تحفل علاقة الأهل بأطفالهم بشتّى أنواع الأسئلة. وعلى الرغم من أن هذه الأسئلة تظهر في سياق الأمنية الواحدة التي يمكن اختصارها بتوافر الأفضل للطفل، فإن الإجابات عنها تتعدد وتتضارب بدءاً بحجم الانشغال اللازم بالأطفال وصولاً إلى أهمية الدمى التي تقدم لهم. فماذا يحب الأطفال، وما هو المستوى السليم لانشغال أهلهم بهم؟
القافلة تعرض هنا لأربع وجهات نظر مختلفة من جدة وبيروت ولندن.
أيهما أهم في حياتك: الحقيقة، أم الجمال؟
سؤالٌ قد يبهت الكثير منا قبل أن يجيب عنه بتفصيل يليق بعمقه، ولكن جون دافيز لا يعترف بصعوبته؛ ولهذا يطرحه في هذه السنة كسؤالٍ لكل أطفال العالم، ضمن مسابقة فلسفة الأطفال الأمريكية (Kids Philosophy Slam) التي ابتدأها منذ العام 1998م. في موقع المسابقة على شبكة الإنترنت، تكشف الأعمال الفائزة في السنوات السابقة عن نسيج متنوع من التفكير، يجمعه فقط الاختلاف، وكأنما كانت أرضية المسابقة الافتراضية ممثلة عن قيم الحضارة التي تقبل الاختلاف بين ثقافاتٍ متعددة، كوسيلة للوصول إلى التناغم بين أجزائها.
إذن، ماذا لو تقدمنا بهذا السؤال، إلى معلمٍ من معلمي الصفوف الابتدائية، وسألناه عما إن كان ملائماً كي يطرحه على تلامذته؟
غالباً، سيكون الرد بالسلب، ولربما تطوع أحدهم وشرح لك بأنه وهو البالغ الراشد لا يستطيع الإجابة عن سؤال فلسفي كهذا بمثل هذه السهولة، فماذا عن طفل من الجيل الحالي، الذي لا ينشغل إلا بالبي بليد، وأبطال الديجيتال، والألعاب الإلكترونية.
ولكن، لن يتطوع أحد، كي يدافع عن الطفولة الغائبة بتفاصيل جمالها، والحاضرة بزخم اهتمامنا بها.
فلماذا نحصر أطفالنا في زاوية ضيقة، ولماذا نفسر عدم قدرتهم على الإبداع، ببساطتهم، ونصرُّ على تنميطهم، ونقدم لهم وجبات ثقافية جاهزة لنرغمهم على البقاء في صفوف متشابهة لا اختلاف فيها، ثم نعود لننعى على شبابنا عدم القدرة على الإبداع، وكأنما هذه القدرة وظيفة تنشأ من العدم حال مغادرة المرء لطفولته؟
لو تأملنا أكثر في حال الطفل العربي اليوم، وتركنا جانباً النظريات العامة لندخل في التفاصيل الحميمة لنشأته التي يكمّل بعضها بعضاً ليكون شاب الغد، لوجدنا في متن النصوص الأربعة الآتية إجابات تدهشنا في توافقها على رفض أكثر السلوكيات شيوعاً في علاقات الأهل بأطفالهم، وإضاءة على أسئلة غالباً ما يتم تلافيها بالهروب إلى النمطية والقوالب الجاهزة والرائجة لإدارة مثل هذه العلاقات.
قبل سنوات خمس، كنت تستطيع شراء كتب في أمريكا بعناوين مثل: كيف يكون طفلي موهوباً؟ أو علّم طفلك المهارات ليصبح موهوباً رغم أن كل الآباء يعتقدون بأن أطفالهم حديثي الولادة هم الأجمل والأذكى.
افتراضات المجتمع
لما يحبه الأطفال
فالي مرهج
إذن، ما دام طفلك هو الأذكى، لم عليه أن يتعلم كيف يصبح موهوباً؟
عندما ينمو الطفل، يبدأ والداه في إدراك أن طفليهما لم يكن أعجوبة، ويكتفيان بعدها بالتمني أن ينمو طفلهما بصورة طبيعية. لا بل أذكر ذلك الأب الذي يعمل أستاذاً في جامعة وقال ذات مرة: كل ما أتمناه هو ألا يصبح طفل من أطفالي مجرماً .
