الثقافة والأدب

الأخطل الصغير المجدِّد لا يزال جديداً
ثلث قرن على رحيل آخر أمراء الشعر

  • 73b
  • 75a
  • 75b
  • 75c
  • 75d
  • 75e
  • 70
  • 73a

في العام 1968م، توفي الشاعر بشارة الخوري المعروف أكثر باسم الأخطل الصغير، ثاني أمير للشعراء بعد أحمد شوقي. واليوم، وفي غمرة الاتجاهات والمذاهب الشعرية المعاصرة، يفوت الكثيرين الالتفات إلى من مهَّد الطريق أمام ظهورها بأرقى ما فيها، ومن ضمنهم، إن لم يكن على رأسهم الأخطل الصغير. الناقد جهاد فاضل يعيد هنا قراءة مقتطفات من بعض قصائد هذا الشاعر العملاق الغزلية والوطنية مبيناً عدداً من جوانب التجديد في شعره، التي يصعب القول إن اللاحقين تجاوزوها.
لم يبدأ الأخطل الصغير حياته شاعراً كبيراً، ولم يُعترف بكفاءته الشعرية إلا بعد مرحلة مرّة من القرزمة، إلى أن بايعه الشعراء العرب في السنوات الأخيرة من حياته بإمارة الشعر في احتفال كبير أقيم في قصر الأونيسكو في يروت.

ومن طريف ما يُروى عن هذا «الأمير» في بدايته أنه كان عضواً في حلقة الشيخ اسكندر العازار، يختلف إلى مجالسه فيُصغي مع المُصغين إلى نوادره الأدبية والشعرية، ويقرض الشعر معارضاً كبار الشعراء. روي عن أحد أفراد هذه الحلقة أن الشيخ اسكندر العازار كان إذا قيل له: «هو ذا بشارة يقرض الشعر» يجيب: «بشارة صحافي وسليم شاعر، (وهو يعني سليم العازار) فاتركوا بشارة للصحافة يبرز فيها». وكان بشارة آنذاك قد أنشأ مجلة البرق يساعده الشيخ اسكندر العازار، شيخ الحلقة. إلا أن بشارة لم يقنع بالصحافة، بل عكف على النظم وطلع ذات يوم على شيخه ورفاقه بقصيدته الغزلية:
عشتَ فالعب بشعرها يا نسيمُ
واضحكي في خدودها يا كرومُ
فلما استمع إليها الشيخ اسكندر العازار، هتف قائلاً:
ما زال بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيراً …

عند الحديث عن الأخطل الصغير تتداعى إلى الذهن سمتان بارزتان في شعره، أولاهما أنه شاعر غزلي من الطراز الأول، وثانيتهما أنه شاعر وطني كان لسان العرب والمدافع الأول عن قضاياهم، والمشارك على الدوام، باسم بلده لبنان، في المحافل والمحطات القومية.

ليونة العاطفة في شعره الغزلي
فأما عن شعره الغزلي، فالمُبحر في شعره يعجب لهذا الكلف بالحب والجمال الذي يشيع فيه. غنَّى عواطف قلبه فأطرب وأشجى، وصوَّر اختبارات نفسه في حالتيْ فرحه وأساه، فارتفع بالشعر الغنائي إلى أعلى مستوى. ولعل سر الغنى في شعره هو تلك الحيوية العاطفية الطاغية عليها.

ويمكن للمرء أن يستلَّ من ديوانه الشعري أبياتاً، أو قصائد، في الغزل ليس كمثلها أبيات وقصائد. ويكفي أن نحيل القارئ على بعض ما يغنيه المطرب محمد عبدالوهاب من شعره الغزلي، كقصيدته التي مطلعها:
الهوى والشباب والأمل المنشود
ضاعت جميعها من يديّا
وقصيدته الثانية:
الصبا الجمال ملك يديكِ
أيُّ تاج أعزّ من تاجيكِ

على أننا لسنا إزاء، قصائد غزلية محدودة. فالغزل يبسط نفوذه على شعره كله حتى لنجد تعابير هذا الغزل في شعره الوطني أيضاً، كقوله مثلاً: «قم نقبِّل ثغر الجهاد وجيده»! فالليونة غلبت على شعره كله، وإذا بهذا الشعر بعيد من الجفاف والشدّة. وكان الأخطل في مجالسه يسمِّي هذه السمة في شعره «بالزوم» (العصارة) وهي عبارة عامية لبنانية تفيد الطراوة والنداوة.

