منذ أن بدأ الإنسان يتنعَّم باكتشافاته الحضارية الممتدة ويتنقَّل من مكان إلى آخر على وجه البسيطة، اتخذ الحذاء صديقاً دائماً له في حله وترحاله، لا يستطيع أن يتخلى عنه أو يخلعه حتى وإن توقف هو عن الحركة. وإن كان التحرك من مكان لآخر هو الدافع الأساسي لاستعانة الإنسان بالحذاء على المشي في مناكب الأرض، فإن الجمال هو الجانب المقابل في معادلة الاحتفاظ بالحذاء لفترة أطول في القدمين أمام الناس؛ حسام الدين صالح يسلط الضوء على هذا العالم الجميل وكيف ظل الحذاء على مر التاريخ والحضارة يفرض معادلة وظيفته العملية والجمالية على منتجيه ومستهلكيه في العالم على حد سواء.
للحذاء عوالم عديدة أبهرت مستخدميه وأشقت وأسعدت على الدوام منتجيه، يحرص الناس على شكل الحذاء الخارجي، جماله ومناسبته للشخص الذي يريد أن ينتعله.
ربما اعتقد كثيرون أن الحذاء الذي يناسبك ويشبهك لابد أن يناديك حينما تمر بواجهات المتاجر، بينما يركز آخرون على ما بداخل الحذاء، وهل هو طري ولين ومريح؛ ولكن هل سَأَلَنا يوماً حذاؤنا إن كنا قلبنا رأسه على عقب لنرى إن كان الجزء السفلي منه يناسبنا فعلاً..؟! هذا هو العالم الخطير والجميل الذي نريد أن نستكشفه في حذاء كل منَّا.
النعل في قاموس اللغة والصناعة
لكل حذاء أجزاء يتكون منها، هناك (صندوق الأصابع) وهو الجزء الأمامي من الحذاء ويفضله بعض المنتجين مربَّعاً أو مثلثاً أو مستديراً وهو الجزء المسؤول عن صحة وراحة وضعية الأصابع؛ أما الجزء الخلفي وهو المعروف بـ(كعب الحذاء) فوظيفته تثبيت مؤخرة القدم في داخل الحذاء والمحافظة على شكل مؤخرة الحذاء، وهناك(باطن الحذاء)الذي يتكون من جزء داخلي(insole) يعمل على التقليل من الاحتكاك بين النعل الداخلي وأسفل القدم ويسهم في امتصاص الصدمات والعرق، وجزء خارجي(out sole) وهو الجزء الوحيد من الحذاء الذي يلامس الأرض، وتكمن أهميته في أنه مسؤول الاتصال الأول والأخير بين قدم الإنسان والأرض التي يمشي عليها.
يُطلق العرب على هذا الجزء المهم -وغير المكتشف لدى الكثيرين – من الحذاء لفظ(النعل) فكما في معجم اللغة العربية المعاصرة فإن «نَعْل الحذاء هو: الجزء السُّفلي منه» والنعل كما قال ابن منظور في لسان العرب: «ما وَقَيْت به القدَم من الأَرض» والألطف أن سُمْك النعل كان معيارا حضاريا قديما يفاضل به الناس بين عامة القوم وعليتهم، فقد كانت العرب –كما قال ابن منظور- تُمدَح برقَّة النِّعال وتجعلها من لِباس المُلوك.
يسمّي مصنِّعو الأحذية الجزء الأسفل من الحذاء (النعل الخارجي) أو (الآوت سول) تعريباً لوصفه الإنجليزي (out sole) ويحرصون على أن يتصف هذا الجزء الملامس للأرض بالمرونة والقدرة على التحمل بالإضافة إلى توفير الاحتكاك اللازم، وتستخدم الكثير من المواد في تصنيع (الآوت سول) مثل الجلد والمطاط البلاستيكي وغيرها من المواد، ويرى البعض أن الذي يحدد أفضلية مادة عن غيرها هو نوع النشاط البدني الممارس، وعليه يتم تصميم هذه الطبقة المهمة من الحذاء، فهي بمثابة(الطبقة العاملة والكادحة) نظراً لالتصاقها بالأرضيات، ويلحظ المقلّب للأحذية نتوءات وأشكال بارزة تعمل على منح الحذاء شيئاً من الاحتكاك، إلا أن لهذه الأشكال البارزة وجهاً سلبياً آخر يراه البعض، فهي على قولهم تجعل الحذاء أقل قدرة على التحمل الطويل للاستخدام وتقلل بالتالي من عمر الحذاء، ولذلك تلجأ بعض المصانع لتصميم أحذية بنعل خارجي من مادة واحدة وأخرى بمادة مغايرة تكون أكثر مقاومة للتآكل في المواقع التي يكون العبء عليها أكثر حتى تطول مدة الاستفادة من الحذاء.