قبل قرونٍ مضت، لم يكن أحد يعتقد بأن الأطفال في سنواتهم المبكرة الأولى التي تسبق دخولهم المدرسة، قد يستجيبون لمؤثرات تحثهم على التعلم. وكان بيستالوزي أول عالم سلوكي يثبت قدرة الصغار في هذه المرحلة على ذلك.
وفي نهاية القرن العشرين، بدأنا بمحاولة حث الأطفال على التعلم المبكر. ولكن رغبتنا في أن يتعلم الصغار تخطت حدود المعقول، وبدأنا في المبالغة.
من يريد غرفة الطفل المطلية باللون الأزرق الفاتح ومزينة برسومات الدببة؟
الوالدان!
من يريد رداء النوم المزين برسومات ميكي ماوس لطفلنا؟
العمة!
من ابتاع الدمية الضخمة التي يصل طولها إلى متر ليكون للطفل مرافق في غرفة النوم؟
الجدة!
من ابتاع السيارة الإلكترونية التي تتحرك في أنحاء المنزل وتزعج الجيران؟
الجد!
هل يحتاج طفلنا إلى كل هذه الأشياء، ليتعلم؟ وليتعلم ماذا؟
..
وسائل الإعلام والإعلان ترينا الطريق إلى ما هو الأفضل لطفلنا. والأطفال يتعلمون ما هو الأفضل لهم عن طريق الإعلانات التجارية في التلفزيون!
ولكن، ما هو فعلاً الأفضل له؟ الأفضل لنموه ولتطور سلوكياته وفضوله ورغبته في التعلم وإبداعه، وحبه لوالديه وعلاقاته مع الآخرين؟
أين يستطيع الطفل تعلم كل هذه المهارات؟ من الغرفة الزرقاء ذات رسومات الدببة؟ من رداء النوم المزين بميكي ماوس؟ من حصوله على كل شيء يطلبه؟ من جلوسه أمام الكمبيوتر وتصفحه لشبكة الإنترنت من دون حدود؟
لماذا يجب عليه التعلم في المدرسة؟ طالما أنه يستطيع التعلم من الإنترنت؟
لأن ذلك يحوله إلى موهوب! ولكنه لا يتعلم مطلقاً بذلك ما الصواب وما الخطأ.
ما يحتاجه الأطفال؟
يحتاج الأطفال إلى عناية وإلى الأمان. هم يتعلمون من التقليد، ومن فعلهم للأشياء بأنفسهم، ولهذا، فعلى الآباء أن يمارسوا أمام أطفالهم كل ما يريدون أن يعلموهم إياه. وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الوالدان موجودين لأطفالهما، قادرين على أن يمنحوهم من الوقت الكثير.
يحتاج الأطفال إلى مكان هادئ وصحي للنوم، وليس مكاناً يزينه آباؤهم كما يريدون. يحتاجون كذلك إلى أكل صحي وطازج ليأكلوه، وكذلك يحتاجون مساحة واسعة والانطلاق في الطبيعة تحت أشعة الشمس، وفي الهواء الطلق، وأمام المياه كي يلعبوا ويتعلموا في آنٍ واحد. الطبيعة تعلم أطفالنا النظام والانسجام.
أطفالنا ينبغي أن ينموا، ومعهم تنمو أحلام وأمنيات.
هل نستطيع أن نعطي كل الأعمار كل ما يريدون؟
هل نستطيع أن نعطي الصحة لأمٍ تموت؟
هل نستطيع أن نعطي الأطفال المحيطين بطفلنا عواطف ليقبلوه بينهم؟
هل نستطيع أن نؤمّن مستقبل طفلنا، فنجد له عملاً، ونتأكد أنه سيعيش في سلام؟
على أطفالنا أن يتعلموا أن هناك أياماً مشرقة، وأخرى صعبة في حياتهم. عليهم أن يعملوا جاهدين للوصول إلى أيامهم المشرقة، وعليه أن يتعلموا كيف يتجنبوا الملل وكيف يجعلون حياتهم مثمرة. على أطفالنا أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، مخلصين، وعليهم أيضاً أن يهتموا بأمر الآخرين، لأن البشر لا يستطيعون العيش لوحدهم.
من ناحية أخرى، على الآباء والأمهات أن يتعلموا كيف يمنحوا الحب لأطفالهم، وكيف يعطوهم الوقت، ويمسكوا بأيديهم ليصاحبوهم إلى أي مكانٍ يذهبون إليه. عليهم أيضاً أن يتعلموا كيف يحاورون أطفالهم وكيف يصغون إليهم بانتباه، بآذانٍ منصته، وقلوبٍ مفتوحة لكل مشكلاتهم.