كان الشعر قبل الأخطل الصغير في معظمه شعراً جافاً خالياً من الليونة والرقة. كانت الرصانة تحجب العاطفة فيه، فيبدو كأن العاطفة إذا ما لجأ إليها الشاعر حُملت حملاً إليه لفرط رصانته وتجهمه. ويختلف شعر الأخطل عن ذلك. فقد أدرك أن الشعر الحقيقي هو الشعر الذي يمتزج نغمه بمعناه، وشكله بمضمونه، كذلك أدرك أن موسيقى الشعر هي الوحدة بين المعنى والمبنى فجاء شعره يقطر «زوماً»، على حد تعبيره.

وهو يصقل شعره ويُغنيه بكلمات تطابق المعنى تمام المطابقة وتلائمه وتؤثر في قارئه كقوله:
أيها الخافقُ المعذبُ يا قلبي
نزحتَ الدموعَ من مقلتيا
أو:
رَقدَتْ ترشفُ الكرى مقلتاها
مثلما يرشفُ العطاشُ المياها
أو:
أنت ذوّبت في محاجرها السحر
ورصّعتَ باللآلئ فاها
أنت عسّلتَ ثغرها فقلوب الناس
نحل أكمامها شفتاها
أو:
تعجّب الليلُ منها عندما برزت
تُسلسل النور من عينيه عيناها

ولا نعرف شاعراً مولعاً بالحسن، كلفاً بالجمال، يشيع قلبه في شعره كالأخطل الصغير:
كفاني يا قلبُ ما أحملُ
أفي كل يوم هوى أولُ؟

وفي أبيات قليلة يلخص زمن الحب كله:
تمرّ بي كأنني لم أكن
ثغرَك أو صدرَك أو معصمَكْ
لو مرّ سيف بيننا لم نكن
نعلم هل أجرى دمي او دمك!

إنه الإعجاز في الإيجاز. معان منتقاة من ينابيع الهوى والجمال، تؤلِّف ذخيرة وافرة، بل كنزاً ثميناً يجعله أغنى شعراء الحب ثروة وأرفعهم ذروة وأوفرهم تفنناً. وفي شعره يتيه الشعر دلالاً على الحسن لأن في يديه نشر صيته وبثّ محاسنه، وفي قوافيه مقاصير الخلود يُسكنه إياها منعماً متفضلاً. لنسمعه مفاضلاً بين الشعر والحسن مكللاً جبين الشعر بغار السبق إذ يقول:
ما الحسن لولا الشعر إلا زهرة
يلهو بها في لحظتين النظرُ
لكنها إن أدركتها رقةٌ
من شاعرٍ، أو دمعة تنحدرُ
سالت دماء الخلد في أوراقها
ونام تحت قدميها القمرُ

تجاوز الوصف إلى الحركة
على أن الطرافة بذاتها ليست كافية لإنارة السمات المميزة لهذا الغزل. فمن مميزاته كذلك أنه ليس غزلاً وصفياً تصويرياً في الغالب، بل يغلب فيه التحول إلى حركة وجدانية تتعمق الحسّ الجمالي في الداخل. وهذا التحول يجعل من الوصف الخارجي ظاهرة حركية تشارك مشاركة أساسية في التعبير عن امتلاء الوجدان بنبضات الشاعر الجمالية. يجد الحب والجمال وحدتهما الكاملة في شعر الأخطل الصغير. فلنسمعه يقول:
إيه ريحانة الرياحين فيضي
مرحاً، واملأي الجوانح وجداً
امسحي جبهة الظلام تفض نوراً
ومرّي على الصخور فتندى

