قد يكون اختراع العجلة أو الكتابة أو النار أحد أعظم الاختراعات التي قدَّمت للبشرية خدمات جليلة؛ فالعجلة سهّلت الانتقال والنقل، والكتابة تمكّن الإنسان من خلالها من التواصل مع الآخرين وتدوين تاريخه وثقافته، أما النار فقد أضاءت له عالمه وطهى بها طعامه وصهر بوساطتها المعادن التي طور من خلالها أداوت بناء حضارته.
لكن اكتشاف (الإلكترون) هذا الجسيم الصغير جداً في الذرة، تمكن بالاختراعات التي دخلها أن يفوق خلال مائة سنة كل الاختراعات التي أنتجتها البشرية خلال عشرة آلاف عام.
فقد ظهر التيار الكهربائي الذي يمكن تخزينه في مدخرات السيارات، ومن ثم فتحت آفاق السيارات ووسائط النقل الكهربائية، كما ظهرت الكتابة والأحبار الإلكترونية، وأيضاً القادحات الإلكترونية التي تولد شرارة تشعل ناراً. ولم تقف إمكانات هذا الجسيم عند هذا الحد؛ بل مضت إلى تطوير الحاسبات الإلكترونية والاتصالات التي غيّرت نمط الحياة على كوكب الأرض بشكل مذهل.
محاولات استجلاء كنه المادة والذرة قديمة، تعود أصولها إلى أيام اليونانيين، حيث طرح المذهب الذري على يد الفيلسوف ليوسيب وقام بتطويره تلميذه ديموقريطس بصورةٍ أفضل، وقد سمّى أصغر جزء في المادة لا يمكن تجزئته (بالأتوم)، معتقداً أن هذه الذرات عبارة عن كرات كتيمة صلبة وصغيرة لها تكوين المادة نفسه، لكنها يمكن أن تختلف عن بعضها بالشكل والحجم. ثم كان من الفيلسوف أبيقور أن سوّق لهذه الأفكار في القرن الرابع قبل الميلاد وإشاعتها، الأمر الذي لم يكن أرسطو راضياً عنه؛ فجعل كل أتباعه (الذين كانوا يسمون بالمشاءين نسبة لأرسطو الذي كان يلقي محاضراته في مدرسته الليسيوم وهو يمشي) يتجاهلون الاهتمام بهذا الأمر حتى القرنين السادس عشر الميلادي، حيث أعيد الاعتبار للمنهج العلمي والتجريبي في التعاطي مع الطبيعة.
لنتوقف هنا قليلاً ونلاحظ كيف أن التسليم المطلق بأفكار المعلم الأول قد أخّر البشرية بأكملها لمدة تزيد على ألفي سنة، ربما قد خطر ببال أحدهم أن يخرج على أفكاره، لكن الجو العلمي العام لن يسمح للفكرة الجديدة أن تنشأ وتترعرع فماتت في مهدها، وقد تعلمت البشرية بعد انتشار المنهج العلمي نقد الأفكار ووضعها على المحك، مهما علا كعب قائلها؛ فالتجربة والواقع هي الفيصل والحكم في النهاية، وهذا أمر مهم في طلب العلم الطبيعي المعاصر.
قصة اكتشاف الإلكترون هذا الجسيم الأساسي بدأت بشكل نظري عام 1750م، عندما اقترح العالم اليوغسلافي الأصل روجر بوسكوفيتش إمكانية احتواء الذرة على أجزاء أصغر منها وأنه يوجد إمكانية لتفتيتها وسبر أغوارها في حال توافر التقانة المناسبة لذلك.
مع تقدم الكيمياء بات العلماء يشعرون بالحاجة المُلحة لمعرفة بنية الذرات التي يتعاملون معها، لكن علماء الفيزياء هم من قدّم أول إجابة علمية صحيحة ومؤكّدة على أن الذرة تحتوي على أجزاء أصغر منها، كان ذلك في عام 1897م، عندما أعلن الفيزيائي البريطاني جوزيف طومسون عن اكتشافه جسيمات تدخل في تركيب الذرة وهي جزء يتجزأ عنها، اتفق على تسميتها (بالإلكترونات) وهي ذات شحنة سالبة، نسبةً إلى حجر الإلكتروم (أو الكهرمان) الذي يتصف بخاصية الكهرباء الساكنة.
وحتى نتصور حجم الإلكترون لنتخيل أن الذرة هي بحجم ملعب كرة قدم فإن النواة (التي تحوي البروتونات والإلكترونات) ستكون بحجم كرة القدم، الآن تشكل كتلة البروتون (أو النترون) 1839 مرةً ضعف كتلة الإلكترون، بمعنى آخر إذا كان وزن الإلكترون يعادل وزن قطعة العشر سنتات الأمريكية فإن وزن البروتون يعادل وزن غالون من الحليب. أما عن شكله الحقيقي فهو ليس بدائرة ولا كرة وإنما مفلطح كالبيضة، كما أظهرت الأبحاث التي أجريت عليه في لندن عام 2011م.
فانظروا كم كتلة الإلكترون وبالتالي حجمه ضئيل، لكن الفعل الذي أحدثه وسيحدثه في البشرية كلها أكبر من أي جسم عرفته البشرية بحواسها.
سنقف هنا أيضاً مرةً أخرى ونتساءل كيف تمكن طومسون من التوصل لاكتشاف الإلكترون دون غيره من العلماء على مدى آلاف السنين؟
لا شك بأن ثمة ظروف وأسباب قد توافرت له، أولاً كان شخصية تحب العلم بكليتها، مخلصاً دؤوباً على المطالعة والبحث والتجريب مهما كانت الإمكانات محدودة، وكان أن طُرحت في أيامه مشكلة البحث في ماهية الأشعة المهبطية (الكاثودية) التي اكتشفها يوليوس بلوكر عام 1856م، وحدث جدل علمي كبير بين العلماء حول ما إذا كانت هذه الأشعة أمواجاً أم جسيمات.
ثم كان أن تسلَّم طومسون رئاسة مختبر كافندش عام 1884م، في جامعة كامبريدج، وعلى مدى ثلاث عشرة سنة لم يتوقف فيها عن إجراء التجارب والبحث العلمي دون كلل أو ملل، وتصدى لحل الجدل العالق بين العلماء، وفعلاً توصل إلى نتيجة مفادها أن هذه الأشعة عبارة عن أجزاء من الذرات.
طبعاً لم يسلّم الآخرون لاكتشاف طومسون بهذه السهولة، بل أجريت مئات الاختبارات حتى تم التأكد فعلاً أن ما اكتشفه طومسون هو أول الجسيمات دون الذرية الذي استحق عليه جائزة نوبل في الفيزياء عام 1906م.
وهكذا انتصرت الإرادة القوية على ضعف الإمكانات، وأحدث باكتشافه فتحاً لم يتوقع هو نفسه أن يوصل البشرية إلى ما وصلت إليه اليوم، ولو يعلم أرسطو ما حققه طومسون لعض أنامله ندماً لأنه رفض الاعتراف بوجود الذرات ومكوناتها.