سُئل عالم الفيزياء الفلكية البريطاني براين كوكس عن فائدة مشاريع البحث والرصد الفضائي التي تُصرف عليها أموال طائلة كل عام دون مردود اقتصادي مباشر، فكانت إجابته في جملة واحدة: لو كانت الديناصورات تملك مشروعاً للأبحاث والرصد الفضائي لظلت موجودة حتى اليوم!
هذا الحوار القصير يلخص موقف الرأي العام من «فكرة» استعمار الفضاء. فاليقين بأن «أرضنا» هي المستقر الأوحد للجنس البشري يقابله دوماً تذكير بأن الأرض وحدها دوناً عن كل الأجرام الفضائية مناسبة للحياة.
لكن، وعلى الضفة الأخرى لمجرى النقاش، ينبغي أن نستحضر أن كوكبنا الأزرق حافل بالبقاع المستعصية على الحياة والمضادة لها. ولا أدلّ على ذلك من عدة تجارب بحثية وحضارية مثيرة، تستعين بظروف أرضية متطرفة في قسوتها كي تُعدّ مستكشفي المستقبل لاستعمار كوكب لمريخ.
مبررات استكشاف الفضاء
هناك مبررات عدة لاستكشاف الفضاء الخارجي. منها الاستراتيجي؛ فالدول الكبرى تسعى لتكريس تقدمها على بعضها بعضاً عبر تثبيت مواطئ أقدام لها على التخوم الأولى للفضاء الخارجي – كالقمر والمحطّات الفضائية -. وهناك المبررات الاقتصادية والمتعلقة بحقوق استثمار الموارد المعدنية والطبيعية خارج حدود الأرض. وهناك مبررات دافعها غريزي ويثيرها السؤال: ماذا لو تخلت الأرض عنّا يوماً.
فحين توفرت المعرفة للإنسان وفطن لحقيقة الكون واتساعه، وكيف أن كوكبنا الأرض ليس مركزاً للكون ولا يملك خصوصية تميّزه عن مليارات الأجرام الأخرى في المجرة وأضعافها خارج المجرة؛ حينها دارت في باله أسئلة عميقة عن موقعه في الكون ومدى إمكانية استكشاف أرجائه، وعن إمكانية انتقالنا كجنس بشري إلى جرم سماوي آخر؛ سواء أكان كوكباً أو قمراً لكوكب آخر، لنتخذه وطناً لنا.
وبدءاً من منتصف القرن الماضي عمدت مجموعة من الدول والاتحادات الدولية إلى تنفيذ مشاريع رسمية خُصصت لها ميزانيات هائلة لاستكشاف مزيد عن الفضاء ودراسته، وكذلك تنظيم الرحلات المأهولة وغير المأهولة لمعالم ودروب الفضاء الشاسع. وكان أن حققت هذه المشاريع نجاحاً مدهشاً في فترة وجيزة. فالبشر وطأوا سطح القمر مراراً، وأصبحت لديهم محطة دائمة في الفضاء (محطة الفضاء الدولية ISS)، ونرى كذلك أن الرحلات غير المأهولة قد زارت بالفعل كل كواكب المجموعة الشمسية بل وتجاوزتها لما وراءها في عمق المجهول.
هذه المشاريع العظيمة – في حجمها وهدفها – تتعدَّد ما بين مشاريع قصيرة المدى تستغرق سنوات قليلة، وبين مشاريع طويلة المدى تصل لعشرات السنين مثل مشروع «أورورا» (وترجمتها الإشراق وتطلق كذلك على ظاهرة الشفق القطبي) (Aurora Exploration Program) لاستكشاف المجموعة الشمسية. بل إن بعضها قد وضع له برنامج يمتد عبر قرن كامل، مثل مشروع «المركبة النجمية» (100 Year Starship) للسفر إلى مجموعة نجمية أخرى. هذان المشروعان الأخيران سيرسمان الخطوط العريضة لمستقبل الرحلات الفضائية البشرية كما ستعايشها الأجيال المقبلة من المستكشفين، لكنهما ما زالا إجمالاً في طور الإعداد والتخطيط. مشروع «أورورا» على سبيل المثال تندرج تحته خطوات بحثية ومشاريع فضائية فرعية تمتد كل منها لسنين، والغرض من ذلك هو تطوير إمكاناتنا وقدرتنا على التعايش مع الظروف المتطرفة في الفضاء.
