يصادف هذا العام ذكرى مرور 600 سنة على وفاة ابن خلدون، هذا العالم العربي الذي رفع الاهتمام بالتاريخ من مستوى جمع الوقائع وسرد الأخبار إلى مستوى العلم الهادف إلى فهم أعمق للأحداث استشرافاً لمنحاها المستقبلي. ومن فلسفته في التاريخ وعلى يديه تأسس علم الاجتماع.
وللمناسبة، يستعيد عبدالجبار السامرائي هنا صورة هذا العالِم العربي الذي لا يزال حتى اليوم واحداً من أكثر العلماء تأثيراً في العلوم الإنسانية المعاصرة.
حاول الإنسان من بداية وجوده أن يسجِّل أعماله بطرق بدائية متعددة، ولما اكتُشفت طريقة الكتابة، أخذ هذا التسجيل شكلاً علمياً. فالتاريخ ولد حيثما ولد الإنسان، وازدادت قيمته والاهتمام به عندما صار الإنسان يعيش مع أمثاله في مجتمع مُتّحد الغاية والهدف.
لقد كان المؤرخون العرب يعتمدون دائماً على الإسناد، فيروون الحادثة نقلاً عن فلان وفلان، إلى أن ظهر ابن خلدون، فأحدث انقلاباً جذرياً في دراسة التاريخ وقد جاء يسأل: ما هو التاريخ؟ وكيف نشأ؟ ثم أجاب: إن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ . وانتهى إلى تقرير مؤداه إن التاريخ علم قائم بذاته، له أساليبه الخاصة في البحث عن العوامل التي سيطرت، أو فرضت أحكامها على سيرهِ ومجرياته.
من هو ابن خلدون؟
ولد عبدالرحمن بن خلدون بتونس، في غرة شهر رمضان سنة 732هـ، الموافق 27 من مايو سنة 1332م، وتوفي بالقاهرة في 26 من رمضان سنة 808هـ، الموافق 16 من مارس سنة 1406م. تحدّر من أسرة إسبانية عربية يرجع نسبها إلى قبيلة كندة المشهورة. وكان جدّ هذه الأسرة قد هجر اليمن في القرن التاسع عشر الهجري ونزل إسبانيا. تقلّد عدداً من المناصب الرفيعة في فاس، ثم غضب عليه ولي الأمر، فهجرها إلى غرناطة، حيث انخرط في خدمة السلطان محمد الخامس سنة 1361م، وأوكل إليه السلطان مهمة التوسط في الصلح بينه وبين بلاط الكاستيل.
وبعد سنتين، عاد ابن خلدون إلى المغرب، وشغل فيها وظائف مختلفة إلى أن اعتزل العمل، وسكن قلعة ابن سلامة، التي تسمى اليوم توغزوت ، وتقع شرقي تلمسان بشمالي الجزائر، حيث أخذ يضع مؤلفه في التاريخ، الذي يعرف بـ مقدمة ابن خلدون ، أو كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر وقد بقي هناك في القلعة حتى سنة 1378م. وفي سنة 1384م، عيّن ابن خلدون رئيساً للقضاء في الأزهر بالقاهرة، بأمر من السلطان المملوكي الظاهر برقوق. وفي سنة 1401م رافق ابن خلدون الملك الناصر، خلف السلطان برقوق إلى دمشق في حملته على السفاح تيمورلنك، وقد وفد ابن خلدون على تيمورلنك فأكرم وفادته.
لقد أمضى ابن خلدون الأربع والعشرين سنة الأخيرة من عمره بمصر تحت حكم المماليك، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر في اتجاه الريدانية أو العباسية الآن.
أما عصر ابن خلدون فقد اتسم بالتخلف بعد أن ضاقت فرص التعليم، ورافق ذلك التخلف تداعي مؤسسة الدولة منذ أوائل القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، حيث أصبحت الخلافة تحت رحمة القادة الترك، ثم البويهيين والسلاجقة، وانتهت أخيراً بالهيمنة المغولية الوثنية. وفي سياق هذا الزمن ظهر ابن خلدون، ولم تكن بيئته المباشرة المغرب أقل تداعياً من غيرها.
