طاقة واقتصاد

الأزمة المالية العالمية..
ماذا علَّمتنا؟

  • 18 (sara_03)

عند بدايات الأزمة المالية العالمية انصبَّ اهتمام وسائل الإعلام ومن خلفها الرأي العام العالمي على متابعة أخبارها المباشرة والمثيرة، والجهود المبذولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما اليوم، وبمرور سنة كاملة على بداية هذه الأزمة، فقد آن الأوان لاستخلاص العِبَر والدروس علَّ في ذلك ما يساعد العالم على تلافي أزمة مماثلة في المستقبل.
الدكتور فكتور سحَّاب، يعرض بعض الدروس المستفادة من وجهات نظر مختلفة، ربما تكشف قراءتها بعمق، أن الخبراء ما زالوا منفتحين على البحث في أي درس جديد، خاصة وأن الأسباب العميقة للأزمة
ما زالت موضع مراجعة.

اعرف الأسباب الحقيقية، تجد الحلول السليمة!
لكن المشكلة هي أن العارفين يختلفون في تشخيص الأسباب الحقيقية التي تعزى إليها أزمة المال العالمية.
وإذا أسأنا تفسير أسباب مشكلة ما، أسأنا قطعاً الاستفادة من دروسها.

لقد دعا بعض الكتَّاب إلى إلغاء وظيفة خبراء الاقتصاد، من دنيا الأعمال والمؤسسات الرسمية والأكاديمية؛ لأن هؤلاء «الخبراء» فشلوا في توقّع الأزمة المالية الكاسحة. بل إن بعض هؤلاء الاقتصاديين أثاروا الحنق الشديد، لأنهم لم يتوانَوا، بعد وقوع الأزمة، عن وضع نظاراتهم بوقار العارفين على أطراف أنوفهم، لينظّروا فيما حدث، ونسوا، ونسي معهم خلق كثير، أنهم فشلوا للتو في تشخيص «التسونامي» المالي، وهو ينذر بالاجتياح المدمّر.

فما هي الدروس المستفادة، أو تلك التي يدور الحديث عنها في المقالات والأبحاث والآراء التي يدلي بها «الخبراء»؟ هنا محاولة لرصد ما قيل في تفسير الأزمة.

مدرستان بفروع عديدة
ينقسم مفسرو الأزمة المالية التي عصفت بالعالم، إلى مدرستين مهمتين، وإن تفرع من هذين القسمين فروع تتباين في تفصيل أو آخر. فقسم يقول إن الخلل كان في تقنية عمل النظام المالي الأمريكي، والضوابط التي بدأت تزال في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان. ومن هؤلاء من حصر الخلل في «جشع» مؤسسات الإقراض للرهن العقاري، وقد تضخمت أعمالها في سنة 2006م إلى درجة خطرة، ثم انفجرت فقاعتها.

أما القسم الثاني من المفسرين، فينظر إلى الأمر نظرة تاريخية أوسع وأعمق، مثل أندرو باسيفتش أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ في جامعة بوسطن، أو مثل بول كريج روبرتس نائب وزير المال في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، أو جوزف ستجلتز الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد. هؤلاء، يقولون إن الأزمة مؤشر إلى شيخوخة الدولة العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية، من جراء بدء انتقال مركز الثقل الاقتصادي والصناعي والتقني والمالي نحو الشرق، أي الصين والهند وروسيا، بل الكتلة العربية في الخليج أيضاً، وكذلك إلى الجنوب الأمريكي، لا سيما البرازيل.

