حياتنا اليوم

الأمان الاجتماعي في المدن العربية
نعمة لا يعرف قيمتها إلا من يفتقدها..

  • 56-(damascus_street)
  • 59a-(DSC01355)
  • 59b-(80532041_a9f76a66dd_o[1])
  • 61a-(386075188_6fe0c162c4_o[1])
  • 61b-(387172352_36c848c0e3_o[1])
  • 61c-(119729859_5248981fe2_o[1])
  • 63a-(TL024141)
  • 63b-(GM1DVEHLRHAA)
  • 63c-(GM1DVLXHUJAA)
  • 63d-(425905007_374a2f5722_o)

لو وضعنا جانباً أعمال العنف لأسباب سياسية أو حربية، التي يمكنها أن تندلع فجأة في أية مدينة في العالم لتحول الحياة فيها فجأة إلى جحيم، ولو تطلعنا إلى جانب الأمن الاجتماعي، ونعني به غياب المخاطر التي يمكنها أن تتهدد الحياة اليومية لسكان المدن على أيدي جيرانهم في المدينة الواحدة، للاحظنا أن المدينة العربية كانت ولا تزال عموماً آمنة أكثر من غيرها من المدن في العالم، وخاصة المدن الكبرى في أمريكا وأوروبا الغربية على سبيل المثال.
الصحافيان شوقي الدويهي وعامر الصومعي يؤكدان صحة هذه الملاحظة، ويحاولان تفسيرها بعدد من خصوصيات المدينة العربية المعاصرة.
يندر، بل يستحيل، أن نقع على مجتمع خالٍ تماماً من العنف. فجميع المجتمعات، سواء القديمة أو الحديثة، شهدت وتشهد أشكالاً من العنف بهذا القدر أو ذاك.

وإذا كان هناك من فرق بين مجتمع وآخر على هذا الصعيد فهو، في الحقيقة، فرق يطال مدى تفشي هذه الظاهرة واتساعها أو ضمورها والأشكال التي تعتمدها والأغراض التي تسعى وراءها. وعليه، فمن الواضح أن المجتمعات الغربية، سواء الأمريكية أو الأوروبية هي مجتمعات يتجلى عنفها بطرق هي بعددها ونوعها غير الطرق التي يتجلى فيها العنف في مجتمعاتنا العربية. وهذا الاختلاف أفضى إلى القول إن مجتمعاتنا، وبالتالي مدننا، تتمتع بهذا القدر أو ذاك بنوع من الأمان النسبي قياساً على ما هو عليه حال المدن الغربية بعامة. والأمر صحيح.

الأرقام الدموية..
صعبة على القراءة
من الممكن للقارئ المهتم بالأرقام أن يجد الكثير الكثير منها على شبكة الإنترنت. ولكن قراءة هذه الأرقام تتطلب تمحيصاً دقيقاً لإدراك ما تمثله فعلاً. فما يسمى جريمة في التقارير الرسمية يشمل كل أشكال خرق القانون بدءاً بجنايات القتل وانتهاءً بإعطاء شيك من دون رصيد أو تلقي رشوة أو حتى مشاكسة شرطي السير. ولذا، إن كانت الأرقام المتعلقة بالبلدان العربية تتحدث عن الجرائم بعشرات الألوف لكل دولة على حدة مما قد يثير قلق القارئ العربي، فإن التدقيق في هذه الأرقام سرعان ما يطمئنه.

فلو أخذنا جرائم القتل مثلاً، لوجدنا أن إحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية تشير إلى وقوع جريمة قتل كل 31 ثانية. أما في الهند حيث يبلغ عدد السكان أكثر من ثلاثة أضعاف سكان أمريكا، فتقع جريمة قتل واحدة كل 16 دقيقة.