حوار الأرض والحذاء
مثلما أنه ليس كل ما يلمع ذهباً فإنه ليس كل حذاء يصدر صوتاً رناناً هو بالأَوْلَى حذاء جيد، فلربما كان هذا الصوت تعبيراً عن احتجاج الأرض من الشيء الذي يرتطم بها بقسوة من حين لآخر، فكيف إن كانت هذه (الطقطقة) تؤشر لضرر بليغ يصيب منتعل هذا الحذاء القاسي أيضاً..؟! كثيراً ما ندخل السوق ونترك لعاداتنا أن تقودنا لما نريد أن نشتريه دون أن نتأكد من سلامة هذه العادات واتفاقها مع صحتنا، إن درجة صلابة الجزء الأسفل من الحذاء لا يعني بأي حال أنه جيد أو ملائم لقدميك، فلين ومرونة المواد المكونة لأسفل الحذاء تعمل على تخفيف الضغط على أجزاء القدم، وبالنسبة للسيدات اللواتي يلبسن أحذية الكعب العالي فإنه كلما كان الكعب مرتفعاً زاد الضغط على مقدمة القدم، وقد وجدت دراسة علمية أن الارتفاع الأمثل للكعب يجب ألاَّ يتعدى 5 سم لأنه عندما يكون أكثر ارتفاعاً فإنه يعمل على تغيير طريقة مشي المرأة ومعه تأتي أحمال زائدة على مناطق لم تتعود على مثل هذه الأحمال مما ينتج عنه الكثير من المشكلات الصحية؛ لكن النصيحة التي يسديها خبراء تصنيع الأحذية في هذا الجانب هي: (تجنب ارتداء حذاء لين على أرضية لينة أو ارتداء حذاء قاسٍ على أرضية قاسية بغض النظر عن نوع النشاط الممارس).
لوحات تشكيلية في عالم تحتي
تتنوع تضاريس (الآوت سول) من حذاء لآخر، لكنها تتضافر جميعها للقيام بأداء جيد لوظيفة الاحتكاك مع الأرض بشكل عملي ومريح، هناك أحذية يكاد يكون أسفلها خالياً من أي نتوءات مثل الأحذية الشعبية المشهورة في السودان بـ(المراكيب) حيث يتصف نوع منها بآوت سول أملس يتم تصنيعه من جلد البقر، وقد تكون التضاريس قاسية قليلاً مثلما نجدها في الأحذية المصنوعة من البلاستيك والمخصصة للحمّام أو تلك التي يلبسها الأطفال، وتزداد هذه التضاريس قساوة وبروزاً في الأحذية الرياضية خاصة التي يستخدمها لاعبو كرة القدم.
لتلبية هذه الاختلافات في أنواع ووظائف الأحذية، ازدهرت بجانب الصناعة، ما يمكن أن نطلق عليها (حركة تشكيلية) اتخذت من وظيفة الآوت سول منطلقاً للإبداع الجمالي بأشكال وزخرفات وألوان وربما لوحات تشكيلية وتصويرية كاملة، تهدف أولاً إلى تمييز منتج الشركة عن الشركات المنافسة، وتسهم ثانياً في جذب انتباه المستهلك إلى الحذاء، ولهذا تحرص كثير من المتاجر عند تسويق منتجاتها من الأحذية على عرض فردة مقلوبة من الحذاء جوار الفردة الأخرى، ويحتوي (الآوت سول) أحياناً على بيانات توضح مقاس الحذاء أو علامة الشركة المصنعة أو بلد المنشأ.
ويبدو أثر هذه اللوحات التشكيلية للأحذية واضحاً في الطرق الترابية المكتظة بالرواد والمارة وربما ينتبه لها بالأخص سكان مدن العالم الثالث الذين يسكنون في مدن وقرى لم يتوفر لشوارعها وساحاتها غطاء أسفلتي وإسمنتي يمنع التراب من (طباعة) هذه الأشكال المتنوعة.
أما أكثر العالمين ببواطن هذه الأشكال والفنيّات -بحكم العمل والخبرة وربما الحب- فهم دون شك المشتغلون بخدمة الأحذية تصليحاً أو دهناً.