تقنية أسواق المال
يؤسس أصحاب هذه النظرية تفسيرهم على القول إن البداية كانت في فقاعة سوق المال العقارية، التي انفجرت في 2007م، وأدت إلى تساقط أحجار الدومينو المالية والمصرفية، في تسلسل مدمّر. فما هي قصة هذه الفقاعة؟

من سنة 2000 إلى سنة 2003م، خفض الاحتياط الاتحادي الأمريكي نسبة الفائدة من 6.5 إلى %1. وبين سنتي 2004 و2006م، كانت نسبة فائدة سندات الخزينة الأمريكية متدنية جداً، وكذلك بالطبع نسبة الاقتراض من المصارف. وفي مثل هذه الحال يتشجع الناس على الاقتراض، وتكون السيولة النقدية وفيرة في الأسواق. أخذ الناس إذن يقترضون، ولا سيما في العقارات، وسهّلت المصارف شروط الاقتراض، فيما سُمّي بالإنجليزية «Subprime «Mortgage (الرهن العقاري بفائدة أقل). وتعني هذه الصيغة، أن المصرف مستعد لإقراض المقترض من دون أن يسأل عن راتبه أو أن يرهن هذا الراتب، أو يرهن أي أملاك يملكها، ففي الحالات العادية يكون هذا الرهن ضمانة للمصرف يستولي عليها، حين يخفق المقترض في دفع أقساط الدين. ومن صيغ هذا الأسلوب، صيغة سميت بالإنجليزية «Adjustable Rate Mortgage» (رهن عقاري بفائدة متحركة). وهي صيغة الفائدة فيها أولاً ثابتة ومنخفضة، ثم تُعَدَّل وفق حركة نسبة الفائدة بين المصارف (Libor)، ثم وفق هامش مطّاط، يستند إلى عوامل سوق المال الأخرى غير الثابتة.

بين 2004 و2006م، ازدهرت حركة الاقتراض العقاري ازدهاراً وصفه البعض بأنه جنوني، وكان يمكن للمقترض أن يستدين ثمن بيته %100 كاملاً، من دون أن يسأله المصرف المقرِض، لا عن دخله ولا عن راتبه ولا أي سؤال آخر: اطلب قرضاً تأخذ قرضاً، بهذه البساطة!

كان هذا جانباً يُبيحه ما سُمّي «Deregulation» (أي تيسير النظم ، أو إزالة الضوابط)، منذ عهد رونالد ريجان، وفق فلسفة: دع السوق تعمل. لكن هذا مخالفة صريحة لمنطق الرهن العقاري، بل للعمل المصرفي السليم، غير أن المصارف لم تأبه للأمر لأن الربح بدا لها مضموناً، فالبيت الذي يشتريه المقترض يملكه الشاري إذا سدد قرضه، ويتملكه المصرف إذا لم يسدد. وفي الحالين، يكسب المصرف «win win deal»، مثلما يقول الأمريكيون. ثم إن كثيراً من المصارف كانت تؤمّن نفسها من الخسارة لدى شركات التأمين، التي أخذت بدورها تتوسع في تسهيل الأمر بحماسة غير متبصرة، وهي تظن أن المخاطرة بعيدة.

زاد سعر المنزل الأمريكي المتوسط بين 1997 و2004م، %124. وفي العقدين المنتهيين في 2001م تضاعف السعر بين 2.9 مرَّة و3.1 مرَّة، ثم 4 مرَّات في 2004م و4.6 مرَّة 2006م. وكان هذا حافزاً قوياً ليدفع الشاري نسبة فائدة عالية، لأن ثمن بيته المتعاظم يعوّضه من هذه الزيادة. وفي 2007م، بلغت نسبة الدَّيْن المترتب على المقترضين، %127 من مجموع دخلهم. ولم يكن ذلك يقلقهم.

لكن الذي حدث أواخر 2006 وفي 2007م، هو أن
نسبة فائدة سندات الخزينة والمصارف بدأت ترتفع، وهبطت أسعار المنازل، فصار الاقتراض صعباً، وارتفعت في الوقت نفسه نسبة فائدة الرهن العقـــاري المتحــــركة، فصار سداد الأقساط أصعب.

وكانت مئات المليارات من الدولارات في الساحة، ولذا ما إن تخلف بعض الناس عن السداد، وبدأت المصارف تتشدد، حتى تعاظمت كرة الثلج، وتبخّرت الثقة فجأة من السوق، وتسارعت الأمور، فانتشر الذعر الذي بدأ بين المقترضين، ليصل إلى المقرضين أنفسهم، ثم إلى شركات التأمين، وانهار قصر الورق في مشهد لا يصدَّق. فالمصرف الذي كان يمنّي النفس في أسوأ حال، بالاستيلاء على البيت إذا تخلف المقترض عن السداد، لم يعد يرغب بهذا البيت، حين صار ثمنه أقل من مبلغ القرض نفسه، فخسر مال الأقساط، وخسر العقار نفسه. الإفلاس إذن «أحسن» الحلول.