المسألة إذن مسألة اختلاف المجتمعات. ولكن هل يعود تفشي الجريمة إلى الحداثة ونمط الحياة الغربية كما هي اليوم.. لا شيء يؤكد ذلك. فالوضع في أمريكا الجنوبية ليس أفضل حالاً منه في أمريكا. ولعل المثل الأشد فجاجة يأتي من جنوب إفريقيا حيث أحصيت 19,000 جريمة قتل خلال العام 2006م، مقابل 426 جريمة قتل في سوريا سنة 2004م!!

ولهذا لم يكن مستغرباً أن يعبِّر مهندس جنوب إفريقي يعمل في البلاد العربية عن دهشته الكبيرة للشكل الذي تُعرض فيه الحلي الذهبية والجواهر في المتاجر المشرعة أبوابها للمارة، قائلاً: لو ان متجراً واحداً تصرَّف هكذا في جوهانسبرغ لتعرض للسطو وقُتل صاحبه خلال دقائق.. ثم يصحح كلامه: خلال دقيقة واحدة .

وفيما يقول رئيس الندوة الدولية لمكافحة الجريمة والإرهاب، الجنرال أناتولي كوليكون، إن هناك 400,000 جريمة ترتكب يومياً في العالم، وإن الجريمة قد نمت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي 8 مرات في أمريكا، و7 مرات في بريطانيا والسويد، و4 مرات في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، ومرتين في اليابان، نجد أن البلدان العربية بقيت، والحمد لله، بعيدة عن هذا النمو المرعب. لا بل يمكن القول إنها، رغم ازدياد معدلات الجريمة عموماً بقيت نسبياً بمنأى عن هذا المسار العام. ففي حالة سوريا التي أشرنا إليها أعلاه انخفض عدد جرائم القتل في العام 2005م عما كان في العام السابق، ليصل إلى 340 جريمة فقط استناداً إلى مركز الإحصاء المركزي بدمشق.

الإحساس أوضح من الأرقام
والواقع أنه يمكن للقارئ أن يستغني عن هذه الأرقام جملة وتفصيلاً بمجرد الالتفات إلى حياته اليومية في المدينة العربية التي يعيش فيها.

ففي القاهرة على سبيل المثال، يمكن لأية سيدة أن تستقل بمفردها سيارة أجرة ليلاً لتنتقل من خان الخليلي في وسط القاهرة إلى أطراف مصر الجديدة، من دون أن تخشى التعرض لأذى السائق. فهي والسائق يعرفان أنها بمجرد ظهور أول بادرة خطأ، فإنها ستلقى الدعم الفوري من كل المارة ومن في الجوار.. رغم كل الأرقام التي تتحدث عن ارتفاع نسبة جرائم التحرش والجريمة عموماً في مصر.

ورغم كل الأرقام أيضاً التي تتحدث عن وجود 10 آلاف قضية جنائية في المملكة العربية السعودية ينظر فيها 674 قاضياً في 266 محكمة، يعرف المرء في الرياض أن بإمكانه التجول أينما شاء في العاصمة بعد منتصف الليل بكل ما يحمل من نقود من دون أي إحساس بوجود خطر تعرضه للسلب.

ومما لا شك فيه أن التعديات التي تطال الأفراد في المدن العربية لا تشكل، في الحقيقة، ظاهرة بكل معنى الكلمة على غرار ما في المدن الغربية. فالمعروف أن في هذه الأخيرة يتجنب المرء قدر المستطاع التنقل وحيداً في الشوارع، وبخاصة أثناء الليل، خوفاً من أن يتعرض للسرقة، أو للضرب لسبب يعزى إلى هويته التي يفضحها لون بشرته. وفي هذا الصدد يروى أن إحدى أهم النصائح التي تعطى للمواطن الأمريكي، أو للذي يزور أمريكا، وهو يتسكع ليلاً في الشوارع أن يبقي دوماً في حوزته ولو كمية صغيرة من الأموال يبذلها طوعاً إذا تعرض للسرقة. ذلك أن عدم توافرها في جيبه قد يؤدي به إلى الموت. أما من يزور أية مدينة عربية فلا بد له من أن يلاحظ أن الناس تتنقّل من مكان إلى آخر وترتاد المقاهي والأندية خلال الليل كما في النهار من دون الشعور أنها يمكن أن تتعرض لأي مكروه.