الأسرة المحيطة بالطفل من جديه وأعمامه وأخواله، وكذلك جيرانه ومعلميه هم مساعدو الوالدين في عملية نموه، كي يكبر الطفل في مجتمع محب وبنَّاء ويغدو طفل اليوم شاب المستقبل متحملاً لمسؤولياته، محباً لمن حوله، مبدعاً في عمله، صادقاً في تعاملاته.
في عصر القلق.. هل نحن
شديدو الانشغال بأولادنا؟
مها قمر الدين
هل سنظل نتحسّر على أيام زمان؟ ففي أيام زمان كان الأكل صحّياً أكثر وكان الإنتاج طبيعياً أكثر من إنتاج أيامنا هذه، وكانت الناس على درجة من البساطة والطيبة أعلى بكثير مما هي عليه أناس هذه الأيام، حتى الحياة نفسها كانت أقل تعقيداً وأكثر سلاسة من حياتنا الحاضرة.
ولكن هل يمكننا القول بأن تربية الآباء لأولادهم كانت أفعل وأكثر ملاءمة من التربية الحديثة، ومع ما لدينا من مدارس متطورة مجهزة بأفضل التجهيزات وكل سبل الاتصالات والمعلومات التي يمكن أن تفيدنا في مجال التربية، ونحن الذين نتمتع بدرجة عالية من العلم والمعرفة ؟ والجواب هو التأكيد على أن هناك نواحي عديدة كانت التربية فيها أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. فقد أصبحنا شديدي الانشغال بأولادنا، إذ أن هناك قلقاً يلازم الأهل في كثير من المواضع المتعلقة بأولادهم، مثل اختيار الحضانة والمدرسة المناسبة، وكيفية حمايتهم من المخاطر التي قد تصادفهم مثل القضايا المتعلقة بالعنف والمخدرات الخ..، وأيضاً تأمين كل ما هو حديث من ألعاب جديدة وحاسوب متطور وإنترنت إلى ما هنالك من أمور، ناهيك عن الحرص على إدخال الأولاد في نوادٍ ونشاطات لا مدرسية مثل الرسم والسباحة ولعب الكرة وشتى أنواع الرياضة.
يعود هذا الاهتمام المفرط إلى عدة أسباب تعرض إلى بعضها الدكتور اندرغ في كتابه قلق كل الوقت: التربية الزائدة في عصر القلق وكيفية وقفها .
والدكتور اندرغ هو معالج نفسي للأطفال وأستاذ في علم النفس في كلية بننغتون في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو يقول إن السبب الأول يعود إلى أنه مع تقدم المجتمعات وتطورها وازدياد مستوى التحصيل العلمي لدى الشباب، ارتفع عمر الزواج ممّا أدّى إلى نسبة عالية من الآباء الأكبر عمراً من آباء الجيل السابق. ومن الطبيعي أن يكون لدى هذا النوع من الآباء مستوى أعلى من النضج يولّد لديهم شعوراً بالمسؤولية والحرص على أبنائهم وتقديراً للأمور أكثر بكثير مما قد يحدث في سن أصغر. والسبب الثاني يعود إلى أنه بسبب الأحوال الاقتصادية المتأخّرة وكثرة متطلّبات الحياة العصرية، فقد صغر حجم العائلة من حيث عدد الأولاد إذ أصبح يقتصر إجمالاً، على ولدين أو ثلاثة لا أكثر. أما السبب الثالث فيعود إلى الانفتاح الإعلامي الهائل وكثرة وسائل الإعلام المتداولة التي طالما تسلّط الضوء على مشكلات قد تواجه أولادنا مثل العنف والمخدرات ومشكلات اجتماعية أخرى. وهذا ما أدى بالأهل إلى القلق والخوف وشعورهم بالحاجة إلى حماية أولادهم من كل تلك المخاطر.