تجدر الملاحظة إلى أن الجهات المسؤولة عن هذه المشاريع هي وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، والإدارة الوطنية الأمريكية للملاحة الفضائية والفضاء (NASA) على التوالي. ما يوحي بأن مستقبل استكشاف الفضاء بيد تلك الدول وإن كانت روسيا بعراقة تجربتها والصين بطموحها ومن خلفهما الهند يبتغون جزءاً غير بسيط من الكعكة.
مشروع أورورا: قمة الطموح البشري الفضائي
بدأ التخطيط والإعداد لمشروع أورورا الاستكشافي الذي يهدف إلى استكشاف المجموعة الشمسية منذ عام 2002م، بالتعاون بين 11 بلداً منها عشر بلدان أوروبيةٍ، هي: إيطاليا – التي كانت المساهم الرئيس – وإسبانيا والمملكة المتحدة والنمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وهولندا والسويد وسويسرا، وانضمت إليهم كندا كذلك. وما ميّز هذا المشروع الضخم هو «الديمقراطية» التي تحلَّى بها. ففي المرحلة الأولى تم استطلاع الأوساط العلمية والأكاديمية والصناعية بخصوص الوجهات والأهداف المقترحة لاستكشاف الفضاء على المدى الطويل، وكانت النتيجة لصالح استكشاف كوكب المريخ أولاً من بين مجموعة من الأجرام السماوية الأخرى، بسبب قربه النسبيّ ولتركيبته الصخرية وغلافه الجوي مما يجعله ربما الأكثر شبهاً بكوكبنا من أي جرم سماويٍّ آخر في مجموعتنا الشمسية. وكان هذا الاستطلاع الأساسيّ الذي قام عليه مشروع «أورورا»، وقاد إلى تكوين مشروع «إكسومارس» (ExoMars) الفرعي من أجل دراسة سطح الكوكب الأحمر وبيئته ومناخه كي يتم الإعداد لأول رحلة بشرية إلى هناك على الإطلاق – ضمن مشروع أورورا العظيم – التي من الممكن أن تحصل خلال مدة تتراوح بين 10 و15 عاماً في أفضل التقديرات!
وكما نعرف، فإن المريخ بات محطة مألوفة لمسابر وآليات أمريكية وأوروبية وروسية وصينية ويابانية وهندية في السنين الماضية، لكن لم يحط عليه أي إنسان حتى هذه اللحظة.
بشر على سطح المريخ
نعم، السفر إلى المريخ لم يعد مجرد خيالٍ محصورٍ في الروايات والأفلام، بل بدأت بالفعل وكالات الفضاء الدولية الإعداد والتخطيط له منذ عقود. ويمكن تتبع الاقتراحات والمحاولات الأولى لاستعمار الكوكب الأحمر إلى الخمسينيَّات الميلادية. أما في السنين الأخيرة، فقد ظهر مشروعان حقيقيان لنقل البشر إلى المريخ هما مشروع «إكسومارس» آنف الذكر ومشروع «مارس ون» Mars One المثير الذي تطوع فيه مئات الآلاف للرحيل إلى هناك بلا عودة.
لكن قبل اتخاذ أي خطوةٍ باتجاه استعمار أي جرم سماوي يجدر بنا أن نتساءل: هل يمكننا تحمل الرحلة الطويلة والصعبة إلى الأجرام السماوية البعيدة؟ هل يمكننا تحمل قسوة الطبيعة هناك حتى داخل بيئات محمية وبزّات فضائية متطورة؟ هل يمكن لمجموعة من البشر الاستقرار معزولين عن بقية أفراد نوعهم لأجيال وأجيال؟
الجواب هو على الأرجح: نعم، والدليل موجود، بل وقريب جداً.
بيئات «غير أرضية» على كوكبنا الأزرق!
تخيل العيش تسعة أشهر معزولاً تماماً عن العالم، في مكان مقدار يومه حوالي 8,700 ساعة (أو بمعنى آخر سنة كاملة حيث يدوم فيه النهار 6 أشهر والليل 6 أشهر). مكان درجة حرارته تحت الصفر في كل المواسم لدرجة أن سطحه يتشكل من طبقة ثلجية دائمة يصل سمكها إلى 2 كيلومترين في المتوسط، مما يجعل سطحه أبيض على الدوام.
