ما الذي يفعله هؤلاء المتدافعون في البورصة، ولماذا يصيحون ويتبادلون الإشارات يدوياً؟ أسئلة كثيرة ترتسم في أذهان الكثيرين ممن يشاهدون أخبار البورصة على شاشات التلفزة، ولم يسبق لهم أن اطلعوا فعلاً على أنظمة عملها. بهاء الرملي يحدثنا عن البورصة ونشأتها، وأنظمة عملها المستوحـــاة كلها من بورصة نيويورك، باعتبارها الأنموذج الأساس.
تشكل أسواق الأوراق المالية أو البورصات، عصب الحياة الاقتصادية في عالمنا المعاصر؛ كونها تستقطب كبريات الشركات العالمية، من الشركات المالية إلى المصارف وشركات الاتصالات والمعلوماتية والصناعة إلخ…
مئات ملايين الأسهم تُشترى وتباع يومياً بمليارات الدولارات، فالطامحون إلى تحقيق ثروات والراغبون في تعزيز أوضاع شركاتهم ومؤسساتهم يتطلعون إلى هذا العالم المليء بالمغامرة علّهم يحققون فيه أحلامهم. أرباح تُجنى وخسائر تسجّل في ثوانٍ يستغرقها تسجيل طلب العملية بيعاً أو شراء. صغار دخلوا البورصة وانتقلوا إلى عالم الكبار في مرحلة الفورات التكنولوجية التي شهدها العالم، وكبار دفعوا ثمن تقلبات الأسواق والتوقعات غير الواقعية لتطورها. وأحياناً كثيرة، كان الفساد والمضاربات وسيطرة أجواء من الشك والغموض في لحظات سياسية معينة في العالم، سبباً في انهيار شركات عملاقة في مجالات الصناعة والطاقة والاتصالات، كان آخرها ما حصل في بورصة نيويورك منذ أعوام قليلة.
نشأتها
تعود نشأة البورصة في شكلها الأولي إلى بدايات القرن الماضي، وتحديداً إلى عام 1905م عندما بدأ كبار المزارعين في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في نيويورك، يحملون محاصيلهم من الخشب، ولاحقاً من القطن والذرة إلى السوق حيث كانت تخضع لقاعدة العرض والطلب فتتغير أسعارها صعوداً وهبوطاً بصورة عكسية مع وفرة المعروض أو شحّه.
مع الحرب العالمية الأولى تقلصت حركة هذه السوق، لكنها سرعان ما عاودت نشاطها بعد الحرب وبدأت تنتظم. وبادر الكبار من أصحاب البضائع يعيّنون وسطاء لهم للبيع والشراء لقاء عمولة كانت تصل إلى ربع أو نصف واحد في المئة من كل من البائع والمشتري. ومع انتظامها، بدأت هذه السوق تتلقى طلبات من شركات النقل ومصارف وشركات أموال وشركات من قطاعات مختلفة، للانضمام إليها، ما حمل أصحابها على التفكير جدياً بإنشاء سوق مركزية أكثر تنظيماً لا تعرض فيها السلع أو الخدمات مباشرة وفي شكل مادي، بل عبر وضع لائحة أسعار تفصيلية بكل السلع المعروضة.
الوسيط من هو؟
وهكذا نشأت في نيويورك أول بورصة في العالم. وراحت تنمو وتتطور وتدرج في سجلاتها أسهماً بدلاً من البضائع. وبدأت شركات وساطة، لها زبائنها وعملاؤها، تحل تدريجياً محل الوسطاء العاملين أفرادياً. وفرض توسع البورصة ونموها تقسيم الأسهم وفرز البضائع والسلع وفقاً لأنواعها في سوق واحدة، فكانت سوق السلع والمواد الاستهلاكية وسوق المعادن الثمينة وسوق الفحم الحجري وسوق الخشب والسكر.
ومع هذا التطور، قرر الوسطاء منع الزبائن من أصحاب السلع التواجد مباشرة في البورصة وفرضوا عليهم إتمام عمليات البيع والشراء عبرهم، وعينت كل شركة وساطة مندوبين عنها في غرفة العمليات. فبورصة نيويورك، الأولى والوحيدة في العالم آنذاك، كانت فرضت على الوسطاء شراء مقاعد لهم في الردهة لقاء بدلات تدفع سنوياً. وكان على أي زبون يرغب في شراء أسهم في شركة معينة أن يتم العملية من خلال الوسيط الذي يتعامل معه والوسيط الذي تتعامل معه الشركة. لكن لم يكن الوسطاء يجرون العمليات بأنفسهم في الردهة، بل كانوا يعطون أمر الزبون في الشراء أو البيع لشخص ثالث في الردهة متخصص في نوع معين من الأسهم. (قسمت الأسهم إلى فئات لتسهيل العمل في البورصات ذات الحجم الكبير).