فهل يعني مثل هذا التصور للجمال غير الشعور الداخلي بالاندهاش من روعته؟ وماذا يعني مثل هذا الوصف لصوت مطرب:
يا غابة الصوتِ اللهيفِ كأنه
تحت الظلام أشعةُ تتكلم!
ثملت به الأزهار وهي أجّنة
وتشوّفت، فانشقّ عنها البرعمُ

إنه ليس مجرد وصف، بل دهشة وجدانية أمام «غابة» من ينابيع النغم تتدفق على مسمع الشاعر، فتنسكب في أوصاله ارتعاشاً كانسكاب الشعاع المنعش، حتى يتصور هذا النغم يفعل فعل الشمس بالزهرة: تدركها في البرعم جنيناً، فتتفتح زهرة كاملة من أثر الشعاع. والشاعر هنا لا يصف الصوت نفسه بقدر ما يصف أثر الصوت في وجدانه. وكلمتا «الغابة» و«اللهيف» في هذه الصورة لا تعنيان دلالتهما الحرفية، بل دلالتهما في تصور الشاعر الخاص!

ونستحضر هنا أبياتاً من قصيدة الأخطل: عُمر ونُعم. فقد أعاد إلى زماننا صورة من ابن أبي ربيعة في رائيته الطريفة، وجلا منها مشاهد غزلية بطرافة جديدة هي طرافة الأخطل الصغير بخصائصها:
أخاكَ يا شعر فهذا عمرُ
وهذه نعمٌ وتلك الذكرُ
لوحان من فجر الصبا وورده
غذاهما قلب وروّى محجرُ
فرخان في وكرٍ تلاقى جانحٌ
وجانحٌ ومنقرٌ ومنقرُ

ومن الطبيعي لشاعر مثله يغنِّي الحب والجمال مثل هذا الحب أن يجنح مركبه نحو بحر النواسية من جهة، ونحو بحر الخيَّامية من جهة أخرى. هذا إن كان هناك فرق يُذكر بين البحرين، أو بين البحور الثلاثة معاً، وآخرها بحر الحب الذي ينصرف إليه المرء فلا يستفيق من لحظته الراهنة. وقد أخذ الأخطل سواء في سيرته الشخصية، أو في شعره، بقسطٍ وافر من هذه الحياة المفعمة بالحب والوجد، ودعا إليها كما دعا من قبل الحسن بن هاني وعمر الخيام. فلنسمعه يقول:
لستَ، مهما عُمّرتَ، غير جناح
حط في الروض برهة ثم طارا

ممهداً الطريق إلى المجددين
وللأخطل الصغير مزية تعلو على أية مزية أخرى، هي أنه لم يستسلم للمعاني التقليدية التي كانت سائدة في الشعر العربي في زمانه (النصف الأول من القرن العشرين)، بل تجاوزها إلى ما كان يمور في الحياة الجديدة في زمانه. وقد لا نغالي إذا زعمنا أن شعره اللدن والسلس والمائي والطريف هو الذي مهَّد لشعر شاعر من طينته هو نزار قباني. فلولا القفزة الهائلة في التعبير عن الذات ومواجعها المستجدة وانعكاس الراهن عليها، التي قام بها الأخطل الصغير، لما أمكن لشعراء الحداثة الذين أتوا بعده أن يقولوا ما قالوه.

والواقع أن الأخطل الصغير، كما وصفه أحد الأدباء الذين عرفوه عن قرب، كان الجسر الذي مهَّد لكل جديد في الشعر حصل بعده. فلولاه لبقيت مدارس النظم المشدودة إلى المعاني القديمة، والأطلال الدارسة، وسطحية الغزل، وانتحار المعاني على أيدي جلادي التقليد، وموت الأخيلة في كهوف الرثاثة.