ثمة مكان على سطح كوكبنا يشبه في بعض جوانبه القمر يوروبا التابع لكوكب المشتري أكثر مما يشابه بقية الأرض، إنها القارة القطبية الجنوبية أو أنتاركتيكا التي تصل مساحتها إلى ضعفي مساحة قارة أستراليا ويرتفع معظمها 10 آلاف قدم – ثلاثة آلاف متر- فوق سطح البحر. هذه القارة ليس فيها سكان أصليون من البشر، حيث لم يستقر بها أحد من جنسنا قط بسبب ضراوة وشراسة ظروفها البيئية. لكن مع تقدم العلوم، ما عاد أي مكان على سطح الأرض عصياً على بني البشر.
فمنذ منتصف القرن الماضي، بدأ إنشاء قواعد دائمة على سطح القارة معظمها لأغراض علمية ليزورها ويستقر بها العلماء والباحثون وتكون محطة لهم ليقوموا بدراساتهم حول الفلك والفيزياء والعلوم الطبية والجيولوجيا وغيرها. واليوم يوجد ما يقارب الخمسين مركزاً ومحطة بحثية صيفية أو دائمة هناك، تملكها 30 دولة مختلفة ويقطن بها حوالي 4000 شخص في الصيف – حيث يمكن أن تنتقل السفن والطائرات – و1000 شخص فقط خلال الشتاء الرهيب، يخضعون لاختبارات طبية مشابهة لتلك التي تُجرى على روَّاد الفضاء، ويمكثون في القطب بين شهري فبراير ونوفمبر. قد نتساءل: لماذا هذا النقص الكبير في العدد؟ الجواب هو لأن من يظل في المحطة بعد الثالث عشر من فبراير لن يجد وسيلة مواصلات تخرجه منها لمدة تسعة أشهر – أي حتى شهر نوفمبر نهاية السنة – وذلك لاستحالة وصول الطائرات والمركبات إلى هذه المحطات القطبية في فصل الشتاء؛ لأن الوقود النفطي يتجمد عند درجة حرارة 45 مئوية تحت الصفر.
خلال الشتاء الطويل البارد المظلم هناك، حيث تختفي الشمس تماماً، تظل درجة الحرارة الخارجية أقل من 60 درجة مئوية تحت الصفر لشهور متواصلة بلا ارتفاع، وقد تصل إلى 90 درجة مئوية تحت الصفر في بعض المناطق! بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع القارة الكبير فوق سطح البحر يؤدي إلى تدنٍ في وفرة الأوكسجين الجوي بنسبة %30 نظراً لانخفاض الضغط الجوي. والنتيجة هي أن الاعتماد على الهواء الخارجي في التنفس بلا معالجة يؤدي إلى تناقص الأكسجين في الدم خلال فترة وجيزة فيشعر الشخص بالدوار والغثيان والصداع، وقد ينتهي به السبيل إلى فقدان الوعي أو حتى الموت إن ظل على ذلك لوقت طويل نسبياً. وبحسب وصف الطبيب ديل مول – الذي قضى شتاء 2012م هناك – فإن التنفس مباشرة من الهواء الخارجي بلا واقٍ يؤلم كثيراً وكأن خناجر من الثلج تنسحب داخل الحلق، ورطوبة الهواء الخارج من الشخص أثناء الزفير تتجمَّد أمام صاحبها في الجو. ويذكر أيضاً أن الأسنان تؤلم لساعات بعد تعرضها للهواء الخارجي!
استطاع البشر قهر هذه الظروف الرهيبة التي تشابه ظروف الأجرام الفضائية الأخرى والتي يمكن وصفها بغير الأرضية – إن صح التعبير – وأثبتوا جدارة عالية في التعايش معها. فالمباني تعمل باكتفاء ذاتي تماماً، والقاطنون فيها يعيشون مدة تسعة أشهر كاملة على ما جمعوه في البداية من غذاء وأدوات وأيضاً على تدوير ما يمكن تدويره. بل حتى التواصل مع العالم الخارجي عن طريق شبكة الإنترنت ليس متاحاً إلا لساعات معدودة في اليوم – باعتبار اليوم 24 ساعة – وبنطاق محدود جداً. هذه الظروف أتاحت أيضاً اختبار الآثار الصحية والنفسية السلبية التي يتقاطع فيها العيش في القطب الجنوبي مع رحلات الفضاء الطويلة، مثل الإجهاد العالي، والاكتئاب، وفقدان الدافع للتمارين والأكل الناتج عن العزلة الطويلة والظروف البيئية المختلفة كانقطاع ضوء الشمس.