لغة الإشارات
هذه هي الطريقة في التعاطي، وكون الوسيط خارج الردهة، فرضت تلقائياً لغة تخاطب سريعة لنقل الأوامر بالبيع أو بالشراء وبعدد الأسهم والسعر، فنشأت لغة الإشارات أطلقت عليها اسم مصطلحات البورصة.
ولدت لغة الإشارات وفقاً لمقولة الحاجة أم الاختراع . فبعد الوسيط عن الردهة واضطراره إلى إيصال رسالة سريعة وواضحة ومفهومة إلى الاختصاصي فرضت نوعاً من التفاهم بينهما على مجموعة إشارات بالأيدي، لكل منها معناها المحدد والمرتبط بتفاصيل العملية المطلوب إتمامها، من نوع الأسهم المراد شراؤها إلى عددها وسعرها إلخ…
ليست هذه اللغة عالمية، بمعنى أنه ليست لها مصطلحات معممة محددة لكل عملية، فضلاً عن أن معانيها ليست واحدة في كل البورصات. لكنها عالمية بالمعنى العملي، أي أنها معتمدة في كل البورصات؛ كونها وليدة الحاجة إلى لغة مرمزة وسريعة بين الوسيط والاختصاصي كما سبقت الإشارة. إلا أن منبعها الأساسي هو بورصة نيويورك التي تحولت إلى مثال لكل البورصات التي نشأت بعدها في العالم كله.
نمت هذه اللغة مع نمو البورصات واتساع حجم العمليات فيها، منذ انطلاقة البورصة إلى أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، عندما بدأت تخلي الساحة تدريجياً لعالم الإلكترونيات، وتطورت على مدى ثلاثة أو أربعة عقود، لا سيما في البورصات الكبيرة التي تشهد عمليات كثيرة. إلا أن مجال توسعها بقي محدوداً؛ لأنها مرتبطة بعدد محدود من الأوامر أي البيع والشراء وتحديد نوع الأسهم وسعرها، وثمة من يقول إنها لن تتخطى سبع أو ثمان إشارات. لكن الأهم كان إتقان استعمالها. وبالفعل كانت هذه الإشارات تنتقل بالتعلم والتدريب من جيل إلى جيل، وكان أساسها بورصة نيويورك.
وإذا كانت الإشارات لغة التخاطب السريع والمفهوم والواضح، كما يفترض أن يكون، بين المعنيين بها، إلا أن سوء الفهم والخطأ احتمال وارد، وسُجلت بالفعل حالات كثيرة من هذا النوع. فأمر الشراء يفهم أمراً بالبيع أو بالعكس، والنتيجة الحتمية لذلك خسائر تصل إلى آلاف الدولارات في العملية الواحدة. إلا أن نظام العمل في البورصة يضمن للزبون حقه، وأي خطأ يقع فإن تبعاته تقع على الوسيط. فهذا النظام يفترض تسجيل أوامر المهمات والعمليات والأسعار بالثواني. وكانت تجرى كشوفات يومية آخر النهار، فإذا تبين وجود خطأ ما، كانت تتم تسويته ويعطى الزبون حقه. وكان التصحيح يتم بأن يشتري الوسيط في اليوم التالي للأمر أسهماً لصاحب الطلب بالسعر الذي كان رائجاً في اللحظة التي صدر فيها الأمر على أن يتحمل الوسيط الخسارة.
وبهدف الحد من هذه الخسائر، ونظراً إلى أن الأخطاء كانت كثيرة، طوّرت البورصات أسلوب عملها واعتمدت ألواناً مختلفة لكل من عمليات البيع والشراء، وبات العمل يرتكز على الإشارات والنظر معاً. وزيادة في الحرص والدقة، لا سيما مع نمو حجم العمليات في البورصات الكبيرة، تم تحديد عدد الأسهم وفقاً لنوعها، وكان كل اختصاصي متعامل بحصة معينة يرتدي لباساً مختلفاً عن اللباس الذي يرتديه متعامل بفئة أخرى من الأسهم في شركة ما ليتمكن الوسيط من التعرف بسرعة وبسهولة على الاختصاصي حامل نوع الأسهم التي يريد التعامل بها.
إخلاء الساحة للإلكترونيات
ومع تطور تكنولوجيا المعلوماتية اعتباراً من الثمانينيات، ومع نمو البورصات وازدياد عدد الأسهم حتى بات يفوق المليار ونصف المليار سهم في اليوم، لم تعد لغة الإشارات تلبي هذا الحجم من التعامل؛ فبدأ الانتقال تدريجياً إلى لغة التكنولوجيا اعتباراً من عام 1985م، أولاً مع الكومبيوتر ثم مع الإنترنت إلى أن بات التعامل الإلكتروني هو السائد اليوم. وباتت العمليات تتم مباشرة في البورصة على الشاشة من دون إشارات، على أن تتم عبر شركة وساطة مسجلة في البورصة تفتح خط اتصال للزبون. واستتبع هذا التطور، وازدياد حجم العمليات والأموال المتداولة فيها، تطوراً في تحديد فارق الأسعار الذي بات بالسنتات للسهم بعدما كان يصل أحياناً إلى 5 دولارات. فكلما كبر حجم السوق كلما تراجع الفارق بين سعر الشراء وسعر المبيع، وترافق هذا التغيير مع تراجع حصة الوسيط من 3 و 4 في المئة أحياناً، إلى سنتات للسهم.