ولا شك في أن لمهنة الصحافة التي انصرف إليها الأخطل باكراً أثراً في اقتراب لغته من الحياة ومن الناس. فالصحافة بما تتطلبه من مرونة و«طبيعة» في التعبير، هي التي قادته نحو هذه اللغة السلسة التي تشيع في شعره. وقد أشاد الكثيرون بخفة روحه وطرافته وإبداعه في اصطياد المعاني. وحسناً فعل بترك النظريات الشعرية لمن عاصره، أو أتى بعده، واستسلم لقريحته مبتعداً عن تلك النظريات التي كثيراً ما أفسدت الشاعر وشوَّهت شاعريته.

قد يأتي غربال الزمن على الكثير من شعر الأخطل، ولكنه لن يأتي على شعر له في الحب والجمال هو من أروع ما كتبه شعراء الغزل العرب على مدار القرن العشرين. في هذا الشعر نعثر على جمالات وحلاوات كثيرة أشرنا إلى بعضها فيما تقدم. وفي هذا الشعر قلب يغني للجمال بصدق وعفوية. ولم يخطئ المطرب الكبير محمد عبدالوهاب عندما سئل مرة كيف لحَّن «الهوى والشباب» و«الصبا والجمال»، و«جفنه علَّم الغزل»، فأجاب: «أنا لم ألحِّن هذه القصائد لأنها جاءتني ملحنة من الأخطل الصغير»!

ولم يبالغ عندما قال في قصيدته له:
أنا في شمال الحبِ قلبٌ خافقٌ
وعلى يمين الحق طيرٌ شادِ
غنّيتُ للشرق الجريح وفي يدي
ما في سماءِ الشرق من أمجادِ

عروبة شعره تتجاوز اللغة
والواقع أن شعر الأخطل الصغير يتوزع على الغزل والقصائد الوطنية. فهو شاعر لبناني، كما هو شاعر ذو نزعة عروبية. وهذه النزعة العروبية جديرة بالتنويه لأن شعراء كثيرين في زمانه كتبوا الشعر بالفرنسية، وعندما كتبوه بالعربية لم يكن أفقهم أفقاً عربياً. أما الأخطل فقد لقب نفسه بهذا اللقب تيمناً بالأخطل الشاعر النصراني الأموي الذي كانت تُفتح له أبواب الخلافة، ويتدلل على الخلفاء الأمويين ويملأ قصورهم شعراً ومرحاً.

وفي كل مواقفه لم يطأطئ الأخطل الصغير رأسه لأحد من أجل مصلحة خاصة، بل ظلّ مرفوع الرأس، يذكِّر وطنه بما قدّم له من خدمات، وبسيرته النضالية من أجل عزته وكرامته:
لبنانُ يا وَلَهَ البيان أذاكرٌ
أم لستَ تذكرُ نجدتي وكفاحي
قبَّلتُ باسمك كل جرح سائل
وركزتُ بندكَ عالياً في الساح
أنا إن حُجبت فليس ذاك بضائري
وعلى الخواطر غدوتي ورواحي

وله في لبنان قصائد كثيرة، منها هذه الأبيات:
لبنان كم للحسن فيك قصيدة
نثرت مباسمها عليها الأنجمُ
كيف التفتّ: فجدولٌ متأوهٌ
تحت الغصون، وربوة تتبسمُ
وطن الجميع! على خدود رياضِهِ
تختال فاطمة، وتنعم مريمُ!

وطن الجميع: هكذا عرفه أو أراده الأخطل. فهوية الشاعر هي هوية عربية بالدرجة الأولى. وقد توضحت هذه الهوية على أفضل ما يكون في قصائده التي كتبها في مناسبات قومية عديدة. كان الأخطل يمثل لبنان عادة في السوانح الوطنية في البلاد العربية. ومن أفضل نفثاته القومية ما نظمه في القضية الفلسطينية. ومن أقواله فيها:
سائل العلياءَ عنا والزمانا
هل خفرنا ذمة مذ عرفانا
المُروآتُ التي عاشت بنا
لم تزل تجري سعيداً في دمانا
ضجتِ الصحراءُ تشكو عريها
فكسوناها زئيراً ودخانا
مذ سقيناها العلى من دمنا
أيقنت أن معدّا قد نمانا
ان جرحاً سال من جبهتها
لثمته بخشوع شفتانا
قم إلى الأبطال نلمس جرحهم
لمسة تسبح في الطيب يدانا

وله في الشام قصائد كثيرة:
سل عن قديم هواي هذا الوادي
هل كان يخفق فيه غير فؤادي
بردى هل الخلد الذي وعدوا به
إلاّك بين شوادنٍ وشوادي
قالوا تحبّ الشام قلت جوانحي
مقصوصةٌ فيها، وقلت فؤادي!