مفهومه للتاريخ
طور ابن خلدون تعريف التاريخ فعرّفه بقوله فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال… هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير بأن يعدّ في علومها خليق .
إن هذا التعريف يعكس فكرة ابن خلدون عن التاريخ، فهو فن من فنون المعرفة، يحوي أخباراً عن الزمن الماضي، غير أن هذه الأخبار ليست كل شيء في التاريخ؛ إنما هي الصورة التي تبدو لنا، هي محصلة لحركة أخرى في هذا الكون غير مرئية، ولشكل من العوامل وفعلها المفرد أو المتضافر الذي بموجبه تحدث الأحداث الوقائع . فالمحصلة التي نراها في التاريخ -الأخبار- هي بنت الصلة بين الحركة العامة والعوامل الخاصة الظرفية وهي مع الكيفية التي يقع بها الحدث، ويكتب في شكل خبر، تشكل جوهر التاريخ.
إن الصورة النهائية للتاريخ ليست أحادية العامل في التشكيل، إنما هي متعددة العوامل تسهم فيها الحركة العامة والظرف المكاني والأسباب الكامنة وراء الحدث، ثم شكل الحدث، ثم كيفية استكشافه وتقديمه في شكل خبر.
وما يلفت النظر، اختيار ابن خلدون مصطلح العِبر لكتابه في التاريخ، فاستخدامه هذا المصطلح إنما يعبر عن رؤيته للتاريخ التي ترى فيه فناً من فنون المعرفة، أساساً ومؤثراً في الحياة الاجتماعية بصيغة استقبالية؛ لأن وظائفه من النوع الذي لا يمكن لمعرفة أخرى القيام به، من الممكن أن تحاكيه فيها، ولكن من غير الممكن تجاوزه أو إلغاؤه، كما يقول الدكتور نزار الحديثي.
وإذا كان ظاهر التاريخ أخباراً، فالأخبار ليست حالة تكوين نظري، إنما هي صياغة أدبية تسجيلية لحدث حصل في زمن له مستواه في التقدم. فالأخبار -إذاً- تستوجب الرجوع إلى طبائع العمران، فضلاً عن نقد المؤرخ، وتقدير دور التقليد والرتابة في المنهجية المعتمدة من الكاتب، قياساً إلى الزمن؛ لأن التقليد، كما يقول ابن خلدون، جعلهم يجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع من العصور الأُوَل، صوراً قد تجردت من موادها .
هذا يعني عملياً، أن ابن خلدون سجّل كل العناصر التي يتطلبها علم التاريخ مرة واحدة في تعريفه للتاريخ. فتأريخ التاريخ مسألة أساسية يستوجب الانتباه لها. إذ على المؤرخ قبل غيره أن يعيها دائماً، لا بصيغتها كما وضعت يوماً ما، إنما بصيغتها التي تتكون بها في كل زمن. كذلك يفترض في المنهج الذي يتعامل به المؤرخ هو الآخر، أن يكون دائم التطور، يعمل في التاريخ، ويلتقط من محيطه أدوات وظواهر مستجدة، بوظيفتها في منهجية العمل.
الرؤية النقدية للتاريخ
بلغ تطور الرؤية النقدية لدى المؤرخ على يد ابن خلدون درجة عالية من النضج والتطور، حيث حدد المطلوب توافره لدى المؤرخ بالآتي:
1 –
ضرورة استيعابه لجوهر الحدث التاريخي، إذ إنه في باطنه نظر وتحقيق .
2 –
علمه بقوانين الحياة: تعليل للكائنات ومبادئها دقيق .
3 –
معرفته كيفية وقوع الحدث، والقدرة على التصور علم بكيفيات الوقائع وأسبابها .
4 –
معرفة بالفلسفة، لأن علم التاريخ أصيل في الحكمة عريق .
5 –
استيعاب جهود فحول المؤرخين في الإسلام الذين استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها لتمييزها مما فعله المتطفلون من الدسّ والتحريف والتلفيق .
6 –
تجنب التقليد، لأنه يُبعد المؤرخ عن ملاحظة أسباب الوقائع والأصول .
7 – معرفة طبائع العمران في أحواله.