المدينة العربية
الوافدون إليها مختلفون
تتميز المدن الغربية عموماً، ولا سيما الأمريكية، في كونها تضم خليطاً كبيراً من الأقليات العرقية التي وفدت إليها تباعاً من بلدان عديدة سعياً وراء تحصيل عيشها. أدى هذا الخليط المتنافر ثقافياً، من ضمن ما أدى إليه، إلى تشكيل نوع من الغيتويات المهمَّشة داخل هذه المدن، وهو تهميش دفع بها تاريخياً إلى اعتماد أساليب تتوسل العنف في كثير من الأحيان، وذلك لتحقيق ما تصبو إليه. وقد لا نكون بحاجة إلى التذكير بواقع السود في أمريكا وما عانوه من اضطهاد وتهميش ونظرة عنصرية وبالتالي احتلالهم مرتبة دونية في السلّم الاجتماعي. ويفسِّر هذا الواقع النسبة العالية للجريمة على أنواعها في أوساطهم، الأمر الذي جعل من أمكنة تواجدهم في بعض المدن أمكنة خطرة مثل حي هارلم الشهير في نيويورك. والواقع نفسه هو ما يفسِّر اعتماد جاليات أخرى وفدت إلى أمريكا، وبصورة خاصة الجالية الإيطالية التي اعتمد بعضها جميع أساليب القتل والابتزاز والتهديد والاتجار بالممنوعات، وأعني هنا العائلات المافيوية التي أرعبت سنين طويلة المجتمع الأمريكي.

وشهدت المجتمعات الأوروبية هي أيضاً هجرة واسعة من بعض البلدان، وبخاصة من المغرب العربي وإفريقيا، وإذا أخذنا فرنسا مثلاً، فالواضح أن أبناء هذه الجاليات الذين استقر أهلهم في ضواحي المدن، لم يتوانوا في الكثير من الأحيان وبفعل التهميش الذي يتعرضون له عن اعتماد أساليب عنف. وما شهدناه في الآونة الأخيرة في فرنسا من حرق للسيارات والاعتداء على الناس والمحال خير دليل على ما يعانيه هؤلاء. إلى هذا ثمة ظاهرة بدأت تتجلى في بعض الدول الإفريقية وأمريكا اللاتينية قوامها اللجوء إلى العنف من قبل أهل البلد الأصليين ضد الجاليات الأخرى التي يعتبرون أنها تستغلهم وتسرق خيراتهم. هذا كله يجعل من هذه البلدان وتحديداً مدنها مدناً لا تتمتع بالأمان.

هذا العنف وما يستتبعه من عدم استقرار وأمان نتيجة وجود جماعات وافدة من بلدان أخرى لا وجود له، في الحقيقة، في مجتمعاتنا العربية. ذلك أن تركيبة مجتمعاتنا، خاصة في المدن، تختلف كثيراً من هذه الزاوية.

وللإيضاح يمكننا أن ندخل في شيء من التفصيل. فهناك عدد كبير من الدول العربية مثل مصر وسوريا والمغرب والجزائر والسودان والأردن، لم تشهد أية هجرات تستحق الذكر إليها لوافدين ساعين إلى العمل والاستقرار فيها، كما شهدت أمريكا الأفارقة والإيطاليين والصينيين.. وهناك من جهة أخرى دول الخليج العربي، التي شهدت في العقود الأخيرة نهضة تنموية واقتصادية عملاقة استدعت الاتكال جزئياً على عمالة وافدة.

