رغم إقرار الجميع بأهمية الابتكار في تطوير وسائل العمل وأدواته وحتى في تطوير الحياة ككل، هناك شيء من الضبابية لا يزال يكتنف هذا المفهوم عند الكثيرين. وغالباً ما نربطه في أذهاننا بجوانب محددة منه دون أخرى، وكثيراً ما نتعاطى معه وكأنه شأن يخص مجموعة من المتفوقين، هم وحدهم المستفيدون منه.
فريق القافلة يعرض لنا هنا صورة شاملة عمّا آل إليه مفهوم الابتكار في العصر الحديث. ويكشف حجم التحولات الهائلة التي طرأت عليه، بحيث أصبح قوة دفع اقتصادية للأفراد والشركات والأوطان ككل، وصناعة بحد ذاتها لا تقل شأناً عن الثروات الطبيعية والصناعات الأخرى.
أنا أبتكر إذن أنا موجود..
طبعت الابتكارات عصرنا الحاضر، وتعززت مكانتها بوصفها من أهم مصادر الثروة، ويعتبر البعض الابتكار مصدرها المضمون الوحيد. وقد أخذت الشركات الحيّة تبذل جهوداً كبيرة لتشجيع الأفكار الجديدة والجريئة، وتؤمِّن المناخ الملائم الذي يضمن لها أسباب النجاح، حتى أصبح الأمر شرطاً لا غنى عنه في الصمود أمام المنافسة.
وقد أصبح للابتكار بند رئيسي في ميزانيات الشركات، ورصدت للجهود الابتكارية المخصصات اللازمة التي تتوزع بين نشر “ثقافة الابتكار” داخل الشركة وتأمين المستلزمات الضرورية التي تسمح للمبتكرين بتحقيق أحلامهم. وعلى عكس ما كان عليه الحال في الماضي، عندما كان المبتكر يبحث جاهداً عن جهة تموّل أبحاثه وتوفر له الإمكانات التي يحتاجها، أصبحت الإمكانات في يومنا هذا هي الساعية وراء الابتكار أكثر مما هو ساعٍ وراءها. فقد مضى الزمن الذي ترفض فيه شركة تمويل ابتكار لمجرد بعض النواقص فيه. وكم سمعنا من نوادر قديمة في هذا السياق رفضت فيها شركة ما تمويل مبتكر، وندمت لاحقاً على ذلك مُرّ الندم. ومنها على سبيل المثال – والأمثلة كثيرة – ما ورد في مذكرة لشركة “وسترن يونيون” تعليقاً على مشروع تمويل جهاز الهاتف، وجاء فيها: “هذا الهاتف مليء بالنواقص كوسيلة اتصال. إنه جهاز لا قيمة له عندنا..”.
لقد أعطت التحولات التي شهدها عصرنا أصحاب الأفكار قوة ومكانة لم تكن لهم من قبل. فليس في دنيا الابتكار صغير، فرداً كان أم شركة. وللشركات الصغيرة التي تنجح في تحقيق أفكار ابتكارية مكانة تحسدها عليها الشركات الكبيرة أحياناً. فهي تستطيع أن تختار بين التحوّل إلى شركة كبرى بسرعة مذهلة كما حصل فعلاً في حالات عديدة معروفة، وبين بيع أفكارها ومبتكراتها للشركات الكبرى والعيش في رغد المداخيل المريحة ضمن حجمها الصغير.
الابتكار ووسائله
طغت الابتكارات الإلكترونية على الحياة الاقتصادية في العقدين الأخيرين، وتسارعت وتيرة ظهور الجديد فيها بشكل مذهل، وأهم أسباب ذلك أنها هي نفسها تحولت إلى أكثر أدوات إنجاز الابتكار فاعلية… الابتكار في جميع المجالات الأخرى.
فالكومبيوتر ابتكار للعصر ولكل ابتكار فيه، وذلك لما يوفره من مساعدة على البحث، وفي تسريع العمليات المطلوبة للوصول إلى النتائج. وغدت السرعة في إنجاز الابتكار الشغل الشاغل للشركات المتفوقة في العالم، لما لذلك من دور في السباق التنافسي. حتى قيل إنه في هذه الأيام لم يعد الكبير يطغى على الصغير، بل السريع على البطيء!