نتائج عكسية للاهتمام المفرط
ولكن كل هذا الاهتمام قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى مفعول عكسي قد يضر بالطفل ويولد لديه الشعور بالاتكالية وعدم المقدرة على التقدم ومواجهة الحياة بمشكلاتها ومصاعبها المتوقعة. فبهذه الحماية المفرطة نكون قد منعنا طفلنا من خوض تجارب يمكن أن تمدّه بكثير من الفائدة، جرّاء الخبرة التي تقدمها له مما يؤدي إلى تعزيز ثقته بنفسه. أما المحاولات الكثيرة لإشراك الطفل في نشاطات قد لا يكون له الاهتمام بها وشراء الألعاب الكثيرة له أساساً لمجرّد الظن أنها ذات فائدة وأنها تؤدي إلى زيادة معارفه وزيادة دائرته الاجتماعية وتساعده على تمضية وقته، فإنّه يؤدّي في كثير من الأحيان إلى تحطيم مقدرة هذا الطفل نفسه على استخدام مخيلته من أجل ابتكار ألعاب قد تعطيه المتعة والتسلية والإفادة الضرورية له.
ولهذا السبب، نجد أن الملل والحيرة فيما يفعل الولد في أوقات فراغه يتسربان إليه، مما يؤدّي به إلى التذمر لدى أهله بأن ليس لديه ما يلعب به. وهذه مشكلة متفشية جداً بين أولاد اليوم ويتذمّر منها معظم الآباء، من دون أن يعلموا أنهم هم أنفسهم قد أسهموا في خلق هذا الشعور السلبي لدى أطفالهم.
إلا أن هذا يجب ألا يدفعنا إلى القول بأن نترك الأولاد كي يطوّروا أنفسهم بأنفسهم، وعدم الاهتمام بهم هو الحل. ولكن الحل هو الاهتمام المعقول وتنشئة الأطفال في جو من الاعتدال والحرية. فبدلاً من الحماية المفرطة ومنعهم من خوض تجارب الحياة بمعظمها يمكننا أن نرسم حدوداً لهم قابلة للتعديل مع تقدمهم في العمر. وهذا ما أشار إليه باحث اجتماعي آخر هو جيم تايلر في كتابه الدفع الإيجابي: كيف ننشئ طفلاً ناجحاً وسعيداً ؟ .
يقول تايلر ما ملخّصه إنه بما أن قلة الخبرة لدى الأطفال لا تمكنهم من التمييز ما بين ما هو خطر وما بين ما هو آمنٌ، بل إن فضولهم الطفولي قد يدفعهم إلى وضع أنفسهم في مواقف ليس لهم القدرة على التحكّم بها مما قد يجرهم إلى تجارب فاشلة قد تخلق لديهم العقد النفسية وتضع أمامهم العقبات في المستقبل، الأمر الذي قد يعوقهم في الاندفاع وتحقيق الأهداف. لهذا يجب أن ندفع التجارب أولاً تحت إشرافنا ومراقبتنا، فمثلاً عند زيارة أية حديقة عامة قد يعطي الأب لطفله بعض النقود لشراء الحلوى من كشك قريب ويظن الفتى أنه بمفرده ولكن الأب يراقب من بعيد. يعتقد الطفل أنه قد أتمّ المهمّة بمفرده وتكون هذه التجربة قد أعطته الثقة بقدرته على الاكتشاف وإنجاز الأمور بنفسه. وهكذا، كلما ارتاح الطفل في الحدود التي وضعناها له كلما اضطررنا إلى مراجعة الحدود وتوسيعها قليلاً من أجل إعطاء الفرصة له لخوض تجارب جديدة واكتساب الطاقات والمهارات الضرورية.
وهكذا, بدلاً من أن نرهق أنفسنا وجيوبنا أيضاً في شراء الألعاب الكثيرة وعناء إشراك أطفالنا في النشاطات المختلفة التي قد تدفع بنا إلى أن نقضي قسطاً كبيراً من وقتنا في العمل كسائقين نقوم بخدمتهم، يمكننا أن نسترخي قليلاً ونأخذ الأمور ببساطة أكثر ونترك أولادنا يلعبون بمفردهم أو مع إخوتهم أو مع أصدقائهم؛ لأنهم قادرون على ابتكار ألعاب يمكن أن تنمّي لديهم مخيلة واسعة وتحثّهم على اتخاذ المبادرات والقرارات هم بأنفسهم بدلاً من أن نأخذها نحن إنابة عنهم. وهذا ما قد يساعدهم في التحكّم بحياتهم المستقبلية وتقرير مصيرهم في وقت يمكن ألاّ يجدونا نحن بجانبهم.
اختيار اللعبة..