ولكن ما بين المجتمعات الخليجية والعمالة الوافدة عقد صريح. فالعامل هنا هو لعمل معين ومحدَّد بدقة مقابل مكافأة محددة بدقة. فهو ليس في موطن بديل كما هو حال الإيطالي في أمريكا، ولا هو في القاع وفوقه أفق مفتوح للصعود الاجتماعي بمختلف الوسائل، كما كان حال السود في أمريكا.. وحزم المجتمعات الخليجية في التطبيق الصارم لهذا العقد، يبقي العمالة الوافدة (مهما بلغت في تجاوزاتها) بعيدة جداً عن أن تقارن بالجماعات التي وفدت إلى أمريكا للاستيطان والاستقرار من حيث زعزعة الاستقرار الاجتماعي في البلد المضيف.

الأحياء الشعبية.. ماذا عنها؟
باستثناء القاهرة، حيث تفشَّت في العقود الأخيرة ظاهرة الأحياء العشوائية عند أطرافها، يمكن القول إن المدينة العربية التقليدية كانت ولا تزال من دون أحياء شعبية خارجة عن نسيجها العام. فمفهوم الحي الشعبي هو الحي المخصص للفقراء والمهمَّشين اجتماعياً، ويعاني من لا مبالاة مؤسسات المجتمع فيبقى منسلخاً عن النسيج العام للمدينة ومنعزلاً عنه وشكَّل بالتالي موطناً ملائماً للجريمة، كما هو حال هارلم في نيويورك والـ غوت دور في باريس، هذا المفهوم هو غير موجود في المدينة العربية. فما يرادف الحي الشعبي في المدينة المعاصرة هو البلد القديم ، أي النواة القديمة للمدينة، وهذا هو حال دمشق وحلب وطرابلس وبيروت وطنجة والرباط وتونس وجدة وحتى القاهرة نفسها. وهذه الأحياء القديمة التي كانت موطن كل سكان المدينة من أثرياء وفقراء حتى بدايات القرن العشرين، لن تُخلى تماماً من سكانها الأصليين. فإن كان بعضهم قد انجذب إلى السكن في العمارات الحديثة التي راحت تتكاثر في ضواحي المدينة القديمة لتشكِّل لاحقاً المساحة الكبرى من المدينة كلها. فإن الكثيرين بقوا في أحيائهم القديمة هذه.

طبيعي أن يحرص هؤلاء على الأمن الاجتماعي في مناطقهم هذه من خلال جملة أعراف وتقاليد وقوانين غير مكتوبة، ولكنها تبقى نافذة ومطبَّقة. ولذا، يمكن للمرء أن يشعر وهو يتجول في أزقة باب قنسرين في حلب القديمة ليلاً من دون أن يصادف أي شخص من حوله، بالأمان نفسه الذي يشعر به في ميدان سعدالله الجابري حيث الأضواء والناس والشرطة.

حجم المدن يلعب دوره
وفي هذا الصدد، لا بد من التطرق إلى عامل آخر يتعلق بحجم المدن وما لهذا الحجم من تأثير على الأمن أو عدمه. ففي هذا الصدد تشير الدراسات التي تناولت هذا الموضوع إلى أن نسبة الجريمة في المدن الكبرى هي نسبة عالية قياساً على المدن الصغيرة الحجم. وهذا الأمر ليس بمستغرب، ذلك أن ضبط الأمن وملاحقة الجريمة في المدن الكبرى هما من الصعوبة بمكان. ذاك أن طابع الغفلة يطغى على مميزات هذه المدن، أي ان الناس فيها لا يعرف بعضها بعضاً. والغفلة تسهم بصورة من الصور في نشوء عصابات تمتهن الاحتيال والسرقة والجريمة.

أما فيما يتعلق بمدن العالم العربي، فالواضح أن في معظمها كثافة سكانها ضئيلة، هذا إذا استثنينا مدينة القاهرة التي تشبه من هذه الزاوية كبرى المدن الغربية. ففي المدن العربية ضوابط على صعيد ما يسمى بحياة الأحياء والحارات حيث ينخرط الناس في علاقات يومية، وبالتالي يعرف بعضهم بعضاً، الأمر الذي يجعلهم حراس أمكنتهم. ففي دراسة عن مدينتي بيروت وعمَّان تناولت حياة الأحياء والتزاور بين الجيران هناك فصول تتكلم عن الدور الذي يلعبه الأولاد في محاصرة الغريب الداخل إلى الحيّ، وهي محاصرة تأخذ شكل الدليل الذي يساعد الغريب وإرشاده إلى المكان الذي يقصده. إذن يمكن القول إن المجتمع الأهلي في المدن العربية يقف حاجزاً أمام الكثير من التعديات التي يمكن حصولها.

