت بالتالي بحاجة لأناس مزدوجي اللغة في مجالات التجارة والإدارة، ما جذب «الشوام» إليها. وأن المشهد في تونس كان مشابهاً، ذلك أن البايات «كانوا متأثرين بما رأوا في باريس، وبالنهضة في مصر»، ما أسس لنهضة إصلاحية احتاجت، هي الأخرى، إلى مزدوجي لغة. من هؤلاء، يسمِّي د. عبيد أحمد فارس الشدياق الذي قطن تونس بين عامي 1857 و1860م، وبول فانسنت فارليني (كان إيطالي الأصل)، الذي أسس مجلة «عطارد» وجريدة «الرائد»، ناقلاً عن مجلة «الجوائب» للشدياق ما كان هذا الأخير قد ترجمه لفولتير. قال فارليني عن نفسه إنه «ديموكرات»، مستخدماً الكاف لا القاف، إذ لم يكن آنذاك قد ترسّخ التقليد المتّبع حالياً في الترجمة، والقاضي بتفخيم أحرف اللفظات أوروبية الأصل علَّها تبدو عربية الأصل. الأهم من هذا، نقل فارليني في مطبوعتيه أصداء الحركتين العمالية والنسائية، وكان في ذلك مثالًا على المترجم كناقلٍ للفكر، إضافةً إلى اللغة.
وضع الترجمة الآن
يذكِّر رئيس اتحاد المترجمين العرب د. شحادة الخوري أن المادة 9 في ميثاق تأسيس الجامعة العربية عام 1945م، نصّت على تشجيع حركة الترجمة. ويبدو أن هذه المادة بقيت حبراً على ورق. فإذا قفزنا في الزمن نحو بداية السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، نجد أن معدل ما كانت تترجمه الدول العربية مجتمعة بلغ 175 كتاباً في السنة آنذاك. بعد ذلك بثلاثين عاماً، أي ببداية القرن الواحد والعشرين، كان المعدل نفسه قد صار 330 كتاباً. هذه الأرقام، وغيرها، كان المؤلّف شوقي جلال قد سبق ونشرها عام 1999م، إلا أنها اشتهرت عندما نُشرت ضمن تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية في البلدان العربية عام 2003م.
تعني هذه الأرقام أن ما تترجمه الدول العربية مجتمعةً هو خُمسُ ما تترجمه اليونان. علماً بأن اليونان هي من أفقر دول الاتحاد الأوروبي وأقلها نشاطاً في مجال الإنتاج الثقافي. وإن قسمنا عدد الكتب المترجمة على عدد السكّان، نجد أن هناك 4.4 كتاب يُترجَم كل سنوات خمس لكل مليون عربي، أي أقل من كتاب واحد سنوياً لكل مليون عربي. في حقل المقارنة، وفي الفترة الزمنية نفسها (من عام 1981 حتى 1985م)، كانت هنغاريا مثلاً تترجم 519 كتاباً لكل مليون شخص فيها، وكانت إسبانيا تترجم 920 كتاباً لكل مليون شخص فيها. محلياً، واستناداً إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، كما جاء في بحث نشرته جريدة الشرق الأوسط، فإن حجم النتاج المترجم في السعودية خلال 42 سنة منذ عام 1966 وحتى 2007م وصل إلى 2200 كتاب، أي بمعدل 52 كتاباً سنوياً.
بدء التحرك؟
أما اليوم، فيؤكِّد د. الطاهر لبيب في محاضرته المعنْونة «مفارقات الترجمة العربية»، أن الرقم على المستوى العربي قد أصبح 2000 كتاب سنوياً. فالمؤكد أن تقرير الأمم المتحدة وضع الترجمة العربية في دائرة الضوء، حيث شهدت منذ عام 2003م عدداً من المبادرات، من أهمها إطلاق مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض جائزة عالمية للترجمة باسم «جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة»، من أجل تبادل المعارف وتقوية التفاعل بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، ودعم حوار الحضارات والثقافات. وهي تتكون من خمس جوائز سنوية تقديرية للأعمال المتميزة والجهود البارزة في مجالات: العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وفي العلوم الإنسانية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وفي العلوم الطبيعية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وفي العلوم الطبيعية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وجائزة الترجمة لجهود المؤسسات والهيئات.