مسؤولية
رياض ملك
هذا العام كما في كل عام، ستصرف الملايين في البلدان الغنية كما في الفقيرة، على لعب الأطفال من جميع الأشكال والألوان والأنواع ولمختلف الأعمار. ملايين أخرى ستصرف على تزيين غرف الأطفال من ورق جدران، وصور، ودمى، وديكورات.
وفي كثيرٍ من الدول، نجد أن من النادر أن يشترك الأطفال، من تصرف هذه الملايين لأجلهم، في اتخاذ القرار المتعلق باختيار الألعاب أو زينة الغرف، سواء لاعتبارات السن أو لرغبة الأهل في مفاجأة الطفل بما اشتروه له. ولكن، هل قرارات الوالدين والأقرباء دائماً صائبة في اختيار ألعاب الأطفال؟ هل نعرف فعلاً ما يحب الطفل أو ما يناسبه، أم أننا لا شعورياً نختار من الألعاب ما نفترض من دون تمحيص أنها توافق هوى الطفل، لمجرد ألوانها الجذابة وبهرجة أشكالها؟
ألعاب، وقوانين
بفضل الأبحاث التي أجريت في الخمسين سنة الماضية حول سيكولوجية الطفل، فإن ما نعرفه اليوم عن الطفل واهتماماته هو أكثر بكثير مما كان يعرفه أجدادنا وأجدادهم، ويتضمن ذلك الأبحاث التي أجريت حول اللعب والألعاب والتي تساعد الوالدين على تلمس طريقهم للوصول إلى خيارٍ سليم يراعي مصلحة الطفل واهتماماته، ويساعد في نموه الجسدي والنفسي والإدراكي في الوقت نفسه.
فقد أجمع الباحثون على أن اللعب يشكل الباب الواسع الذي يدخل عبره الطفل إلى عالم معرفي ينمي فيه قدراته العقلية ويكتسب الخبرات الاجتماعية. ولهذا، اهتم الباحثون بإصدار توصيات عملية للمربين تتضمن كيفية اختيار الألعاب والنشاطات لأطفالهم، ومن أهمها أن يراعي المربي في اختياره للعبة سن الطفل ومرحلة نموه، فاللعبة المبسطة التي لا تتحدى ذكاء الطفل تصرفه عنها وتتسبب في ملله، بمقدار ما تحبطه اللعبة المعقدة التي تتجاوز صعوبتها قدراته العقلية أو الجسدية في تلك المرحلة.
وينصح الباحثون أيضاً بأن تكون اللعبة المختارة بنّاءة وذات استعمالات متعددة؛ لأن مثل هذه الألعاب تساعد الطفل على تنمية مهاراته الطبيعية بالإضافة إلى كونها مسلية، فمثلاً طفل السنتين يفضل الألعاب التي يستطيع أن يرى في نهايتها ثمرة لعبه، كالمكعبات التي يستطيع من خلالها بناء أشكال مختلفة من البيوت والقلاع، أما تلك الألعاب التي تكرر نفسها في كل مرة كتلك التي تضيء كلما ضغط الطفل على زرٍ معينٍ فيها، فإن الطفل يفقد اهتمامه بها بسرعة نظراً لمعرفته بنتيجتها سلفاً.
ويوصي الباحثون المربين بالالتفات إلى عاملٍ قد يعتبره الكثيرون بديهياً ولهذا لا يمنحوه كثيراً من الاهتمام، وهو أن تكون اللعبة آمنة، خاصة بالنسبة للأطفال في السنوات المبكرة من عمرهم، فهناك دمى رخيصة الثمن لا تتوافر فيها شروط الأمان والسلامة وقد تتسبب في مآسٍ حقيقية يمكن تجنبها، أو تلك الألعاب التي صنعت خصيصاً للأطفال فوق سن الثالثة، وتُكتب الفئة العمرية المناسبة للعب بها ضمن الإرشادات التي تتضمنها، ولكن الآباء لا يلقون بالاً إلى هذه النصيحة فتكون العاقبة وخيمة.
والنصيحة الأخيرة التي يتفق عليها الجميع هي أن ينظر الوالدان إلى اللعبة بعيون الطفل لا بعيون البالغين. فهناك لعب معقدة في تركيبها، لا يمكن للطفل أن يستخدمها بمفرده. ومن المفيد في سنوات الطفولة المتأخرة أن يشارك الطفل في اختيار ما يريده من الألعاب، أو أن يعطى خيارات محددة؛ لينتقي منها، ضمن ميزانية الأسرة، فهذا لا يضمن للأسرة أن الطفل راضٍ عن لعبته فقط، وإنما ينمي لديه أيضاً القدرة على اتخاذ القرار، ومعرفة اهتماماته الشخصية، وكذلك تحمل مسؤولية قراراته.