ومن أجمل قصائده قصيدته في رثاء شوقي في القاهرة. فيوم التأبين، أو قبله، أصيب الأخطل بوعكة صحية كادت تحول بينه وبين إلقاء قصيدته. تهافت على غرفته في الفندق كبار أبناء الجالية اللبنانية في القاهرة (سنة 1932م) يطلبون منه أن يذهب إلى الاحتفال. أحْضَروا الدواء له، بعضهم ألبسه ثيابه، وحملوه حملاً إلى حيث يقام اللقاء والشفاه تبتهل كي تسمح له الحمّى بالوقوف على المنبر وإلقاء قصيدته في أمير الشعراء شوقي الذي كان بينهما حب متبادل:
قال الملائك من هذا فقيل لهم
هذا هوى الشرق هذا ضوء ناظرهِ
هذا الذي نظم الأرواح فانتظمت
عقداً من الحب سلك من خواطرهِ
هذا الذي رفع الأهرام من أدب
وكان في تاجه أغلى جواهرِهِ
هذا الذي لمس الآلام فابتسمت
جراحها ثم ذابت في محاجرهِ
كم في ثغور العذارى من بوارقِه
وفي جفون اليتامى من مواطرهِ

وينهي الأخطل قصيدته في شوقي بهذا البيت:
سألتنيهِ رثاءً خُذهُ من كبدي
لا يُؤخذ الشيء إلا من مصادره!
وكان شوقي قد طلب من الأخطل مرة أن يرثيه إثر حادثة اصطدام تعرض لها.

ويذهب الأخطل الصغير إلى بغداد ليرثي شاعرها جميل صدقي الزهاوي بقصيدة من عيون شعره، منها هذه الأبيات:
بغداد ما حمل السرى مني
سوى شبح مريبِ
جفلت له الصحراء والتفت
الكثيب إلى الكثيبِ
وتنصتت زمُر الجنادب
من فويهات الثقوبِ
يتساءلون وقد رأوا
قيس الملوح في شحوبي
والتمتمات على الشفاه
مخضباتٌ بالنسيبِ
يتساءلون عن الفتى العربي
في الزي الغريبِ

هو والنقَّاد وطائفة الحسَّاد
لم يخْلُ عصر الأخطل من نقاد، أو حسّاد، يأخذون على شعره مآخذ شتى. في هذه القصيدة التي رثى بها الزهاوي، قالوا: من أين جاء بشاره الخوري، أي الأخطل الصغير، بالجنادب إلى الصحراء؟ وعندما نقلوا للأخطل هذا المأخذ، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل! لئن خلت الصحراء من جنادب، فأين نجدها؟ أتريدونني أن أنزل إلى مستواهم، وقد قلت فيهم مرة:
وربّ أخ رأى فرحاً بذمّي
فقلت: رضيتُ ذمك لو شفاكا
أتطمع ان تحلّق للثريا
فتطفئها! عدت إذن حجاكا!