8 –
تجنب التجريد في سَوْق الأحداث للتميز عن المؤرخين الذين نقلوا الأخبار عن الدول والعصور الأُوَل صوراً قد تجردت عن موادها .
9 –
الوعي لمتطلبات العصر، وظهور الكتابة التاريخية ومعرفة أمر الأجيال الناشئة في ديوانها .
10 – معرفة ما يفرضه الهدف من علم التاريخ.
لقد نقل ابن خلدون التاريخ من الحالة مضطربة الموقع بين العلوم إلى الحالة المستقرة، فأصبح له تاريخه ونقده التاريخي وشروطه في الكتابة. وكان هذا كافياً لأن ينقل علم تأريخ التاريخ من مقدمة كتاب المؤرخ إلى البحث المستقل، وينقل التاريخ من مجرد الإخبار إلى فلسفة التاريخ.
لقد انتقد ابن خلدون أكثر المؤرخين لأنهم قلدوا من سبقهم أو أقصروا كتبهم على سرد أسماء الملوك وأعمالهم، ورددوا أخباراً دخيلة، لا يصدقها العقل بل يقوم على فسادها البرهان. ووصف ابن خلدون كتابه كتاب العبر… بقوله: فأنشأت في التاريخ كتاباً… أبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً، وسلكتُ في تربيته وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعته من بين المناحي مذهبياً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنسانيّ من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها… .
فلسفة التاريخ
يرى ابن خلدون، مؤسس فرع فلسفة التاريخ، أن البحث في هذا الفرع يتجه إلى كشف العوامل في صنع التاريخ للوقوف على طبيعة التاريخ، في بُعديه الماضوي والمستقبلي. وقد حدّد هذه العوامل بأنها قوى كامنة في المجتمع، وفي ظرفيه المكاني والزماني: وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك ، أي وصول المؤرخ إلى فَهم أدق للتاريخ عن طريق التسلح بوعي وخبرة أعمق. ويتحقق هذا عند ابن خلدون في الوصول إلى الأسباب الحقيقية وراء الأحداث، ومعرفة الكيفية التي وقع بها الحدث، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، وعن طريق تطبيق المؤرخ الطريقة التاريخية السليمة فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت .
فالمعرفة التاريخية تقررها مسألتان جوهريتان هما: استيعاب العلّية ودقة الطريقة التاريخية المتبعة في كشفها، إذ بهما يتحقق الفهم الدقيق للتاريخ، ويتم تشكيل وبناء المعرفة التاريخية، ويتكون الوعي، وتتحقق الخبرة، وتتم فائدة الاقتداء، لأن التاريخ اكتسب من شروط العلم ما يكفي ليجعله لدقته من علوم الحكمة.
إن اتجاه ابن خلدون إلى دراسة التراكم التاريخي للمعرفة مضمون التاريخ هو الاتجاه السليم لإرساء أساس لفلسفة التاريخ؛ فالفلسفة هنا تسعى لفهم ما ينظم هذا المضمون ويعطيه دلالاته، ويجعله موضع اعتبار وعبرة في حياة الشعوب، وهو سعي يختلف عن سعي الفلاسفة الآخرين الذين اتجهوا إلى تحكيم قواعد وقوانين خارجية على مضمون التاريخ.
ويرى ابن خلدون أن الاكتفاء بحدود الأخبار ليس هو التاريخ. فالتسجيل هو الجانب السلبي فيه. أما إذا كان المطلوب هو التأريخ ، فالتوجه يجب أن يتجاوز التسجيل ويذهب إلى معرفة لماذا وقع الحدث، وكيف جاء الإخبار عنه، ولماذا تمت صياغة الخبر بهذا الشكل، وما هي النتائج التي تترتب على حركة التاريخ؟
والذي يمارس كتابة هذا النوع من التاريخ هو فيلسوف؛ لأن عمله يقع أصلاً في حقل الفلسفة الحكمة . فالعِلِّية، كما يراها ابن خلدون، حالة مستترة خلف الحدث، وإظهارها يستوجب مراناً يتزود به المعنيّ بالمعرفة في بُعدها الماضي، ومراناً على قراءة الخبر. بمعنى تنشيط عملية ذهنية تحلل الخبر، وتبحث في خلفياته عن مبتغاها، والخروج بالحدث من دائرته الذاتية، بعد استيعابها إلى دائرة أوسع، هي عصر الحدث، أي التدرج في كشف ارتباطاته. ثم إخضاع كل المعلومات المتحصلة للتحليل والتدقيق، وإعادة تقديم الخبر في ضوء هذا البحث، بحيث يُفصح عن نفسه ويؤكد أنه هو الصورة الأقرب إلى الحدث لحظة وقوعه، ومن ثم الخروج بحكم تاريخي عام وشامل. فابن خلدون يعطي التاريخ دوراً للفعل في ذهن القارئ والتأثير فيه عن طريق تكوين قناعة لديه بأن ما يقرأ هو التاريخ.