فوائد أمنية وإنسانية
لأشكال(الآوت سول) التي تتبارى المصانع في إبداعها أفضال على كثير من الناس، بداية من صانعيها(الفنانون والمصممون) وانتهاءً بالمراقبين لها وهي تنطبع على الأرض(قصاصو الأثر) فهي ما زالت تكسبهم أجراً ورزقاً حسناً، تصوّروا كيف سيكون مستقبل مهنة تاريخية قديمة ومتجددة مثل(قص الأثر) لو لم تتطور صناعة الأحذية بهذه الأشكال المتنوعة لـ(الآوت سول)؟!
ما زالت الكثير من الأسر والقبائل العربية تتوارث مهنة قص الأثر أباً عن جد وترى فيها مكسباً اقتصادياً محترماً، بل وتقيم لها بعض البلاد اتحاداً يجمع ممارسي هذه المهنة كما في المملكة العربية السعودية التي يسمّون فيها بـ(المريّة) نسبة لقبيلة آل مُرّة التي عرفت باحتراف قص الأثر على طول الخليج العربي، كما يطلق عليهم في مصر(الهجانة).
يقوم هؤلاء القصاصون بأعمال أمنية وإنسانية عظيمة، فهم يعاونون المواطنين والأجهزة الأمنية والمعامل الجنائية في كشف آثار المجرمين في حوادث القتل والسرقة والوصول إليهم عن طريق آثار أحذيتهم، وما إن كانت جديدة أو قديمة، وما إذا كان السارق أو القاتل بديناً أو طويلاً، وهكذا؛ كما يساعد قصاصو الأثر في إنقاذ التائهين في الصحارى قبل أن تمتد إليهم يد الجوع والعطش.
أشهر (آوت سول) خارج الأرض
إن كان الحديث عن آثار (الآوت سول) في كوكب الأرض بيّناً وشيّقاً فهو في الفضاء الخارجي أكثر جدلاً وتشويقاً. لقد سجّل رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونج أول فضل لحذاء في الأرض يطأ القمر؛ وما زالت آثار حذائه المخططة عرضياً مطبوعة في أذهان الكثيرين بعد أن طبعها على أديم القمر، وتتذكر أجيال الستينيات من القرن الماضي كلمته المشهورة حين هبط إلى القمر بتاريخ 21 يوليو 1969م ووضع حذاءه الأيسر على سطحه وقال: «هذه خطوة واحدة صغيرة لرجل واحد وقفزة عملاقة للبشرية».
لقد سجّل آرمسترونج اسمه وأثر حذائه في التاريخ، ورغم ذلك فقد أثارت آثار حذاء آرمسترونج الكثير من الجدل حول حقيقة تلك الرحلة الأمريكية إلى القمر، وحقيقة وجود مياه وحياة خارج كوكب الأرض، واتخذها البعض متكأً للحديث عن المنافسة الفضائية التي كانت تجري بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وزادوا بأن صوروا الرحلة الأمريكية إلى القمر، بما فيها آثار حذاء آرمسترونج، كانت صوراً مزيفة قصد منها الحفاظ على الاكتشاف العلمي الأمريكي في القمر.
تفسيرات دينية
لم ينجُ النعل الخارجي للحذاء(الآوت سول) من التوظيف الديني، فقد اشتكى المستهلكون للأحذية أكثر من مرة، وفي أكثر من بلد عربي وإسلامي، من إهانات للإسلام ونبيه -عليه الصلاة والسلام- تتسلل إلى الأسواق العربية والإسلامية عن طريق الأحذية، حيث يدلل البعض -بالصور- على كتابة شركات مجهولة وأخرى معروفة ألفاظ إسلامية على (آوت سول) الأحذية مثل: (لفظ الجلالة، محمد، مكة، الإسلام) وكثيراً ما وصلت هذه الشكاوى إلى السلطات المختصة ومجامع الإفتاء للحديث حول منعها من الوصول للأسواق ودوافع منتجيها.
وفي الجانب الآخر، لا يرى البعض -من منطلقات دينية أيضاً- خيراً في أن ينقلب الحذاء فيبدو جزؤه الأسفل للناظرين، بل ويتهم آخرون (الآوت سول)- من باب الطيرة والتشاؤم- بأنه مجلبة لسوء الحظ، إلا أن كثيراً من العلماء والمفتين برؤوا ساحة النعل من هذا الاتهام الذي لا يقوم على دليل علمي أو شرعي.
وهكذا، يظل أسفل الحذاء (الآوت سول) أو (النعل) كما جاء في بعض أقوال العرب، يضج بحياة موّارة- جميلة وخطيرة- يراها كثيرون ويعيشون عليها ويكسبون رزقهم منها، بينما لا يلقي بعضهم باله إليها إلا حينما تنقلب على وجهها أو حين يهترئ حذاءه فينظر ما أصابه.