جزيرة تريستان: الأكثر عزلة في العالم
لكن ماذا عن الخطوة التي تلي عيش البشر في ظروف بيئية صعبة جداً لمدة تصل إلى سنة؟ هل يمكن أن يعيش هؤلاء الأفراد في بيئة معزولة في الفضاء – بعد أن يغادروا الأرض – لعقود وقرون، مؤسسين سلالات جديدة، بلا اختلاط مع بقية البشر -الأرضيين-؟
الجواب قد تقدمه لنا بقعة أخرى مدهشة في تطرّف ظروفها على أرضنا، هي جزيرة تريستان دا كونا Tristan da Cunha وقاطنوها الذين عاشوا قروناً في انعزال تام عن العالم.
بدأت القصة حين حطّ جوناثان لامبرت الأمريكي مع ثلاثة من أصدقائه على جزيرة صغيرة نائية ومهجورة في أقصى جنوب المحيط الأطلسي، إلى الغرب من رأس الرجاء الصالح، عام 1810م وأعلن ملكيته لها بعد أن نوى العيش فيها. هذه الجزيرة التي هي في الحقيقة بركان شاهق اسمها تريستان دا كونا نسبة للبرتغالي الذي اكتشفها عام 1506م ولم يطأها، تبعد عن أقرب يابسة لها – وهي جزيرة أخرى صغيرة – أكثر من 2400 كيلومتر! بعد سنوات قليلة قدم الجيش البريطاني عام 1816م واستولى على الجزيرة لغرض عسكري في البداية ثم لاحقاً لغرض تحويلها لمحطة استراحة للرحلات البحرية المقبلة من أوروبا قاصدةً الشرق الأقصى، فازدهرت الجزيرة نسبياً لعقود، وتوافدت إليها جماعات من المدنيين البريطانيين بغرض الاستقرار. لكن بعد افتتاح قناة السويس عام 1869م لم تعد هناك حاجة لهذه الجزيرة فتركت لأهلها الذين بلغ عددهم العشرات!
عاش هذا المجتمع الصغير في عزلة طويلة واستقلال تام عن العالم. فقد كانوا يأكلون مما يزرعون ويلبسون مما ينسجون ويتزاوجون فيما بينهم، حيث لا يوجد فيها إلا سبعة ألقاب عائلية. ومات الجيل الأول ولم يبق فيها إلا أبناء الجزيرة الذين ولدوا وترعرعوا في كنفها ولا يعرفون سواها موطناً. بل ولما أخلت الحكومة البريطانية الجزيرة من أهلها عام 1961م بسبب ثوران البركان القابع في منتصفها وأخذتهم إلى بريطانيا، حصلت لهم صدمة نفسية وصعوبة شديدة في التأقلم أدت بهم للعودة إلى موطنهم الأم في غضون سنين قليلة على الرغم من المخاطر والظروف البيئية الصعبة!
سكان جزيرة تريستان دا كونا الذين لم يزد عددهم عبر القرون على 270 شخصاً، أثبتوا لنا أنه يمكن لمجموعات من البشر العيش بانقطاع كامل وعزلة تامة طالما تحصلوا على استقلال ذاتي في الموارد الأساسية للحياة. الآن لا حاجة لنا إلى خيال واسع لنرى أنه يمكننا استعمار كوكب آخر استعماراً أبدياً إن توفرت متطلبات العيش الأساسية، كالماء والغذاء. وهذا ما بدأ يصبح حقيقة تحت ظل الاكتشافات الحيوية والتقنية الأخيرة.
هل سيتحقق الحلم المنتظر؟
في النهاية، يُتوقع أن نشهد أول تجربة لاستعمار جرم سماوي آخر في غضون عقدين فقط من الزمن سواء من خلال مشروع «إكسومارس» أو مشروع «مارس وَن» المثير. فالتجارب البشرية التي ذكرناها آنفاً ترجح نجاح هذه المساعي الاستكشافية.
ومما لا شك فيه أنه لو تمكن البشر من تحقيق هذا الحلم المنتظر فستكون تلك نقطة محورية في تاريخ جنسنا بل وفي تاريخ الحياة الأرضية.. التي سيتغير اسمها بانتقال جزء من الأصل وتأسيس فروع له خارج نطاق الكوكب الأزرق الأم.