إن مثل هذه القواعد، تستلزم بالضرورة مراناً في علوم ومعارف مساعدة كثيرة. يجب أن يُتقن المؤرخ التعامل بها واستخدامها كوسيلة من وسائل التحليل والقياس.
وتعتقد الباحثة الدكتورة زينب محمود الخضيري في كتابها: فلسفة التاريخ عند ابن خلدون أن ابن خلدون فرّق بين نوعين من التاريخ، الأول: علم التاريخ أو فن التاريخ، في ظاهره، والثاني: فن التاريخ، في باطنه.
فالنوع الأول، عبارة عن سرد أحداث الماضي والكلام عن الدول المختلفة، كيف قامت واتسعت ثم زالت. هو -إذاً- التاريخ بمعناه العام.
أما النوع الثاني، فهو فرع من فروع الحكمة أو الفلسفة؛ لأنه يبحث في أسباب الأحداث والقوانين التي تتحكم فيها. وهذا الوجه الآخر لفن التاريخ هو الذي يسمى اليوم بـ فلسفة التاريخ .
آراء منصفة وأخرى مزرية
درس المؤرخ ساطع الحصري، (1880 – 1969م) مقدمة ابن خلدون دراسة وافية، وقارنها بمؤلفات كل من فيكو و مونتيسكيو وغيرهما، فجاء كتابه دراسات في مقدمة ابن خلدون من أروع الكتب الحديثة التي كشفت نقاطاً حسّاسة كانت غامضة عن ابن خلدون. ويرى الحصري أن نزعة ابن خلدون الفكرية كانت أقرب من نزعة فيكو إلى مناحي البحوث العلمية بوجه عام، وإلى أصول علمي التاريخ والاجتماع بوجه خاص.
كما يرى الحصري في القول إن شرف إدخال عنصر الاقتصاد في علم التاريخ يعود إلى مونتيسكيو، ما هو إلا افتراءات على الواقع والحقيقة، وإن هذا الشرف هو في حقيقة الأمر يعود إلى ابن خلدون الذي سبق مونتيسكيو في هذا الشأن بمدة تزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة .
أما المؤرخ البريطاني الشهير آرنولد توينبي (1889 – 1975م) فقد وصف ابن خلدون بأنه من العباقرة، ويرى في مقدمته دلائل ساطعة على سعة النظر وعمق البحث وقوة التفكير ، وذلك لأن ابن خلدون في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام قد أدرك وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ، وهي بلا شك أعظم عمل من نوعه، خلقه أي عقل في أي زمان ومكان . وقال روبرت فلنت: من وجهة نظر علم التاريخ وفلسفته، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم الأوروبي في القرون الوسطى، يستطيعان أن يقدما اسماً يضاهي في لمعانه اسم ابن خلدون .
أما ماكدونالدز فيقول: إن مقدمة ابن خلدون أساس التاريخ، وحجر الزاوية فيه. وهي مقدمة تاريخية فلسفية لم ينسج أحد على منوالها حتى علماء اليونان والرومان وغيرهم .
ويرى دي بور أن المؤرخين القدماء لم يورثونا التاريخ علماً من العلوم يقوم على أساس فلسفي، على الرغم من جمال أسلوب بعضهم، وأن القدماء كانوا يعللون عدم بلوغ الإنسانية منذ زمن بعيد درجة أعلى مما بلغته في المدنية، بالاستنتاج أن حوادث أولية كالزلزال والطوفان، وإلى أن المسيحية كانت تعد التاريخ بوقائعه، تمهيداً لملكة الله على الأرض. أما ابن خلدون، فكان أول من حاول أن يربط بين تطور المجتمع الإنساني من جهة، وبين علله القريبة مع حُسن الإدراك لمسائل البحث وتقديرها، مؤيدة بالأدلة المقنعة .
