قول في مقال

حقيقة الشخصية بين الواقع والإنترنت

غالباً ما ينكر الناس في حياتهم اليومية ذواتهم الحقيقية أمام الآخرين. أما في عالم الدردشة الإلكترونية، فيمكن للأفراد أن يتحدثوا بحرية أكبر، إذ لا يكونون مضطرين إلى الكشف عن هوياتهم للآخرين. وهكذا توفر الدردشة الفرصة للإنسان لكي يكوِّن نفسه. وقد يصل الأمر بالشخص إلى اختلاق أنا أخرى له تنسيه شخصيته في العالم الواقعي.
فارس كمال نظمي يتناول هذه المفارقة النفسية التي أنتجتها تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، متتبعاً آلياتها ودوافعها ونتائجها التربوية.

لماذا نلجأ إلى الدردشة؟
وُجِد أن الدردشة تمثل الاهتمام الأول في الإنترنت في المملكة العربية السعودية، بنسبة %51 لدى عينة من المراهقين والشبان في العام 2005م. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة بلغت النسبة %60. كذلك وجد أن الأمريكيين أنفقوا في العام 2002م مبلغ 302 مليوني دولار للحصول على مواعيد عاطفية مع شخص آخر عبر مواقع الدردشة الإلكترونية.

فما الإغراء الذي تمثِّله هذه الوسيلة الحوارية التي أصبحت بمرور الوقت نمطاً شبه عادي من الحوار؟

لكيلا تختلط مستويات التحليل ببعضها، فلابد من الإشارة إلى أن الدردشة نوعان أساسيان، أولهما ذلك الذي يكون مع أناس نعرفهم ويعرفوننا (دردشة مكشوفة الهوية)، والآخر مع أناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا (دردشة مخفية الهوية). ويهمنا هنا النوع الثاني (أي الدردشة المخفية الهوية)، فهي دردشة تتيح لنا إخفاء هويتنا الأصلية، وتقمص أو انتحال هوية جديدة نعبّر فيها عما نريده، ونمارس فيها بعضاً من خصال شخصيتنا التي نود إظهارها أمام الآخرين. الدردشة أيضاً تشكِّل مهرباً من عالمٍ غير آمن لا يفهمنا ولا يستمع إلينا. فالدردشة تتيح تكوين علاقات اجتماعية افتراضية تقدمنا إلى عالم آخر، يستمع، وقد يفهم.. وبهذا يسد حاجات نفسية وعاطفية غير متحققة في واقعنا، مما قد يؤدي إلى توهم الصلة الحميمة والألفة.. والهروب من عالم غير آمن نظن أنه لا يفهمنا ولا يستمع إلينا، إلى عالم يستمع إلينا وقد يفهمنا.

وتعطينا الدردشة أيضاً الشعور بالتحكم والسيادة والقدرة على التأثير، من خلال الاستعمال المباشر والآني للأزرار وطباعة الكلمات وتبادل الصور واستخدام الرموز الصوتية والصورية. فالفرد بذلك يستبدل عجزه عن التحكم بحياته اليومية (الواقعية) بالتحكم بالآلة وإمساكه بهذا العالم الافتراضي الذي يمكن مغادرته في أية لحظة.

عندما تتحول الدردشة إلى خطر
إدمان الدردشة هو استبدال الشخص علاقاته الإلكترونية بعلاقاته الواقعية. ويعدّ إدمان الدردشة جزءاً من إدمان الإنترنت، إذ يحذِّر العلماء من خطورة قضاء ساعات طويلة أمام الإنترنت خاصة في الدردشة التي تتحوَّل فيما بعد إلى إدمان (Cyberaddiction).

فقد بيَّنت دراسة لجامعة بيتسبرغ في أمريكا للعام 2004م أن %5 من مستخدمي الإنترنت في العالم في عداد المدمنين، وهي نسبة قابلة للارتفاع في السنوات المقبلة، إذ أكدت الدراسة أن التعرض للإنترنت أكثر من (4) ساعات يومياً يعد إدماناً. إلا إن هذا المعيار غير متفق عليه، وتوجد وسائل أخرى لتشخيص هذا النوع من الإدمان.