وبلغ التزام المصارف الأمريكية الكبرى في سنة 2007م، 4.1 تريليونات دولار، أي نحو %30 من مجموع الناتج القومي الأمريكي. فلما انفجرت فقاعة العقار، صفيت شركة ليمان براذرز، وبيعت شركتا بير ستيرنز وميريل لنش، وجميعها في الصف الأول من شركات المال الكبرى في العالم. وتحولت جولدمان ساكس ومورجان ستانلي إلى مصارف تجارية، لتخضع نفسها لقيود شديدة، هرباً من التصفية. واستفادت جميع هذه الشركات، باستثناء ليمان براذرز، من دعم حكومي. ومع تورط كثير من مصارف العالم الأجنبية في الاستثمار العقاري داخل الولايات المتحدة، انتقلت الأزمة على نحو مباشر إلى مصارف أجنبية في كثير من أنحاء العالم.

الاقتصاد «الوهمي»
ثمة خبراء يذهبون أبعد من هذا في التفسير، فيتحدثون عن الاقتصاد الوهمي، أو الاقتصاد الورقي. ويعزون الأزمة إلى تضخم هذا الاقتصاد. فما هو؟

يرى هؤلاء أن الاقتصاد الحقيقي، هو الاقتصاد الذي يتعاطى تبادل سلع حقيقية، في الوقت الحقيقي، أي: بائع يعطيك السلعة ويتقاضى منك ثمنها. في هذا «الاقتصاد الحقيقي» تدرج أربعة قطاعات: الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات. أما «الاقتصاد الوهمي»، أو الاقتصاد الورقي، فهو اقتصاد بدأ يظهر تدرجاً، مع ابتكار «منتجات» مصرفية أو مالية تخطت مبدأ: السلعة مقابل الثمن.

ففي العقود الحكومية ظهرت منذ سنوات عقود سميت «BOT»، وهي أحرف تختصر العبارة الإنجليزية «Build, Operate, Transfer»، أي انشئ واستغل ثم سلِّم. وفي هذا النظام مخاطرة اقتصادية في المجهول، لأن الشركة لا تعرف تماماً كيف ستكون الحركة على هذا المشروع في سنوات الاستثمار. لكن أمر المخاطرة ظل محصوراً بين فريقين: الشركة والدولة.

ثم ظهر نظام آخر سُمّي: التسنيد، وفيه أن شركة ما تشتري خدمات البريد مثلاً من الدولة، فلنقل 20 سنة، وتتولى هي استغلالها هذه المدة. وبذلك تحصل الدولة على دخل البريد سلفاً ثمناً للعقد، في مقابل أن لدى الشركة احتمال زيادة ربحها على المبلغ المدفوع للدولة. وفي هذا النظام أيضاً، ظلت المخاطرة محصورة بين فريقين: الشركة والدولة.

توسعت أفكار خبراء المال، وتفتقت عن «منتجات» مصرفية ومالية بدت مغرية، كان منها ما سمي: العقود الآجلة (Futures). ففي إمكانك في هذا النظام، أن تجلس في بيتك، وأن توكل إلى شركة مضاربة في سوق المال، أن تستثمر مالك في شراء الأسهم والسلع وبيعها.