والواقع أن الأخطل ابتلي في زمانه بطائفة من النقاد والشعراء الذين أخذوا عليه مآخذ كثيرة كالسرقة من الشعراء الفرنسيين، وما إلى ذلك من المآخذ. وقد روى صلاح لبكي في كتابه «لبنان الشاعر» أن الأخطل الصغير أنشد مرة في منتدى «الويست هول» بالجامعة الأمريكية في بيروت قصيدته «عروة وعفراء»، وهي قصيدة تقليدية موضوعها مأخوذ من تراث العرب، فلما انتهى من الإنشاد بين تصفيق الجمهور وهتافه، صعد المتكلم الثاني (بعد الأخطل) وكان الشاعر سعيد عقل، (وكان لا يزال في ميعة الصبا ويخالطه الغرور)، وراح ينثر نظرياته حول الشعر. ومما قاله، وهو يغمز من قناة الأخطل: «أنا لا أقيم وزناً لأديب أو شاعر قضى عمراً في الأدب والشعر ولم يصدر كتاباً يحمل اسمه، كما أشفق على شاعر يغسل البحر قدميه، ويكلل صنين رأسه، ثم ينتزع ذاته من هذه الجمالات رائحاً إلى الصحراء ليدبج قصيدة»!

لم يخفَ مقصد سعيد عقل على المستمعين، فما إن انتهى حتى راحوا يهتفون: «نريد بشارة! نريد بشارة!»، وما انفكوا حتى صعد بشارة المنبر ليقول: لستُ بزجَّال لأساجل، إنما تذكرتُ موقفي من فتيان جاؤوا إليَّ، فلما اكتمل ريشهم، أو ظنّوه، راحوا يطارحونني العداء، فقلت فيهم:
ومعشرٍ حاولوا هدمي ولو ذكروا
لكان أكثر ما يبنون من أدبي
تركتُهم في جحيم من وساوسهم
ورحتُ أسحبُ أذيالي على السحبِ

وتمرّ الأيام ويظهر سعيد عقل بعد ذلك في مهرجان تكريم الأخطل الصغير قبل رحيله بسنوات قليلة، ويستعيد تلك الواقعة في منتدى «الويست هول» ليفسِّرها على غير ما جاءت، وهو أنه لم يكن يقصد الإساءة إلى الأخطل. وكان الأخطل قد ذكر مرة عن خصومه، أو حسّاده:
كلما أطبق الغبار عليهم
حشرجوا تحته وماتوا اختناقاً

كما كان يقول: «إنهم أصدقاء، إنهم شعراء لبنان وأدباؤه، وما الأعمال إلا بالنيات»!
إنها أنفة على لين، وحنان على بذخ، وروح للرضوى عندها أكثر من باب، وأبعد من مزار. هذا هو الأخطل الصغير الإنسان.

شاعر مناسبات وأغنيات
أخذ الكثيرون على الأخطل أنه كان شاعر مناسبات. والواقع أن «المناسبة» يومئذ كانت أفضل وسيلة إعلامية بيد الشاعر ليدلي برأيه في قضايا عامة كثيرة مطروحة. كان شاعر المناسبة ينطلق من هذه المناسبة، ليستغلّها وليدلي برأيه في المسائل العامة. وللأخطل الصغير قصائد اجتماعية كثيرة منها:
يا أمةً غدت الذئاب تسوسُها
غرقت سفينتها فأين رئيسها
غرقت فليس هناك غير حطائم
يبكي مؤبنها، ويضحك سوسُها
تتمرغ الشهوات في حرماتها
وتعيث في عظماتها وتدوسُها

ويبرز هذا الحسّ الاجتماعي عند الشاعر في قصيدته «الجابي» وهو موظف الدولة الذي يحضر إلى البيوت لجباية الضرائب والرسوم:
من الناعب قبل الفجرِ
من هذا على البابِ
أعيذ القبح من قبح
بأظفار وأنيابِ
أقَبْل الشمس في الآفاق
والعصفور في الغابِ
وما زار الكرى جفني
ولم تعلقه أهدابي
ولا غذيت أطفالي
سوى همي وأوصابي

وعرف شعر الأخطل الصغير طريقه إلى الغناء، وكان من بين من غنَّى من شعره محمد عبدالوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وفيروز. وقد ربطته صلة خاصة بمحمد عبدالوهاب الذي تعرف إليه في القصر الجمهوري بعاليه، وكان بصحبه شوقي، عندما أبلغه أحد الحاضرين أن شاعراً يضمه الحفل اسمه الأخطل الصغير له قصيدة جميلة مطلعها: الهوى والشباب والأمل المنشود. وعندما سمع عبدالوهاب القصيدة رغب بالتعرف إلى الشاعر. ونشأت بينهما بعد ذلك صداقة قوية أثمرت خمس قصائد غناها عبدالوهاب له، إحداها وئدت في مهدها ولم تُذع سوى مرة واحدة من إذاعة القاهرة وكانت في تحية الملك فاروق.

