يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر «القافلة» بقصيدة من آخر ما كتب.. أو قد تختار «القافلة» قصيدة لشاعر معاصر.
ابن خفاجة
صخب حياة وجنون موت
يستضيف ديوان اليوم ديوان الأمس الشاعر السعودي زكي الصدير، ليقتنص من ديوان الأمس متمثلاً في ديوان ابن خفاجة التساؤل الفلسفي حول الموت والحياة. مقدماً لنا قراءة مختلفة عن الصخب والجنون في الحياة والموت. إنها قراءة بعيدة عن الخوف الذي يثيره الموت في النفس..قريبة من الصخب الماتع الذي تثيره الحياة. قراءة في الطبيعة والليل.
لا يذكر الشعر الأندلسي حتى يتقدم ابن خفاجة «450-533 هـ» صفوفه بأجمل حلله، ليزيّن تفاصيل عصر ملوك الطوائف بجنون المرايا وقلق الأسئلة الوجودية في قريته الجميلة الصغيرة «شقر» التي ولد بها بالقرب من بلنسية، هذه القرية التي وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان قائلاً: «هي أنزه بلاد الله وأكثرها روضة وشجراً وماءً». والتي سيطر عليها الإسبان لاحقاً ليخرج ابن خفاجة منها ويتغرّب عنها زمناً طويلاً فلا يعود لها إلا بعد أن يستردها يوسف بن تاشفين. الأمر الذي يجعلنا أمام غنائيات كثيرة تصادفنا في ديوانه تجاه الوطن والأرض والحنين له والشوق إليه.
حين يكون الموت موقفاً:
يبدو لنا، ونحن نطالع ابن خفاجة، شاعر محمّل بالهم الوجودي، وبالتساؤل الفلسفي عن الموت والنهايات، لا سيما في تلك القصائد التي قالها بعد الخمسين من عمره. ولو تأملنا قصيدته المشهورة في وصف الجبل التي مطلعها:
بعيشــكَ هل تدري أهوج الجنائب تخب برحلي أم ظهور النجائب
لوجدنا هذا المعنى حاضراً بشدّة فيها، فهي ذروة في التعبير عن هذا الهم الإنساني الذي يعتصر قلب الشاعر ويسحقه لعدم قدرته على توصيف إجابات مقنعة بالنسبة له. فالجبل في النص هو ابن خفاجة «أو ما يتمنّى أن يكون» حتى تمرّ عليه صروف الدهر دون أن تؤثر فيه، فيبقى والأشياء من حوله تزول وتفنى.
هذه الفوبيا الحاضرة دائماً من الموت والنهاية جعلت ابن خفاجة يخرج لجبال قريته شقر ليهتف كل ليلة «يا إبراهيم تموت» –يخاطب نفسه- ويجاوبه الصدى، فما زال كذلك حتى يغشى عليه.
إنّ هذا الهاجس من الموت ليس جديداً، فلقد كان مرافقاً لشعراء سبقوه، ولشعراء جاؤوا بعده، ألم يقل أبو ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيــــتَ كـــــل تمـــــيمــــةٍ لا تــــــــــنــفــــــعُ
ولو تتبعنا بعض ما أنجزه شعراء العصر الحديث لوجدنا هذا الهم الفلسفي حاضراً في تفاصيل نصوصهم وفي الكثير من يومياتهم ودواوينهم، فها هو الراحل محمود درويش يفرد ديواناً كاملاً ليعالج قلقه تجاه النهايات، الأمر نفسه وجدناه قبله لدى شاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي حين بثّ تأمله في قصيدة الطلاسم المشهورة.
الموت هاجس إنساني ملازم لا يمكن الفكاك منه، لهذا نبصر شاعرنا الفنان يتحسس في معظم قصائده من هذا الكائن الغيبي، ويحاول أن يحاوره أحياناً، أو يشتكي إليه ومنه ومن حتميته في أحايين أخرى.