وفي النهاية، لابد للأهل من أن يتذكروا أن الأطفال كالراشدين، لهم شخصيات مختلفة، فما قد يبدو مسلياً ومثيراً لاهتمام طفلٍ ما، قد يبدو مملاً ومعقداً لطفلٍ آخر، وقد لا يلتفت إليه، لذلك فإن عملية اختيار الألعاب يجب أن تُبنى على متابعة الأهل عن قرب لأطفالهم للتعرف المبكر على شخصياتهم ومدى اختلافها. والأهم من هذا كله هو إدراك الأهل أن اللعبة يجب أن تكون دليلاً على محبتهم للطفل لا بديلاً عنها، فالطفل يدرك بغريزته إن كانت هدية الأهل تهدف إلى إبقائه مشغولاً عنهم، أو تعبيراً عن اهتمامهم ومحبتهم له، والفارق بين هذا وذاك، كبير.
ألعاب وأفكار..
فاطمة الجفري
أليس من الغريب ألا نجد في حديث علماء سيكولوجية الطفل، من يوصي بباربي وعائلتها، أو بالأنواع المختلفة من الدببة التي تغرق غرف أطفالنا بسيولها، أو بأي من الأنماط التي تسود لفترة في ثقافة الطفل المعلبة؟ ألا تخطر باربي أو صورة التيدي بير برأس غالبية من يسمع عن لعب الأطفال؟ لربما كانت هناك زوايا أخرى ينظر إليها الباحثون، تختلف عن الصورة البسيطة لروعة باربي أو براءة التيدي بير.
الدببة و.. بدائل أخرى !
ماذا نتوقع أن نجد في غرفة طفلٍ في الخامسة من عمره، يعيش في جدة مثلاً؟! دببة، ودببة، ودببة.. فوق الرفوف، وبجانب السرير، وتحته، إن لزم الأمر!
إن عدنا إلى الجانب النظري مما يقوله الباحثون، فإن اللعب هو الطريقة المثلى للطفل، كي يتفاعل مع بيئته، يعرف عنها أكثر، ويفهم ما حوله ومن حوله بطريقة أفضل. ماذا سيكون رد باحثة ككارولين برات، التي أمضت عمراً بأكمله في التعلم عن نفسية الطفل عن طريق ملاحظة الأطفال يلعبون بالمكعبات الخشبية، إن وجدت مثل هذه الأكوام من الدببة، بدلاً من المكعبات التي تفترض أنها وحدة اللعب الأساسية؟ ففي مدرسة City Country School في نيويورك، والتي أسستها هذه الباحثة في أربعينيات القرن الماضي، يتعلم الأطفال من سن الثانية وحتى الثامنة في مراكز للعب تعتمد أساساً على المكعبات الخشبية. ولا يتعلق الأمر بمجرد وجود دب أو اثنين في متناول يد الطفل فهذا يضفي تنوعاً على نوعية لعبه، ولكنه يتعلق بسيطرة مثل هذه اللعبة البسيطة على بيئة الطفل، كمثال على تبعية الأهل أحياناً للأنماط السائدة في لعب الأطفال، دون أن يضعوا في الاعتبار أهمية اللعبة كرمز أصيل من البيئة المحيطة. كيف نستطيع أن نعلم الطفل كيفية التفاعل مع بيئته والمجتمع المحيط به، إن نحن قدمنا له رمزاً وحيداً كالدببة مثلاً لا يجده إلا على شاشة التلفزيون أو في حديقة الحيوانات، وتركنا ما ينصح به الباحثون في الكتب المتخصصة بسيكولوجية الطفل، أو حتى تلك التي تختص بتصميم غرف الأطفال، كالمكعبات والأحصنة الخشبية؟
لنأخذ مثلاً، الحصان الخشبي كرمز تقليدي ضمن منظومة متعددة الرموز نحيط بها الطفل كي نحرره من قيد النمطية، فالحصان الخشبي يمثل تجسيداً لثقافة عربية نحرص على زرعها في نفوس أطفالنا، ويستطيع أن يقدم للطفل مساحة واسعة من اللعب التخيلي الذي تختلف نتيجته ونوعيته في كل مرة يمارس فيها، والطفل هنا هو مصمم الديكور، والممثل، والكاتب، والمخرج، وصانع القرار، وهو مع كل هذا وذاك، فارسٌ لا يشق له غبار، فأية تعددية تقدمها لعبة كهذه؟ وفي الوقت نفسه، فإن الألعاب الخشبية أياً كان شكلها، تنمي الجانب الحسي لدى الطفل؛ لأنها تقدم سطحاً مختلفاً عن الأسطح البلاستيكية المتشابهة، وقد تنتقل من ملكية جيل إلى جيل آخر في نفس العائلة مع احتفاظها برونقها وعوامل جذبها للطفل.