ومن المبادرات أيضاً اتفاقية مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية (KACST) مع المنظمة العربية للتربية والثقافة (الإسكوا) لإصدار 40 كتاباً مترجماً في عامي 2010 و2011م. وهناك أيضاً برنامج «ترجم» الخاص بمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ومبادرة «كلمة» الخاصة بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث.
وعلى صعيد إعداد الكفاءات المتخصصة اللازمة للنهوض بحركة الترجمة لا بد من الإشارة إلى زيادة اتساع دوائر تدريسها جامعياً. ففي المملكة ارتفع عدد كليات الترجمة إلى ست كليات في الجامعات المرموقة مثل جامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبدالعزيز، وجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية، وجامعة الملك خالد، وجامعة نايف العربية، وجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن. ولو أخذنا جامعة الملك سعود على سبيل المثال لوجدنا أن كليتها التي تأسست أولاً في العام 1397هـ تحت اسم «مركز اللغات الأوروبية والترجمة» الذي تحول لاحقاً إلى «معهد اللغات والترجمة»، قبل أن يتحول المعهد إلى كلية متكاملة، تدر 11 لغة أجنبية، وتعد اختصاصيين في الترجمة من هذه اللغات إلى العربية، ومن العربية إليها.
ومن المبادرات العربية الأخرى، نذكر قيام جامعة دمشق بتأسيس المعهد العالي للترجمة والترجمة الفورية فيها عام 2006م، الذي يبدو أنه يبلي بلاءً حسناً، وهو في الواقع يستعد لتخريج دفعته الثالثة الآن، كما أن تخصّصاته تعمل على ثلاثة مستويات، هي الترجمة، والترجمة الفوريّة، والترجمة السمع-بصرية. وتقول الدكتورة لبانة مشوح إن تأسيس المعهد جاء تجاوباً مع حاجة السوق السورية المتزايدة لمترجمين، لا سيما وأنها تعيش نهضة وانفتاحاً على العالم الخارجي، وأن طاقم الترجمة، لا سيما الترجمة الفورية، فيها صغير ولا يمكنه أن يبقى كما هو. ويركز المعهد على أن يكون طلابه من مختلف المجالات، على اعتبار أن التمكّن من المجال هو أحد عوامل الجودة في الترجمة.
إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى دور مركز الأهرام للترجمة والنشر، وهو من أقدم مراكز الترجمة الحديثة في مصر، إذ تأسس عام 1975م باسم «مركز الأهرام للترجمة العلمية»، ثم أعيدت تسميته باسمه الحالي عام 1985م. وقد أصدر 360 كتاباً حتى الآن، ويعمل على كل من صعيدي الكتب الفردية وسلاسل الكتب، كما تعتمده الأمم المتّحدة والبنك الدولي لترجمة تقاريرها ووثائقها. وهناك أيضاً المركز القومي للترجمة الذي تأسس عام 2006م، وهو استكمال للمشروع القومي للترجمة الذي أطلقه المجلس الأعلى للثقافة في مصر. ويقوم بترجمة الأعمال من شتى الميادين الأدبية، من الإبداع القصصي إلى روائع الدراما وسلسلة الشعر وعالم الطفل. وهناك أيضاً مكتبة الإسكندرية التي لديها برنامج متكامل لترجمة التراث الإنساني ككل، ورغم عمرها الصغير (افتتحت عام 2002م)، إلا أنها من أكبر المكتبات الفرنكوفونيّة في العالم، كما تندرج ضمنها مكتبة سمعية-بصرية، وأخرى للمكفوفين، وأخرى للمايكروفلم، وأخرى للكتب النادرة.