ولعلّ قصيدة «سرحة وادٍ» تحمل شيئاً مبطناً من هذا الحضور الماورائي في وعي الشاعر، خصوصاً في المقاطع الأخيرة من النص عندما يقف ابن خفاجة موقفاً قلقاً من الشيب والكبر ليس في هذه القصيدة فحسب بل في قصائد أخرى:
وأيّــــة شــــــيــــــبة إلا نذيـــــــــــــــرٌ
فــــــهـــــل طــــــرب وقد مــــــثلت خطيبا
الشيب في هواجسه هو نذير الموت وداعيه، إنه المبشر بالمصيبة، غير أنه مع ذلك أخف وطأً منه:
وقد خفّ خطب الشيب من جانب الردى فـــــصارت به الصــــــغرى الـــــتي كانت الـــــكبرى
رغم ذلك كله يحاول ابن خفاجة تسلية نفسه بأنه «أي الشيب» وقار وزينة للرجل، لكنه لا ينسجم كثيراً مع هذه التعزية، فالنذير يرعبه بمملكة الموت القادم:
وكل امرئ طاشت به غرة الصبا
إذا مــــــــــــــــا تحلّى بالمشيـــــــــب تحــــلّما
ابن خفاجة وهو يعيش هذا القلق كان ملتفتاً إلى التسلسل الحياتي الطبيعي، فالزمن يحيل للكبر، والكبر للشيخوخة والموت. إنه يسمع ابن دريد وهو يردد:
إن الجديدين إذا ما استوليا
عـــــــلى جــــديـــــدٍ أدنـــــياه للبـــــــلا
هذا القلق ليس غريباً، فكل الناس يستشعرون بداخلهم هذا المصير الوجودي، غير أننا– هنا- أمام شاعر أحسه وامتزج معه فلسفياً منذ طفولته المبكرة، لذا عاش الموت ساعة بساعة ولحظة بلحظة في كل نفس، ومع كل طرفة عين.
إن هذا الهاجس من الشيب والهولة وانحسار الشباب والإحساس بالموت جعلت للذكريات طعماً خاصاً لديه، طعماً من نيران ولظى ترعبه وتخيفه، فهو يتحسس ويراقب على الدوام نحول جسمه، وضعف بدنه وبعض أعضائه:
فآهٍ طويلاً ثمّ آهٍ لكـــــــــــــــــــــبرةٍ
بـكـــــــــيـــــــتُ علــــــــى عهــــــدِ الـــشبــــــــــابِ بها دمـــــا
وقد صدئت مرآة طرفي ومـسمـــعي
فما أجدُ الأشـــــياءِ كالعهدِ فيهمــــــــــا
وهل ثقة في الأرض يحفظ خلـــــــةً
إذا غدرا بي صاحبانِ همــــــــا همــــا؟!
قصيدة «سرحة وادٍ» يمتزج فيها هذا القلق بالحنين إلى الأرض والوطن ليوازن عوالمه، ويشعر بأمان الأرض تجاه الزمن المترصد له بمناياه. إنه يحتمي بالمكان من الزمن.
الطبيعة بوصفها كائناً
المكان المتمثّل بالطبيعة في قصيدة ابن خفاجة إنسان صديق يلجأ إليه الشاعر ليتحاور معه، ويبث له همومه ومعاناته. ولعلنا نلمس هنا كيف أن صورة البرق أثرت في نفسيته:
لكَ اللهُ منْ برقٍ تراءى فسلّمـــــــــــا وصافحَ رسماً بالعذيبِ ومعلَمــــــــا
إذا ما تجاذبنا الحديثَ على السّـــرى
بكيتُ على حكمِ الهوى وتبســـــّمـــــا
هذه الطبيعة ليست دائماً ضاحكة طروباً كما يرى الدكتور جودت الركابي في كتابه «في الأدب الأندلسي»، بل هي أحياناً– إن لم تكن غالباً- تتألم استجابة لمشاعر الصديق الشاعر الذي جاء يشتكي لها:
فسلّى بما أبكى وسرّى بما شجــا
وكان على ليل السرى خير صــــــاحبِ
والطبيعة في شعر ابن خفاجة إنسان متشكّل يقبل جميع الصور، ويتقمص كل الأدوار المطلوبة منه، ولعل هذا الحضور للطبيعة في نصوصه هو الأمر الذي حاز به قصب السبق في أنسنتها والتماهي معها، فهي البرق والشجر والطير والعين والركاب.
