أوجد الجوال حالة جديدة في شكل حياتنا اليومية. أصبح جهازاً شديد الالتصاق بنا، ومستنفراً باستمرار، لدرجة تتجاوز بكثير ما كان عليه الهاتف العادي. أصبح ملازماً لنا وملحاً في طبيعة حضوره لدرجة تجعل البعض منا يرغب أحياناً أن يلقي به من النافذة ويتخلص منه، ويستعيد حرية وصفاءً افتقدهما. تحمله أينما كنت، داخل المكتب وخارجه، داخل البيت وخارجه. هو بمتناول يدك في الصالة، على طاولة الطعام، قرب سريرك في غرفة النوم، في المصعد أو السلم، في السيارة أو سيراً على الطريق ثم قاعة الاجتماعات، في كل موقع أنت فيه، وفي المسافات بين كل المواقع.
أصبح وجوده في حالة متأهبة للاستخدام هاجساً يقظاً في نفوس مستخدميه في كل لحظة، ويسكننا خوفٌ دفين من أن ننساه أو نفقده. وربما يستطيع المدمن على التدخين مثلاً أن يصبر على عدم وجود علبة سجائر بين يديه أكثر مما يصبر على افتقاد الجوال!
الهاتف العادي الذي ما زال موجوداً في حدودٍ معينة، ويمكن القول صامداً في وجه زميله الجديد، هو جهاز محدود الحضور إذا جاز التعبير. بداية، لم يكن كل بيت أو حتى دكان فيه هاتف. اليوم ولأسباب تحتاج إلى توضيح تستطيع أن تفترض أن كل بيت فيه جوال واحد على الأقل، وهو منتشر بين محدودي الدخل أيضاً رغم كلفته العالية.
وقد حدث هذا التحول في دور الجوال في حياتنا اليومية بسرعة، وخلال سنوات معدودة. بدأت هذه الخدمة في الانتشار بشيء من البطء في البداية، ثم تعممت فجأة لتصبح واقعاً جديداً طاغياً. ولم يعد مستغرباً أن تجد في سيارة خمسة رفاق، أربعة منهم يتحدثون لا مع بعضهم البعض ولكن مع مهاتفين لهم من خارج السيارة بمن فيهم السائق.
يحوّل الجوال كل واحد منا، ليس إلى مجرد إنسان يحمل جهازاً، بل يكاد يحوله كله إلى جهاز، ويصبح كل واحد منا امتداداً لجواله وكأنه أذن مكانيكية ثالثة ركبّت فينا، نافذة مفتوحة على العالم ليل نهار لا يمكن إغلاقها. ولا نبالغ إذا قلنا إن الجوال قد اخترق كياننا النفسي، ووضع مساحة الصفاء الذهني والخيال المسترخي لدينا في حالة تهديد دائمة! وأشد ما تنعكس فيه هذه الحقيقة هو شعورنا بعدم القدرة -ولو الجزئية- على التخلي عنه، وإسكاته لساعات قد لا يحقق الانتصار عليه كما يظن البعض، ذلك الانتصار الذي يحقق العزلة الحقيقية التي تصبو إليها.. لأن شعورك بأن لا غنى لك عنه ينقلب ساعة الإقفال إلى قلق ما، قلّ أو كثر!