الخوف على الجار لا منه
وفي هذا الإطار يروي رجل أعمال من أصل عربي نشأ وترعرع وعمل في أمريكا أنه قرر العودة إلى الاستقرار في موطن آبائه نتيجة حادثة صغيرة يرويها بنفسه قائلاً: كنت خارجاً مع ابنة عمي في نزهة للتعرف إلى المدينة التي أزورها أول مرة. وما إن خرجنا، حتى أغلقت الباب وأعطت المفتاح للجارة، وطلبت إليها أن تعطيه لوالدتها إن حضرت أثناء غيابنا. وعندما ابتعدنا قليلاً عن الجارة، سألت قريبتي: ألا تخافين من جارتك أن تسرق البيت؟ فضحكت وقالت: الجيران كلهم عائلة واحدة. ولا أحد يخاف من جاره بل يخاف عليه .

دور الروابط العائلية
هذه العوامل على أهميتها ليست الوحيدة التي تعزِّز الأمان النسبي في مدننا العربية. إذ ان هناك عوامل أخرى لا تقل عنها أهمية. فالمعروف عن المجتمع الغربي غياب الوسائط بين الدولة والمجتمع، وهي وسائط تتجسَّد في مؤسسات، فيما لا تزال للوسائط هذه بعض الفعالية في مجتمعاتنا.

فأشكال التضامن القائمة على ما يسمى بـ العلاقات الأولية ، أي كل ما يمت بصلة إلى علاقات القربى، سواء داخل الأسرة النواة أو الأسرة الموسَّعة أو حتى العشيرة، وما ينجم في هذه العلاقات من هيئات وروابط أحياناً، هذه الأشكال فقدت الكثير من فعاليتها، إن لم نقل تلاشت تماماً، في المجتمعات الغربية حيث ينهض المجتمع على ثقافة قوامها النزعة الفردية. وإذا وضعنا جانباً بعض فضائل هذه النزعة على أكثر من صعيد يبقى أنها في النهاية تعرِّي الفرد من بعض روابطه المجتمعية التي لعبت تاريخياً دوراً مهماً في تماسك العائلة التي تشكِّل المدرسة الأولى في تنشئة أفرادها. وفي هذا الإطار تجمع الدراسات التي تناولت مشكلات الانحراف في الغرب على أن أحد أهم أسبابه إنما هو التفكك الذي يصيب مؤسسة العائلة. وتؤكد هذه الدراسات أيضاً أن معظم الجرائم التي ترتكب من صنع هؤلاء. إذن هذه الحلقة التي تشكِّلها العائلة وما يتبعها من تضامن بين أفرادها أو عدم تضامن تدفع بهؤلاء إما إلى الانخراط في المجتمع بصورة سوية، أو الجنوح إلى تشكيل عصابات تتوسل العنف وبالتالي تهديد الاستقرار.

ومن هذه الزاوية، لا بد من الاعتراف بأن مؤسسة العائلة في مجتمعنا العربي لا تزال تلعب إلى حد بعيد دور الضابط النفسي والمجتمعي. وهذا الأمر يؤثر مباشرة في سلوك أفرادها، هذه السلوكات، ويلجم هذا السلوك إلى حد بعيد أساليب العنف وما يترتب عليها من تدمير لقواعد الحياة السوية التي يرعاها القانون. ولا يغيّر بشيء في المنحى العام بعض الاستثناءات التي تظهر هنا وهناك.