غير أن لغة الإشارات لم تنقرض، كما يخيّل لغير متتبعي عمل البورصات، مع اعتماد الإلكترونيات، وهي ما زالت معتمدة في البورصات الصغيرة وحتى في البورصات الكبيرة، وإن كان على نطاق محدود، في ما يعرف بالعمليات خارج السوق (over the counter). بدأ التعامل خارج السوق مع NASDAK التي أنشئت خارج ردهة بورصة نيويورك للتداول بالشركات التي لا تستوفي الشروط التي تؤهلها الدخول إلى البورصة، فيتم التعامل بأسهمها خارج البورصة ويفرض على الوسيط أن يتصل بشركتين للحصول على سعرين ليشتري بالسعر الأرخص. ويتم التعامل بالأسهم الجديدة خارج السوق إلى أن تكبر الشركة ويصل عدد أسهمها إلى ما لا يقل عن 500 ألف سهم، ويصل سعر السهم إلى الحد الأدنى الذي يفرضه نظام البورصة، عندها يسمح لها بأن تدرج أسهمها في البورصة على أن تتعامل مع شركة وساطة مسجلة في البورصة.
إلى ذلك يعتمد العمل خارج السوق، واستطراداً بلغة الإشارات، مع الشركات التي تكون أدرجت في البورصة سابقاً لكنها أخرجت منها لفقدانها الشروط التي تؤهلها للبقاء فيها، كأن تسجل خسائر ويتراجع سعر سهمها إلى ما دون الحد الأدنى المسموح به (البورصات الكبيرة تفرض عادة سعراً أدنى للسهم مقداره 10 دولارات، فيما تحدده البورصات الصغيرة بـ 3 دولارات وأحياناً أقل من ذلك). حتى أن البورصات الصغيرة جداً لم تكن تضطر إلى استعمال الإشارات، فهي أحياناً لم تكن تشهد أية عملية في اليوم، وكانت أوامر العمليات تسجل يدوياً على لوح خشبي مع سعر الإقفال وتنشر في الصحف في اليوم التالي.
لكل بورصة قوانينها
–
تعمل البورصات العالمية كل وفقاً لقوانينها، لكن كل هذه القوانين مستمدة من البورصة الأم في نيويورك. وعلى كل شركات الوساطة التي تريد العمل في أية بورصة أن تعرف قوانينها وتنفذها تحت طائلة دفع غرامات مالية، ويفترض بكل وسيط أن يتّبع دورات تدريب على قوانين البورصة التي سيتعامل معها.
–
يمنع على الزبائن التعامل مع بعضهم مباشرة بيعاً أو شراءً، وعليهم التعامل عبر شركة وساطة. فالقوانين العامة باتت تفرض ذلك وليس فقط أنظمة البورصة منعاً لعمليات تبييض الأموال.
ما هي شركات الوساطة؟
إنها الشركات التي تجمع بين البائع والمشتري وتتقاضى عمولة من الطرفين على العمليات. ومن مهماتها، بالإضافة إلى إتمام عمليات بيع الأسهم وشرائها، تزويد الزبائن بالمعلومات وإدارة حساباتهم وإرسال كشوف بها آخر كل شهر.
ثمة نوعان من الأسهم:
أسهم بسعر السوق، وأسهم بسعر محدد. وعلى الزبون أن يختار أي نوع من الأسهم يريد التعامل به. فإذا كان النوع الأول فيطلب من الوسيط شراء عدد معين من الأسهم بالسعر الرائج. وإذا كان يريد أن يشتري بسعر محدد تجمد الأسهم لفترة معينة ثم تعرض في السوق، وفي الحالتين فإن الزبون هو الذي يقرر، ويتم الأمر بناءً على اتفاق سابق مع السمسار.
من البورصات
من الأمثلة التي يمكن أن نضربها على مدى تأثر البورصة بالتطورات العلمية والعوامل الخارجية، نشير إلى ما شهدته بورصة نيويورك مع الفورة في عالم الاتصالات والمعلوماتية والإنترنت، من عمليات شراء وبيع بوتيرة متسارعة رفعت أسعار شركات مثل أميركان أون لاين وياهو وأمازون من 10 دولارات للسهم إلى 250 و 300 دولار.