تجدر الإشارة إلى أنه من أول إنجازات جامعة الدول العربية كان تأمين الإطار التشريعي الداعم للتعريب في الوطن العربي، حيث تنصّ المادة 9 في بند تأسيسها على تشجيع حركة الترجمة. فضلًا عن ذلك، تنضوي ضمنها المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو) التي تعنى بشؤون الترجمة والتراث العربي ضمن هيكلية عمل مشابهة لنظيرتها العالمية، اليونيسكو.
طفرة عددية.. على حساب النوعية
من جهة أخرى، لا يمكننا الاطمئنان تماماً إلى وضع الترجمة رغم الأرقام والمؤشرات المذكورة أعلاه. إذ إن د. لبيب يذكر أن الطفرة العددية جاءت فعلًا على حساب النوعيّة، فيقول: هناك أولاً الكثير من الهواة الذين وجدوا أنفسهم يترجمون بحكم حاجة السوق، كما أن هناك مترجمين أكفاء من فترة ما قبل الـ2003م، ولهم في السوق كتب مشهود لها بالجودة، قد فقدوا الأمانة العلمية بفضل الطّفرة الحالية. ونتيجة لضغط الوقت، وما يسمَّى «التعاقد على الترجمة من الباطن»، ونلخِّصه بالوضع التالي: تسلِّم دار النشر أستاذاً كبيراً في الترجمة كتاباً ليترجمه، فيسلِّمه بدوره إلى أحد تلامذته ليترجمه عنه مقابل مبلغ زهيد من المال، ثمّ يوقِّع الأستاذ الكتاب باسمه في نهاية المطاف على أنه من ترجمته هو.
وما غياب الاحترافية إلا إحدى المشكلات الموجودة ضمن مجتمع الترجمة والمترجمين، إذ يذكر الباحث والمترجم في المنظمة العربية للترجمة د. جورج كتورة في محاضرته المعنونة «ترجمة الفلسفة – التجربة والممارسة» أن مؤسسات الترجمة غير شفافة فيما بينها، وأن هذا يفوّت عليها فرصاً كثيرة للتنسيق وتبادل الخبرات، كما أن هناك مشكلة غياب التوحيد في المصطلحات (وإذا ما وضعنا الترجمة المشرقية ونظيرتها المغربية الواحدة مقابل الأخرى، تتضح حدة المشكلة أكثر وأكثر).
ولكن أن يكون غياب الاحترافية هذا أحد عناصر القضية، فهذا لا يعني أبداً غياب المحترفين. ففي مؤتمر الرياض، كشف رئيس قسم الترجمة في أرامكو السعودية عبدالمحسن الدرويش، أن الشركة تترجم ما متوسطه 10 ملايين كلمة من النصوص المتخصصة كل سنة (أي ما يعادل محتوى نحو مئة مجلد من الحجم الكبير). ومثل هذا الأداء «الداخلي» والخاص بمؤسسة واحدة يؤكد وجود كفاءات عربية يمكنها أن تعطي أكثر بكثير مما تعطي حالياً، فيما لو توافرت لها البيئة الصالحة والتدريب والرعاية. فخارج مجتمع الترجمة والمترجمين، هناك مشكلة التمويل والرعاية، اللذان لا يزالان ضعيفَيْن، والمبادرات الأخيرة حميدة لكنّها غير كافية، كما أنها مبادرات فردية، بمعنى أن الحكومات العربية إجمالاً لا تزال غائبة عن السّمع. ورقم 2000 (كتاب سنوياً) الحالي هو رقم جميل، إلا أننا لا ننسى أنه يخص الدول العربية مجتمعة، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن ننام قريري الأعين على سرير الألفي كتاب.
خذوها من أهل الحِرَف
الحلول متنوعة بتنوع المشكلات، وهي متوافرة على أصعدة جميع الأطراف المعنيين، وهم المترجمون، والحكومات، والأفراد.