غير أن بعض المستشرقين، روج عن ابن خلدون فكرة مغلوطة مآلها أن هذا الفيلسوف الكبير لم يلتزم في تاريخه بالقواعد التي وضعها في مقدمته، بل كان يجمع الأخبار ولا يكترث بالسند ولا بالمتن. كما أزرى بالمقدمة فريق آخر من الباحثين؛ لأنها تطرقت إلى مواضيع كان ينبغي أن يترفع عنها هذا العبقري، وألاَّ يدع لها مكاناً في كتابه القيّم، وكادوا من أجل بعض الفصول أن يذهبوا بجميع مزايا المقدمة، وأن يبخسوها حقها.
تجديد يبرر الشهرة
ارتكزت شهرة ابن خلدون على مقدمته، إذ وردت فيها لأول مرة نظرية النشوء التاريخي المبنية على الأخذ بعامل المناخ والجغرافيا، وتأثير العوامل الخلقية والروحية في مجرى حوادث التاريخ. وقد قال ابن خلدون عن نفسه في مقدمته إنه مخترع طريقة مبتدعة في علم التاريخ والعمران، وذلك من حيث سعيه للبحث عن قوانين التقدم والانحلال القومي، وقرر في تعريفه للتاريخ عدة أمور جوهرية:
1 –
إن التاريخ علم، وهو كأي علم له قواعده، سواء في المفهوم أو الصياغة النظرية للمفهوم، أو في الكتابة، أو آلية التحقيق.
2 –
إن آلية التحقيق، أو لنقل عمل التاريخ ليست آلية حتمية، بل آلية تحويلية، بنت عناصر أساسية أبرزها طبيعة العمران في الزمن المعين والمكان المعين. فالحدث هو نوع من عمل التاريخ، ودور الأذراف فيه دور تاريخي، ومن ضمنهم المؤرخ.
3 –
إن الطريقة التأريخية ذات أسلوب نقدي خاص، تتحد عناصر الأساسية في: المؤرخ، ومفهوم التاريخ، وأسلوب الكتابة التاريخية، واستيعاب الخبر والوعي بما خلف الخبر من صلات غير منظورة للخبر ببيئته المكانية والزمانية.
4 –
إن التاريخ يحوي عمقاً فلسفياً متعدد الأبعاد، يتجاوز حدود العمق في المفهوم، بما يكفي للتميز بين المفهوم المباشر للتاريخ، والمفهوم غير المباشر له. باعتبار أن التاريخ هو الزمن المتحدّ في واقع، بما يكفي ليجعل حدثاً معيناً يقع بهذه الصورة وليس بصورة أخرى.
5 –
إن للتاريخ دوراً استقبالياً، فهو يهتم بالماضي، لا لذاته، ولكن للوعي وللمستقبل لطالما أن التاريخ عِبَر ، والعبر تعمل مع الآتي، لكي يكون كما نريد. لقد أراد ابن خلدون أن يستخدم التعليل أداة في كشف العلة في الحدث واستخلاص الأسباب المحركة للتاريخ؛ أي أنه أراد إعادة ترتيب الماضي ليقدم لنا منه صورة غير مسجلة؛ إنما مستخلصة.
إن تركيز ابن خلدون على أن التاريخ هو خبر عن الإجماع الإنساني، يعني عملياً أنه أخرجه من حيازة كل العوامل الأخرى، وأرجعه إلى النشاط الإنساني، وفي الوقت نفسه، حرّر التاريخ من الطبيعة التسجيلية. فعندما يكون التاريخ خبراً عن النشاط الإنساني فإنه لا بد أن يحمل أثر طبيعة المجتمعات. فالمجتمع كيان حي، ينمو ويتطور.
ويرى ابن خلدون أن التاريخ في ظاهره لا يزيد على الأخبار عن الأيام والدول .. ولكن في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأساسها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعدَّ في علومها خليق .