ولم يكتف ابن خفاجة بذلك بل ذهب لتصنيف قصائده وجمعها وعنونتها مطلقاً عليها أسماءً مستوحاة من قلب الطبيعة التي أحبها: «نارنج في أغصانه، كواكب محترقة، روضة وغدير، الحديقة» إلى آخر هذه العناوين التي تعكس هذا المعنى خصوصاً إذا ما عرفنا أن ابن خفاجة قام بتصنيف وعنونة ديوانه بنفسه.
الليل… الرمز المخاتل
لا شك أن الرمز هو وسيلة تعبير لما يختلج في اللاشعور، وبالتالي فهو وسيلة إدراك للشيء الذي لا يجد الشاعر معادلاً لفظياً له، وهو عبارة عن الإشارة إلى شيء معنوي عبر شيء حسي، والرمز في الأسلوبية الجديدة هو نفسه الاستعارة والمجاز في البلاغة.
من هنا فإن اشتغالات ابن خفاجة الشعرية ملغمة بتلك الرموز التي تتعلق بالنهايات والظلام والعدمية والمجهول. ويختار ابن خفاجة مشهد الليل ليفتتح به العديد من القصائد:
وليل إذا ما قلـــــــت قد باد فانقضى تــكشف عن وعد من الــــظن كاذب
ويقول:
وليل كمــا مدّ الغراب جنــــــــــاحه وسال على وجـــه الســــــجل مداد
ويقول:
في ليلة قد بات يلمس تحــــــــــــتها
حبـــراً لسان البارق المــــــــــــتوّقد
ويقول:
وليل تعاطينا المدام وبينـــــــــــــــنا حديث كما هبّ النـــسيم على الورد
ولو تقصينا الديوان لوجدنا الكثير من القصائد التي وظف ابن خفاجة فيها مفردة «الليل»!!
الليل هنا رمز حاضر في وعي الشاعر، إنه لا يعنيه– أبداً- هذا الليل الزمني الذي يأتي بعد النهار، إنما يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حين يرى فيه ذلك الكيان المجرد المعنوي الذي يرمز إلى كل ما يهم الإنسان ويزعجه، وكأن هذا الليل هو المارد الذي يريد أن يلتهم الشاعر ووطنه.
لليل دلالات كثيرة تتجلى وحسب قراءة معانيها لدى المتلقي الذي يعيد صناعة الرمز، بيد أن إحدى دلالاته التي لا تنفك عنه هي دلالة اللون، فالسواد هو ثوب هذا الكائن المخيف، واللون الأسود هو الآخر يعبر عن حضور تجريدي له دلالاته النفسية في القصيدة.
يحدثنا كل من أرّخ لابن خفاجة أنه عاش طورين مختلفين في حياته الطويلة، الطور الأول تمثل في حياة الشباب المشاكس اللامبالي، الذي أخذته الدنيا بتنوع مفاتنها، وشملته بنعيم حظوظها، فانساق لها انسياق الراغب. وأما الطور الثاني فكان طور المشيب والكبر، فكان فيه سالكاً مسلك الرشاد، يكره أن يسمع من أحد ما كان من ماضيه، إلى درجة أنه عاتب بقصيدةٍ الفتحَ ابن خاقان عندما بلغه أنه تعرض له في كتابه «القلائد» وذكر أيام شبابه ومجونه:
ما للصديق وقيت تأكل لحمه
حياً، وتجعل عرضه منديلا
ومع ذلك، كان في الطورين ذلك الإنسان المغترب الباحث عن الجمال والواصف له وللأشياء من حوله بعيون ترى ما لا يراه الآخرون.