الابتكار أو الاندثار
في مجتمع اقتصادي تشتد فيه المنافسة على الأسواق، لم تعد الشركة، أية شركة، تستطيع أن تبقى وتستمر من دون تطوير منتجاتها وخدماتها، بل وأنماط إدارتها لأعمالها في أي مجال من المجالات. وكلما وجدت شركة من الشركات نفسها في وضع تراجعي يصبح الابتكار ملاذها الوحيد: الابتكار أو الاندثار.
قد يكون الابتكار منتجاً جديداً، أو تطويراً في صُلب المنتج، وقد يأتي التجديد في مظهر المُنْتَج الخارجي فقط، لا يضيف عليه سوى جاذبية الشكل. ومن الأمثلة المعروفة على هذا ما قامت به شركة “أبل” حين وجدت مبيعاتها تتراجع، وحصتها في السوق تضمر، فجاء إنقاذها عن طريق ثورة قادها رئيس جديد للشركة، وطالت تصميم الجهاز، فغيّره من جهاز رمادي رتيب إلى جهاز عصري جذّاب المظهر لافت في شكله وألوانه. فصنع بذلك التحول الذي أنقذ “أبل” من مصير محتوم. والحقيقة أن جمال المُنْتَج لم يعد يؤخذ بالخفة نفسها التي كانت تميّز النظرة إليه من قبل. ذلك أن التجديد أصبح شبه حاجة يتطلبها الإنسان، وسبباً لشحذ الرغبة في الاستخدام، أو الحماسة للاستخدام، وقيمة مضافة إلى المنتجات، بما في ذلك أكثرها تخصصاً وتقنية.
ولا يحتاج الموضوع إلى عارفٍ متعمّق لكي يدرك أهمية التجديد والابتكار في زيادة مبيعات الشركات وأرباحها وتأثيرها في اتجاه الأسواق. يكفيه أن يتذكر ما يقرأه في الصحف عن شركات تفوّقت منتجاتها، كبرامج الكومبيوتر، أو أجهزة الهاتف الخليوي أو أصناف الأدوية الجديدة أو غيرها، حيث التجديد في المنتج أو إضافة منتج جديد يضاعف من مبيعاتها ويضعها في المرتبات الأولى في الأسواق. ولا شك في أن الروح الابتكارية هي التي أوصلت شركة مثل “مايكروسوفت” إلى المكانة التي لا ينافسها فيها أحد اليوم.
يقول مؤسسها “بيل غيتس”، الذي غدا رمزاً لنجاح الأفكار الجريئة، “لم يقدم الابتكار في أي وقت مضى من تاريخ الإنسانية هذا القدْر لهذا العدد من الناس، وفي هذا الوقت القصير”.
وتساهم الابتكارات الجديدة، في الوقت الذي تُضاعف فيه أرباح الشركات، في إعطاء الاقتصاد الوطني نفسه شحنات جديدة من الحيوية والقدرة من خلال تعزيز الشركات الوطنية وقدراتها على التنافس مع شركات من بلدان أخرى. وقد جاء في دراسة لمجلة “الإيكونومست” أن الابتكار يقف وراء نصف حجم النمو في الدخل القومي في الولايات المتحدة وبريطانيا. كما تبيّن هذه الدراسة نفسها أن الشركات التي تنجح في تحقيق ابتكار تجني ضعفي أرباح الشركات الأخرى، وتتمتع دائماً بمؤشر نمو عالٍ. والمتفوقة منها تحقق أربعة أضعاف المردود للمساهمين. باختصار، لقد غدا الابتكار الفرس الذي يضع أي شركة في الطليعة، ويقول هارولد ماك ألندون في هذا السياق: “قادة العالم في الابتكار والإبداع هم قادة العالم في كل شيء آخر”.
الحاجة أُمّ … الاثنين
غالباً ما يطلق الابتكار – بمعناه المحدد – على تطوير في المنتج، أو تجديد في أسلوب الخدمة أو إنجاز الأعمال. وبذلك يتميّز عن الاختراع الذي يكون ثمرة جهد طويل ويكون اكتشافاً محدداًً بالمعنى الكامل للكلمة. ولكن الابتكار، مثل الاختراع، ينتج عن حاجة في أغلب الأحيان. ولذا تبقى الحاجة هي نفسها أمّ الاختراع والابتكار معاً. والصورة الأدق في وصف الابتكار تقول إنه غالباً ما يخطر على البال خلال السعي إلى التغلب على صعوبة ما في خضم العمل. والمبتكر قد يكون أي إنسان تخطر له فكرة ما تجعل أداءه أكثر فاعلية، أو سرعة، أو سهولة، أو أقل تكلفة، فيبحث عن تفصيل يطوّره ليحقق هذا الهدف الذي لا يتجاوز مجرد تحسين في المُنتج. ولكن قد يكون لهذا التحسين فوائد كبيرة في الاستخدام. فليست الأفكار الابتكارية كلها من النوع الذي يحصل على براءة اختراع أو ما شابه ذلك. قد تكون أحياناً فكرة عابرة نجحت في تحقيق شيء بسيط بشكل أفضل، لن يتذكرها أحد ولا حتى صاحبها. لكن هناك أيضاً ابتكارات تقف جنباً إلى جنب مع أعظم الاختراعات مكانة وقيمة وفائدة.