كما وضع ابن خلدون الأسلوب التاريخي وهو يرى الأغلاط التي وقع فيها الذين سبقوه، وأرجعها إلى عدة أسباب أهمها، تشيّع المؤلفين وتصديقهم لكل ما يرد من دون تمحيص، وجهلهم بطبائع العمران وأحوال الناس. ولا يقف ابن خلدون عند هذا الحد، بل نراه يضع القوانين لدراسة التاريخ كربط الحوادث بعضها ببعض، ارتباط العلة بالمعلول، وقياس الماضي بقياس الحاضر، ثم مراعاة البيئة واختلاف تأثيرها باختلاف الأقاليم.
لقد اتخذ ابن خلدون من المجتمع كله، ما يعرف فيه من الظواهر، مادة لدراسته، وحاول أن يفهم هذه الظواهر، وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب من سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. وهذا ما جعل الباحثين يقولون بتفوق ابن خلدون على ميكافيللي (1469 – 1527) تفوقاً عظيماً في التفكير ونوع النتائج.
وصفوة القول، إن العلاًّمة ابن خلدون هو الذي مهّد الطريق أمام علماء التاريخ ونقاده. فهو -إذاً- في عداد كبار طلائع المؤرخين الفلاسفة. وفي الحقيقة أن العالم كله لم يشهد رجلاً يماثله في هذا الميدان حتى لا أرسطو ولا أفلاطون.
ويزيد في قيمة ابن خلدون العلمية والفكرية أنه كان يعمل من دون مساعدين. وأنه رغم الظروف الخاصة التي أحاطت به، خرج إلى العالم بهذا النجاح الهائل المدوي في نتائج أبحاثه ودراساته.
لقد قامت شهرة ابن خلدون على المقدمة العظيمة التي وضعها لتاريخه، فكانت فتحاً جديداً في الثقافة العربية والإسلامية لم يعهده الناس من قبل. وانكب العلماء والباحثون على دراسة ما فيها من أصول لعلم الاجتماع وقواعد لفلسفة التاريخ. فخصها طه حسين بدراسة عن الفلسفة الاجتماعية، وضعها باللغة الفرنسية، ونقلت إلى العربية.
وعرفت دمشق في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين حلقات يلتقي فيها الطلاب والشباب حول إمام من أئمة العلم ليقرأوا عليه المقدمة وليشرح لهم بعض ما استغلق عليهم من معانيها ومبانيها. ولما أدخلت الفلسفة الإسلامية مادة أصلية في الدراسة الثانوية، انحلت هذه الحلقات بطبيعة الحال، كما يقول الأستاذ الدكتور ظافر القاسمي.
كان ابن خلدون شاهداً على عصره، فاختار لإنجاز عمله طريقة تاريخية مبتكرة، مركزاً فيها على البعد التبشيري للعلماء والخاصة على السواء، مع الحرص على ترتيب وتبويب خاص غير مألوف في التأليف التاريخي، سالكاً فيه أسلوباً في العرض والتحليل، ومعتمداً الأخبار مادة أولية لعمله.
وختاماً نذكر أن العلاَّمة ابن خلدون قد سجل بنفسه تاريخ حياته في كتابه المعروف الرحلة الذي حذا فيه حذو الرحالة الشهير ابن بطوطة.
اقرأ عن ابن خلدون
رحلـة ابن خلــدون
يقول الكاتب الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو في تعريفه للكتب الكلاسيكية إنها الكتب التي يتمنى كل واحد منّا أن يكون قد قرأها، ولكن لا أحد منا يمتلك الجَلَد اللازم لقراءتها . وبمعنى ما، قد يكون كتاب العبر لابن خلدون من هذه الكتب الكلاسيكية، التي أصبحت قراءتها محصورة في عدد محدود من المتخصصين في التاريخ وفلسفته. ولكن في المقابل، من الممكن جداً أن يكون كتاب رحلة ابن خلدون من الكتب الممتعة الموجهة إلى شطر من القرّاء أعرض بكثير من جمهور المؤلف الخلدوني الكبير.