تفشي اقتناء الأسلحة
أيلعب دوراً أم لا؟
إلى كل ما تقدم، هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها، ألا وهي تفشي ظاهرة اقتناء السلاح، وأثره في ازدياد نسب الجريمة وتهديد الأمن الاجتماعي.

الحالة الأمريكية واضحة. شراء السلاح الناري في أية لحظة ممكن في معظم الولايات. وبسبب الشعور العام بعدم الأمان، فإن معظم المنازل والمكاتب الأمريكية تتضمن قطعة سلاح واحدة على الأقل. وسهولة الوصول إلى السلاح والتنقل به تعزِّز فرصة استعماله.

أما البلاد العربية فهي عموماً أكثر تشدداً بكثير من أمريكا في مسألة اقتناء الأفراد الأسلحة النارية، وتشترط لذلك رخصة قانونية تُعطى فقط إذا أمكن تسويغ اقتناء السلاح الناري. واقتناء السلاح من دون رخصة قانونية معطاة من السلطات الرسمية يشكِّل جرماً خطيراً على صاحبه.

ولكن، حتى ولو تركنا الضابط القانوني، وتطلعنا إلى ما يحصل عملياً على أرض الواقع، للاحظنا أن تفشي اقتناء السلاح الفردي في بعض الدول العربية مثل لبنان، لم يُحدث ارتفاعاً في معدلات الجريمة الاجتماعية مقارنة بحالته في أمريكا. والمثال الأوضح في هذا المجال يأتي من اليمن، حيث يتفشى اقتناء السلاح على نطاق واسع، سواء أكان سلاحاً نارياً أم أبيض كالخناجر. ومع ذلك فإن ما تشهده اليمن على صعيد معدلات الجريمة هو الأدنى في البلدان العربية بأسرها. وهذا يدعم التفسير القائل إن العربي ينظر إلى السلاح على أنه زينة الرجال أكثر مما هو أداة من أدوات الحياة اليومية وتصريف أمورها.

القيم الدينية والأخلاقية
أخيراً، لا بد من الاعتراف بأن القارئ لو شاء تفنيد كل نقطة على حدة من النقاط التي أشرنا إليها سابقاً، لأمكنه ذلك.

يمكن لهذا القارئ أن يقول إن السلاح موجود فعلاً، بشكله القانوني وغير القانوني.. وقد يطيب للبعض مقارنة المناطق العشوائية في القاهرة بـ الغيتوات في المدن الأمريكية.. وقد يقول البعض إن الهجرة من الأرياف العربية إلى المدن العربية لا بد وأن تشكِّل عامل ضغط يسهم في تفشي الجريمة.. وإلى ذلك يمكن أن يضيف البعض البطالة المتفشية في معظم الدول العربية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في العديد منها، وغير ذلك الكثير.

ولكن الواقع اليوم، وما يشعر به أي منَّا تجاه مدينته، وغياب الإحساس بالخطر تجاه كل من فيها وأينما كان فيها يدحض كل ما تقدَّم.

فثمة رادع عن الجريمة يقبع في أعماق أبناء هذه المدن. وهذا الرادع تشكل أساساً من جملة قواعد وأعراف متوارثة، ولا شك في أن ما هو ديني يقع في صميمها.

مهما اشتدت الضغوط على ابن المدينة العربية، ومهما اتسع أمامه المجال لارتكاب الجريمة ، أية جريمة، ومهما كانت علومه الدينية قليلة، هناك حضور قوي في وجدانه لمقاييس حددها الدين، تفصل بين السلوك الحسن والسلوك الجرمي بخط أحمر واضح لأبسط البسطاء.. واجتياز هذا الخط لا يزال، والحمد لله، يتسبب برهبة، لا فقط من العقاب في الآخرة، بل أيضاً من وضع المكانة الاجتماعية لهذا المتجاوز على المحك. فلا تعود الجريمة مجرد مغامرة تقاس بعوائدها وعواقبها، بل مقامرة تطيح بصاحبها في الأولى والآخرة.

أضف تعليق

التعليقات