ويؤدي إدمان الإنترنت إلى تدمير حياة الفرد الاجتماعية والمالية والمهنية، كأنواع الإدمان الأخرى. ويتشابه سلوك مدمني الخمر مع الأعراض المرضية لمدمني الإنترنت. إذ اتضح أن مخ المدمن يقوم بالعمليات نفسها، سواء أكان إدمانه هذا من تناوله لمادة أو قيامه بنشاط ما.

ولكن.. لم لا نفترض العكس؟
مع إدراكنا للنتائج السلبية التي قد تنتج عن استخدامنا للدردشة على الإنترنت، نجد أن إيجابيات هذه الظاهرة قد بدأت تخفت ولا يلقى عليها الضوء بما فيه الكفاية، فالدردشة يمكن أن تغطي ميداناً رحباً من الحياة للفرد والمجتمع على حد سواء.

بداية، تعدّ الدردشة نوعاً من الإرشاد (أو العلاج) النفسي، لأن التحدث المنفتح مع الآخر يبلور المشكلة ويخفِّف توترها. كذلك يمكن للدردشة أن تكون وسيلة فاعلة يتعلم من خلالها الطفل والراشد مبادئ الحوار المثمر مع الآخرين، فيطور قدراته العقلية وينضج أفكاره ومعلوماته وتصوراته ومشاعره نحو العالم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدردشة أن تكون وسيلة تربوية وتعليمية فاعلة بين المعلم وتلاميذه، عبر متابعة واجباتهم البيتية، والرد على أسئلتهم، وإرشادهم لحل مشكلاتهم، وإعطاء دروس مشتركة في غرف الدردشة. أما عن الدردشة بين الجنسين، فهي إذا ما جرت على أساس منضبط من الاحترام والفهم، يمكن أن تنمِّي النظرة الإيجابية للجنسين نحو بعضهما، وتسهم بإرساء الأسس الصحيحة للتفاعل الإنساني بينهما.

كيلا يكون هناك داعٍ للقلق
إن واحداً من أهم الأسباب التي تدفع الأطفال إلى انتحال شخصيات غير شخصياتهم، أو قابليتهم للاستدراج والإغواء من الآخرين في غرف الدردشة، هو التنشئة الاجتماعية والأسرية المتسلطة التي تقمع الطفل وتمنعه من التعبير الحر والتلقائي عن ذاته وحاجته الطبيعية، الأمر الذي يدفعه إلى الخوض في الجانب المظلم من عالم الدردشة، فيصبح مهيئاً للانحراف النفسي والسلوكي أثناء مساعيه للتنفيس عن مكبوتاته داخل العالم الافتراضي الذي توفره تلك الغرف. وهكذا، فالتربية الأسرية القائمة على الثقة والصراحة والمكاشفة والإقناع، كفيلة بحماية الطفل من الانحراف السلوكي والاضطراب النفسي مستقبلاً، سواء في غرف الدردشة الافتراضية أو وسط أحداث الحياة الواقعية.

ليست المشكلة في الإنترنت أو التلفاز أو التلفون بحد ذاتها، ولكن في أسلوب استعمالها واستثمار الفوائد العظيمة التي تنطوي عليها هذه المخترعات. وهكذا يمكن للآباء والأمهات مراقبة أطفالهم في غرف الدردشة بطريقة غير مباشرة، عبر الاشتراك معهم بالدردشة في تلك الغرف بين الحين والآخر، للاطمئنان على طبيعة العلاقات والأحاديث التي يجريها أطفالهم، بطريقة لطيفة وغير ضاغطة عليهم، مع الاهتمام بإقامة علاقات إلكترونية معهم من خلال تبادل الرسائل والصور والمعايدات معهم، بما يضمن عدم انسحاب الطفل تماماً إلى عالم افتراضي محض بعيداً عن إطاره العائلي المشترك مع والديه وأخوته. ولا ننسى إن بعض الآباء والأمهات أنفسهم يسيئون استعمال غرف الدردشة، مقدمين بذلك نماذج سيئة لأبنائهم الذين قد يلاحظون سلوك آبائهم ويقلدونه!

أضف تعليق

التعليقات