قليلاً من التعددية
ربما يستطيع القارئ أن يراها معي.. فتاةٌ جميلة لا تتجاوز السابعة، بعيونٍ سوداء كحيلة، وسمارٍ عربي أصيل، تحاور ألوانها الخشبية كراس تلوين ما.
نقترب أكثر، لنرى بعضاً من صفحات كراسها.
في دفتر التلوين، نجد فتيات لوّنت شعورهن باللون الأصفر الفاتح، وعيونهن بالأزرق أو الأخضر. نقلب الصفحات، نحاول أن نجد فتاةً بعيونٍ سوداء كحيلة، أو سمار عربي أصيل، فلا نجد.
أهؤلاء من يفترض بفتاة السابعة أن تتوحد معهن، وترى انعكاساً لصورتها في صورهن؟
لنترك دفتر التلوين، ولنبحث في خزانة ألعابها عن دميتها المفضلة. لتكن باربي، أو غيرها، ليست هذه القضية، ولكن ما يخشى منه أن تمتلئ خزانة ألعابها بدمى على نمط باربي، عارضة الأزياء الحسناء ذات الجمال الملون، ثم، نطلب من فتاتنا السمراء، أن تحافظ على صورة جسمها من الاختلال، وأن ترضى عن صفاتها وترى الجمال فيها، بدلاً من التوحد مع دمية تراها مثالاً للجمال، وتدرك جيداً مع هذا أنها تختلف عنها في صفاتها الجسمانية كل الاختلاف.
بينما لا نلتفت كأهالي إلى وجوه جديدة ظهرت على ساحة الدمى العربية، منها تلك العلامة المشهورة على قنوات التلفزيون الكرتونية، والتي تشبه في صفاتها الخارجية وتصرفاتها الفتاة العربية.
لا نستطيع أن نمنع الأماني الخفية من أن تولد بداخل تلك الفتاة التي لم يقدم لها سوى نموذج واحد للجمال الملون. لم لا يكون شعري أشقر، لم لا يكون أنعم؟ لِمَ لَمْ أكن بيضاء البشرة، لم، ولم، ولم؟
هناك الكثير من الدمى التي تشبه صفاتها صفاتنا، وفيها جمال وإبداع قد لا نراه في النسخ المتكررة عن باربي وأخواتها. لم لا نضع تلك الدمى، بجانب تلك الدمى الملونة، ونمنح طفلتنا الصغيرة، فرصة في أن ترى أن للجمال أشكالاً متعددة، منها جمالها هي؟
لكل جيل، ثقافة مختلفة يعتز بالانتماء إليها، ولكن البعض يظن أن للطفولة ثقافة واحدة لا تتغير بتغير الزمان، فما زالت بعض القصص والبرامج الموجهة إلى الطفل تتعامل معه على اعتبار أن طفل التسعينيات كطفل القرن الواحد والعشرين، كطفل الثمانينيات والسبعينيات.. لا مشكلة. والواقع النظري والعملي يصر على أنها مشكلة، فالأبحاث تشير إلى أن مفهوم الصداقة ومدلولاتها يبدأ في التكون عند التحاق الطفل بمرحلة رياض الأطفال، وببلوغ الطفل السابعة، يكتمل فهمه لمعنى الصداقة، ويشعر بالنقص إن لم يكن لديه على الأقل صديق واحد من نفس المرحلة العمرية، وكيف لطفل السابعة أن ينشئ علاقة صداقة مع طفل آخر، أو مع جماعة، إن لم تكن لديه الثقافة ذاتها بمفرداتها وخبراتها ليتشاركها مع الآخر؟
والقارئ ربما يستطيع تذكر ثقافة الطفولة الخاصة به، من أغانٍ كان يكررها مع أصدقائه في الحي الواحد، وألعاب تقليدية، وخبرات في المناسبات الخاصة كالأعياد وغيرها. ثقافة الطفل اليوم تختلف، فأصدقاء الحي قليلون نظراً للانعزالية التي تعيش فيها أسرة اليوم، وأغاني الطفولة امتزجت مع المد الغنائي القادم من كل مكان، ودخلت أشكال جديدة للترفيه في المناسبات الخاصة لتقل رويداً رويداً أهمية العائلة والتقاليد القديمة. انتماء الطفل لثقافة أقرانه اليوم أصبحت تعتمد نسبياً على ما إذا كان الطفل خبيراً بالألعاب الإلكترونية، مطلعاً على المسلسلات الكرتونية الحديثة، وقادراً على أن يمثل في آنٍ واحد دور الطفل والبالغ، لأن الحدود بين تصرفات الطفل والشاب المراهق بدأت تقل تدريجياً بدعوى أن طفل اليوم يختلف.