على صعيد المترجمين، يشير د. مراياتي إلى أن مشكلة تباين المصطلحات تعود لكونها تُبتدع ابتداعاً، إذ قطعاً، لن تُكتب الاستمرارية وشيوع التداول لمصطلح استنبطه المترجم وحاول إنزاله إلى أهل الحِرفة -أي من أعلى إلى أسفل-. وعلى النقيض، يجب على المترجمين سؤال أهل الحِرَف عن كيف يسمون هذه الأداة أو تلك، والأجوبة لدى أهل الحرف هي التي ستُكتب لها الاستمرارية لأنها بكل بساطة في حال تداول أصلًا، وهي طبيعية وأليفة لدى مستخدميها. هذا بالنسبة لمشكلة المصطلحات، أما مشكلتا التعاقد الضمني وغياب الشفافية بين مؤسسات الترجمة، فحلولها أسهل وأصعب في الوقت نفسه، لأن الأولى تعتمد على أخلاقيات المترجم في المقام الأول، والثانية على أخلاقيات مؤسسة الترجمة.
على صعيد الحكومات، يتمثل التقصير على صعيدين: الصعيد التشريعي الذي يطال كافة جوانب الترجمة بدءاً بفرضها لغة التدريس في مجالات أوسع مما هي عليه الآن، حتى ولو لم يصل الأمر إلى اعتمادها لغة التدريس في كل المجالات كما هو الحال في سوريا، حيث أدى تعريب التدريس الجامعي بأسره إلى وضعها في المرتبة الأولى بين الدول العربية على صعيد الترجمة. كما يجب على هذه التشريعات أن تعزِّز من أداء المترجمين من خلال ضبط ممارستهم لمهنتهم بقوانين تحفظ لهم حقوقهم وتحدد لهم واجباتهم، وتوفِّر لهم فرص التدريب اللازم والتأهيل المستمر. أما على الصعيد الثاني فهو متعلِّق بالتمويل. إذ يجب أن تحظى الترجمة كقطاع مستقل ضمن مجالات البحث والتطوير بموازنة أكبر مما ترصده البلدان العربية مجتمعة من النسبة المئوية المتدنية من موازناتها السنوية لكل عالم البحث العلمي والتطوير.
وأخيراً، فمهما كان التنسيق الإداري لمؤسسات الترجمة جيداً، ومهما كانت الأنظمة الحكومية فعَّالة، لن يصبح وضع الترجمة العربية عند المستويات اللائقة، ولن تُكتب لها الاستمرارية، ما لم يكن هناك طلبٌ عليها في السوق، وهنا يأتي دور الأفراد. نذكر هنا أن معدَّل الكتب التي يقرأها الأمريكي في السنة هو 11 كتاباً، وأن المعدل للأوروبي هو 7 كتب، فيما المعدل للعربي هو ربع صفحة (لا ربع كتاب)، وهو رقم لا يبرِّره فقر بعض الدول العربية. فمازال شراء الكتب غريباً عن عادات العائلة العربية.
والقراءة في العالم العربي لا تزال محصورة بالنخب، وحتى ضمن هذه النخب فهي ليست الخبز اليومي. إن دور الأفراد يكمن في جعل القراءة كذلك، عبر تعويد أنفسهم -حتى على كِبَرْ- على القراءة، وعلى زرع هذه العادة عند أولادهم، عبر القراءة لهم قبل النوم، وعبر إهدائهم الكتب بين الحين والآخر، والأهم من هذا كله، أن يكونوا لهم القدوة القارئة.
وختاماً، لا عائق حقيقي بين العرب وتنشيط الترجمة. فهناك شعوب كثيرة استطاعت القيام بقفزةٍ نوعية، وحقيقية، نحو حركة ترجمة صحيحة، وموجة الترجمة الحالية قد تكون الخطوة الأولى نحو ذلك.