فهذا الكتاب لابن خلدون هو عمل قائم بذاته، ظل طوال الوقت ملحقاً بكتاب العبر ومتوارياً في ظله المديد، ولم تتبلور صورته كتاباً مستقلاً إلا بمجهود العالم المغربي محمد ابن تاويت الطنجي المتوفى سنة 1963م، والذي صرف نحو سنوات عشر في تحقيقه ومقابلة مخطوطاته العديدة مع المصادر المعاصرة له والسابقة عليه.
ويتضمن هذا الكتاب الذي يقع في 560 صفحة جزءاً يمكن اعتباره بمثابة ترجمة شخصية، أما الجزء الأكبر فهو عبارة عن رسائل، ويوميات صاحب المقدمة خلال أسفاره ورحلاته المتكررة ما بين المغرب والأندلس، ورحلته إلى المشرق العربي، نحو مصر أولاً، فالجزيرة العربية لقضاء فريضة الحج، ثم الحج إلى بيت المقدس، وأخيراً رحلته المثيرة إلى دمشق أثناء غزو التتار للمدينة سنة 803هـ – 1400م. وبالتالي، فهو تعريف – سيرة ذاتية، وكتاب رحلة معاً. ظل ابن خلدون يضيف إليه ويبدِّل في نُسخه حتى أواخر أيام حياته. ومن هنا، من كثرة الإضافة إلى النسخ، فضلاً عن ارتباط الكتاب بكتاب آخر، تسبب ابن خلدون لقرّائه بتلك الحيرة من أمر الكتاب وهويته المستقلة.
وينبهنا المحقق ابن تاويت إلى مسألة بالغة الأهمية، ولعلها كانت من بين دوافع ابن خلدون لكتابة التعريف بنفسه، مفادها أن رأي ابن خلدون في نفسه ورأي معاصريه فيه، في مصر بوجه خاص، لا يكادان يلتقيان.
والمتتبع لمسار رحلة ابن خلدون يكتشف أنها تنقسم إلى قسمين كبيرين، الأول: رحلاته في بلاد المغرب (تونس، الجزائر، الأندلس، المغرب الأقصى) والثاني رحلاته في بلاد المشرق (الإسكندرية، ينبع، مكة المكرمة، دمشق، صفد، بيت لحم، غزة، القدس،…).
رحلته الدمشقية المثيرة للجدل
ولعل أكثر الصفحات إثارة للدهشة والحيرة في هذه الرحلات هي تلك التي خصها لأخبار رحلته الدمشقية، واجتماعه إلى الغازي التتري تيمورلنك عندما كان يحاصر المدينة. ولا بد أن يتوقف القارئ ملياً أمام هذه الصفحات التي لا تزال موضع جدل وتحليل حتى يومنا هذا، بسبب حسن العلاقة بين هذا الغازي الهمجي والعلامة العربي الذي وثق به وبوعوده بعدم إيذاء أهل دمشق إذا قرروا الاستسلام لجيشه. حتى أن ابن خلدون يعبر هنا عن خشيته على نفسه من أذى الرافضين للاستسلام. والمثير للاستغراب أكثر هو أن ابن خلدون لم يطمس لاحقاً ما كتبه عن تيمورلنك، ولا عن دوره في التشجيع على الاستسلام والاطمئنان إلى وعود التتار، رغم أن واقعة سقوط هذه المدينة العظيمة تحت سيوفهم هي واحدة من الوقائع الأكثر شؤماً في تاريخها، لما شهدته من فظائع صارت مضرب مثل في الهمجية.
في هذه الصفحات، نص قيّم يعكس أحوالاً شخصية لعالِمْ كبير في برهة غير شخصية أبداً، ويحمل دلالات استثنائية في حركة الكاتب والمثقف باتجاه العمل السياسي المباشر. في هذه الصفحات يمكننا أن نقف على نموذج لسلوك المثقف، ولا نغامر بإطلاق توصيف جازم في رخاوته، لكن لا بد من التأمل فيه لفهم ظواهر حديثة تتعلق بأداء المثقف الذي يواجه فجأة حالة تفرض عليه الانتقال من الفكرة السياسية المجردة إلى مواجهة المسائل السياسية الميدانية.
رحلة ابن خلدون (1352 – 1401)
تحقيق محمد بن تاويت الطنجي
حررها وقدم لها نوري الجراح
صدرت عام 2003م عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.