في الحين ذاته، لا تزال مفردات الحضارة الحديثة غائبة نوعاً عن الخطاب الإعلامي العربي للطفل، فالمهرج الذي تغطي وجهه المساحيق لا يزال يستعمل المواقف المسرحية ذاتها التي لا تعتمد على الحبكة بقدر ما تعتمد على السخرية من غباء المهرج. ففي استفتاء وزع على عينة من طالبات دار الحكمة اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين ثماني عشرة واثنتين وعشرين سنة، أجاب 80 في المئة من العينة سلباً عن السؤال إن كن أعجبن بالمهرجين في طفولتهن، وذلك لأن عروض المهرجين التي قدمت لهن كانت مملة وخالية من الإثارة. أما بعض البرامج التلفزيونية الحية الموجهة إلى الطفل فتقدم مهرجاناً من الألوان التي بكثرتها تشتت انتباه الطفل، وتمنعه من التركيز، هذا بالإضافة إلى سيرها في خط مرسوم سلفاً يطلب من المشاركين الطاعة الخالية من التلقائية على عكس نمط الترفيه الذي تجده الطفولة في ثقافتها اليوم.
فالخطاب الإعلامي في مسلسلات الكرتون المدبلجة باللغة العربية، مثلاً، وحتى الألعاب الثلاثية الأبعاد في الألعاب الإلكترونية، تقدم ثقافة رقمية مختلفة، فهي تقدم العنف المبالغ فيه جنباً إلى جنب مع مفاهيم الحق والعدالة، وبدلاً من القصص الإنسانية التي كانت تعزف على أوتار براءة الطفولة في أجيال ماضية، أصبح الإعلام يعزف على إثارة مشاعر الغضب وتبرير العنف بالرغبة في استعادة الحقوق المهدورة، والتركيز على القدرات الجسدية الخارقة كمرادف للقوة والشجاعة.
وبمتابعة بعض هذه المسلسلات والألعاب، يجد المرء نفسه وقد بهرته المناظر المصممة ببراعة، ولكنها لا تعوض فقر القيم والمعاني الإنسانية. وطفلنا الذي يبهره الإبداع المرئي، هو ذاته الطفل الذي يتأثر من الأعماق لرؤية منظر إنساني في مشاهد رواية كلاسيكية من مسلسلات الكرتون القديمة. إذن، هل الحل في أن نمنع عن تلفزيوناتنا المسلسلات الكرتونية المدبلجة التي أنتجت حديثاً، ونكتفي بذات الثقافة التي تربينا عليها قبل عقود، ونمنع عن أطفالنا تعلقهم بالألعاب الإلكترونية، ونجبرهم على الاكتفاء بالحصان الخشبي مثلاً بدلاً من المركبة الفضائية أو سيارة السباق الحديثة؟ الحل، رغم إغرائه، ليس حلاً عملياً، وليس في مصلحة طفلنا العربي أن يظل في قوقعة محمية، بدعوى حمايته من خطاب قد نراه مشوهاً ولا يخدم مصلحته. الحل، في الموازنة، بين ما نريد لأطفالنا، وما يريده أطفالنا، وما تقدمه أدبيات العولمة لنا. مساحة لمسلسلات الكرتون الحديثة، ومساحة للألعاب الإلكترونية، وفي الوقت نفسه، مساحة للعب التقليدي، ومساحة للحوار الحميم مع الأهل، ومساحة لرواية القصص الإنسانية التي تبني جنباً إلى جنب قيم الرحمة والإحساس بالآخر بالإضافة إلى قيم الحق والعدالة.