والاثنان على أي حال: المبتكر مهما صغر حجم ابتكاره، والمخترع مهما عظمت مكانة اختراعه، يتمتعان بالروح الابتكارية نفسها… روح التجديد والبحث والإصرار على إنجاز الفكرة مهما كلف الأمر.
والشركة التي تنتشر فيها الروح الابتكارية قد تشهد خلال يوم واحد آلاف الأفكار “المبتكرة” الصغيرة، وذلك من دون أن تسجل براءة اختراع أو شهادة ابتكار واحدة لأي من منتسبيها. فالتجديد والتحسين في أساليب العمل يبدأ بأبسط التفاصيل وصولاً إلى أكبر الأهداف. إنه مناخ كامل لا تجزئة فيه. ونشر الروح التجديدية الابتكارية هو الهدف العام من نشر “ثقافة الابتكار” في الشركة… إنه ليس إدخال الابتكار في هيكل الشركة بل إدخال الشركة في هيكل الابتكار..!
روح عصرية … وشبابية
النزوع إلى الابتكار والتجديد لازم جميع الحضارات الحية، وكان عاملاً رئيساً من عوامل نهضتها وعمرانها. إلا أن هذا المدّ الابتكاري، الذي نراه اليوم، له خصوصية معينة تكمن في أنه يعود في بعض مقوماته إلى التيارات الشبابية التي اجتاحت العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
فقد شهدت الستينيات والسبعينيات تمردات شبابية أرادت أن تغيّر كل شيء. ولا غرابة في أن نجد بدايات الموجة الابتكارية في حركات الشباب التغييرية هذه. وكانت أولى مظاهر هذا التغيير في الملبس والفنون، ولكن جوهره كان في تلك الدعوات إلى الخروج عن التقليد، والتحرر من سطوة الأفكار السائدة. ورغم أن أبعد آثارها المباشرة كانت في الثقافة والقيم الاجتماعية إلا أن تداعياتها وصلت إلى دنيا العلوم على أشكالها. وفي عالم الكومبيوتر بالذات وامتداداته اللاحقة في الإنترنت وألعاب الفيديو وغيرها، يمكننا أن نجد أسماء مبتكرين حققوا إنجازاتهم وهم في سن مبكرة جداً معتمدين على وسائل وأدوات صنعوها بأقل قدر ممكن من الإمكانات. ومع انتشار الكومبيوتر الشخصي الذي يسهل امتلاكه، تعزز الدور الشبابي في مجال الابتكار وأصبح لدى الشبّان وسيلة ابتكارية يستخدمونها بمهارة أعطتهم هامش تفوّق كبير على “أصحاب الخبرة”.
وأصبح مشهد الأب الذي يقف إلى جانب ابنه يراقبه يتعامل مع الكومبيوتر بهذه المهارة والكفاءة والتحكم، ويصنع من خلاله أشياء لا تعد ولا تحصى، منظراً اجتماعياً مألوفاً، حزيناً ومفرحاً في آن معاً. لقد امتلك الشبّان المبادرة، وطبعوا الابتكارات الحديثة بطابعهم وجعلوها تتجاوب مع رغباتهم وأذواقهم وحاجاتهم الحياتية التي اختلفت عن أنماط المجتمع التقليدي المتوارث. وقد جارى العصر المبتكرين الشبّان وقبل راضخاً بحقهم في الاختلاف، وفتحت لهم أبواب التقدم ونصبت لهم الشركات أقواس المجد!
الجنون … ابتكار
إذا استعرضنا مصطلحات النهج الابتكاري الرائج اليوم فإننا نتلمس أوجه التشابه بينها وبين الدعوات التي كانت تطرحها الحركات الشبابية بدءاً بتجربة أية فكرة قد تخطر على البال على أساس مبدأ “لمَ لا؟”، والتفكير خارج الصندوق كما يقال، والتأكيد على أن “أياً كان” يستطيع أن يبتكر. وفي كل هذه التعابير نستطيع أن تتلمّس أسلوب الشباب في الطرح الجريء الذي لا يرضخ ولا يبالي بشيء إلا تحقيق أحلام لا تحدها حدود.