وقد قرأ عبدالوهاب مرة قصيدة الأخطل: «اسقنيها بأبي أنت وأمي»، فأبرق إلى الأخطل طالباً منه أن يغنيها.. ويبدو أن أسمهان سمعت بهذا الخبر، فاستأذنت الأخطل أن تغنيها.. حار الأخطل، ولكن الذي حسم الأمر عنده هو سحر أسمهان ونفوذها في القلوب.. وعندما عاتبه عبدالوهاب بعد ذلك، قال له: لقد تأخرت برقيتكم في الوصول فلم أعرف برغبتكم في غناء القصيدة. وكانت أسمهان قد طلبت القصيدة مني فلم أمانع.. ولم يصدِّق عبدالوهاب ذلك بالطبع.

ومن طريف ما ذكره الأخطل مرة: سامح الله محمد عبدالوهاب فقد أجبرني أن أصبح زجالاً مصرياً.. فقد كتبتُ له، وبناء على طلبه: «يا ورد مين يشتريك». كنتُ وعبدالوهاب ذات صباح في حديقة الورد قرب منزلي. وبينما نحن نرشف القهوة، نظرتُ إلى وردة وشَّاها الندى بأعراق ونقطها باللؤلؤ. وكان عبدالوهاب قد طلب مني قصيدة لأحد أفلامه، فقلت:
يا ورد عاش الورد
طاب الذي شمّك
يا برعماً في نهر
شقّ الهوى كمّك

أعجب عبدالوهاب بالمطلع ولكنه رغب إلى الأخطل أن يجعل القصيدة شعراً شعبياً، فكانت «يا ورد مين يشتريك»، وهي تجربة فريدة لأن القصيدة مزيج من الفصحى والعامية المصرية، ولم تتكرر التجربة فيها بعد.

على أن الزمن يفعل فعله في الشعراء في سنواتهم الأخيرة. انزوى الأخطل في منزله في تلك المرحلة الصعبة من العمر. بات عوداً بلا وتر. هيكلاً نحيلاً لولا بريق عينيه لظنه زائره شبحاً من الأشباح. يزوره أصحابه فلا يتعرف إليهم إلا بعد مذاكرة، فإذا خطر لأحدهم أن يروي بيتاً من إحدى قصائده، انتفض فجأة واستعاد ذاكرته ليسردها دون تلعثم، فكأنه أسطوانة الحاكي تخالها قطعة من جماد، فما إن تطلق الإبرة على صفحتها حتى تتحول إلى كائن ناطق.

لقد خبا رسول الغزل والكلمة الأنيقة كما تخبو الشمعة وقد أذاب اللهب جسمها. على أن الأخطل الصغير يبقى في الذاكرة الشعرية العربية شاعراً كبيراً. هو تراث لبناني له حرمة الأرز وروعة هياكل بعلبك، كما هو تراث عربي يضم إلى ذخائر الفصحى مفاخر العرب.

وكان آخر ما كتبه هو هذه الأبيات الثلاثة التي ألقاها في احتفال تكريمه عندما جاءت إلى لبنان نُخبة الشعراء العرب ليبايعوه بإمارة الشعر، فكان كل ما جادت به قريحته هذه الأبيات الثلاثة:
أيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري
من ذا يغنّي على عودٍ بلا وترِ
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت
رعت شبابي وخانتني على كبري
كأنها ما ارتوت من مدمعي ودمي
ولا غذتها ليالي الوجد والسهرِ!

أضف تعليق

التعليقات

ادم جمعة

ابداع واروع من ماهو روعة