وحتى نبسط الأمر، لنقل إنك تملك 10 ملايين دولار، وتريد استغلالها. فتتصل بعميلك في سوق المال، وتسأله: كم سعر برميل النفط اليوم؟ فيقول لك: 70 دولاراً. تقول له: اشترِ 100 ألف برميل. أنت غير مهتم لا بشراء النفط ولا ببيعه، وفي الأساس، يعقد عميلك عقد الشراء هذا على أن تتسلَّم النفط بعد ثلاثة أشهر مثلاً. في اليوم التالي، تسأله: كم البرميل اليوم؟ فيقول لك: 73 دولاراً، فتقول له: بِع المئة ألف برميل، فيبيع، وتكون قد ربحت بين ليلة وضحاها 300 ألف دولار، من دون أن تتسلَّم النفط أو تسلمه. بل لو فرضنا أنك لا تملك أي مال، لكنك تعرف لعبة الأسواق، وصدف أن كان مدير أحد المصارف صديقاً لك. فيمكنك عندئذ أن تحصل من صديقك هذا على ائتمان مصرفي يمكّنك من المضاربة وكسب الملايين، من دون رأسمال. أي انك تستطيع المخاطرة بأموال المودعين، من دون علمهم. على هذا النسق، «اكتشف» المضاربون أساليب الربح التي ترفع أسعار السوق وتنزلها، بعيدأً، في كثير من الأحيان، عن قاعدة العرض والطلب، وعن التجارة «الحقيقية». فلا نفط بيع ولا نفط اشتُري، بل ورقة عليها تعهد ما، ذهبت من يد إلى يد.

الخطر في هذا أن المئة ألف برميل التي اشتريتها ثم بعتها، ربما تداولتها 50 يداً، فانتقلت من مضارب إلى آخر في غياب السلعة نفسها، وترتب على هذا خسائر وأرباح تفوق قيمة السلعة الحقيقية أضعافاً مضاعفة، على نحو نفخ قيمة حركة السوق، دونما زيادة في الإنتاج.

لقد نشأت ثروات طائلة «وهمــــية»، في اقتصاد «ورقي» قائـــــــم على المضــــاربة وحــــدها، فأصبح حجم الاقتصاد «الوهمي» الأمريكي في سوق المــال، أضــــــعاف حجـــــم الاقتصاد الحقيقي، أي حجم الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات. وفي سنة 2000م، انفجرت فقاعة شركات الصناعة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات، فهرب الناس من القطاع، ليضاربوا في مكان آخر ظنوا أنه آمن: العقار. فالعقار في الحساب التقليدي، قطاع آمن لأنك تشتري بيتاً أو عقاراً، حقيقياً لا وهم فيه. حتى أن اسم العقار بالإنجليزية هو «Real estate» أي الأملاك الحقيقية. لكن فيروس العقود الآجلة واقتصاد الورق دخل في سوق العقار، وأخذ التجار يبيعون بيتاً لم يُنشأ بعد، بل لا يزال على الورق. وأخذت أسعار العقار ترتفع، والمضاربة تشتد، والجالسون في بيوتهم يبيعون ويشترون عقوداً آجلة. ودخلت المصارف في اللعبة، وتوسعت في الإقراض… إلى آخر القصة.

هذه المرة، كان انفجار الفقاعة قاتلاً، لأن مجتمع المصارف وشركات التأمين، وهي عصب الأساس في الحركة المالية، تورط في اللعبة الخطرة.

حتى شركات صنع السيارات، وهي العملاقة: جنرال موتورز وفورد وكرايسلر، وهي من صميم الاقتصاد «الحقيقي»، انزلقت إلى المستنقع، حين أسّست مصارف كان غرضها أولاً إقراض مشتري السيارات، لكنها توسعت في المضاربة ودخلت سوق «الاقتصاد الورقي» فيما بعد، وهكذا فتحت على نفسها أبواب الجحيم.

وتعمّق محللون في النظرية، فقال سمير أمين، المفكر الاقتصادي المصري، إن أصل الأزمة أن تباطؤ نمو الإنتاج في الغرب، منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وفر فائض رأس مال، تحوّل من الإنتاج إلى سوق المال، التي صارت أوفر ربحاً. ورأى جون سي بوجل، أن الأسباب أربعة: رأسمالية المديرين التي حلت محل رأسمالية حملة الأسهم، وتعاظم مكافآت الرؤساء التنفيذيين، والتركيز على سعر السهم بدل قيمة الإنتاج الحقيقية، وفشل المسؤولين عن الرقابة ولا سيما مدققو الحسابات ومجالس الإدارة ومحللو «وول ستريت» والساسة.

أضف تعليق

التعليقات