ولا شك في أن هذه الموجة الابتكارية الشبابية كانت على أشدها في الجامعات، وظهرت أولى ثمارها في الجامعات الأوروبية والأمريكية. وراجت في تلك الفترة صورة الشاب الفذ في أفكاره، بثيابه الرثّة وشعره الطويل ونظاراته السميكة، يقوم بأبحاث وتجارب مجنونة!
و”الفكرة المجنونة” هي من التعابير المعروفة في قاموس الابتكار، ألم يقل أينشتاين يوماً “إذا لم تبدُ الفكرة مستهجنة للوهلة الأولى، لن يكون لها أي أمل في النجاح”. وكم من فكرة بدت كذلك في البدء ثم تحولت إلى ابتكار هائل؟ وأصبح التقاط هؤلاء الشباب من الجامعات من أهم ما يشغل الشركات الرائدة، فتبحث عنهم لتضمهم إلى صفوفها وتفتح لهم أبواب الابتكار واسعة.
أرامكو السعودية الابتكارية
قيل إن أرامكو السعودية ليست أكبر شركات المملكة فقط بل إحدى أكبر جامعاتها أيضاً. فعشرات الآلاف من الموظفين الذين عملوا في الشركة اختبروا وعاشوا طبيعتها “الجامعية” هذه. ومن جوانب هذا الطابع التثقيفي دورات التدريب الكثيرة في مجالات تبدأ بالتنقيب والإنتاج مروراً باللغة والإدارة انتهاءً بالصحة والسلامة وغيرهما. لكنها في الحقيقة تصل إلى أبعد من ذلك، إلى محيط العمل نفسه وعلى جميع المستويات.
ويجمع الذين عملوا في أرامكو السعودية على أنهم حين غادروا الشركة إنما غادروا وظيفةً ومعهداً في آن واحد.
راجت روح الابتكار في صفوف موظفي الشركة منذ أيامها الأولى. وكانت الابتكارات الصغيرة والكبيرة تساعدهم في التغلب على الصعاب الكثيرة التي كانت تعترضهم خلال العمليات المبكرة في التنقيب واستخراج النفط وتوزيعه في ظروف مناخية قاسية. غير أن الابتكارات التي سجلت كانت في نهاية المطاف ابتكارات ظرفية ولا تشكل أمراً محورياً بالنسبة لشركة يعتبر إنتاجها “تحصيل حاصل”، كما يقال. نفط يستخرج ويباع.. والسلام. ومنذ سنوات التفتت إدارة الشركة إلى أهمية “الابتكار” بمفهومه المعاصر الشامل كشرط أساس لرفع مستوى إنتاجية الشركة وأدائها ودخلها. وقد تم الإعداد لحملة الابتكار الأخيرة إعداداً كاملاً قبل إطلاقها من قبل رئيس الشركة في مطلع عام 2002م. وكان الهدف منها أن تطال كل موظف من موظفي أرامكو السعودية، في مختلف القطاعات وعلى المستويات كافة . وتركزت أهم الاستعدادات في إنشاء “مركز إدارة الأفكار” على الإنترانت، ولجانٍ لمراجعة الأفكار التي يقدمها موظفو الشركة وتقييمها، والمساعدة على تحقيق الجدير منها على أرض الواقع.
واشتملت الحملة على ملصقات ومنشورات وزعت في أرجاء الشركة كافة. وحتى نهاية عام 2003م قدم موظفو أرامكو السعودية نحو ألف فكرة مبتكرة لنظام إدارة الأفكار الإلكتروني التابع للشركة، وهو نظام يسمح لأصحاب الأفكار المبتكرة بمتابعة أفكارهم التي تخضع للتقييم المنهجي. وقد تم تقديم مايزيد على 60 طلباً إلى مكاتب الاختراع الدولية للحصول على براءات الاختراع. وحتى اليوم حصلت الشركة على 29 براءة اختراع مسجلة في العديد من دول العالم، وخلال العام الجاري فقط ؛ سُجلت لأرامكو السعودية أربعة اختراعات، من بينها براءة اختراع في تقنية إدارة أنظمة التصنيع. إذ تمكن كل من المهندسين يوسف مهرا وعلي حسن العبد العال الموظفين في إدارة أنظمة التصنيع والتحكّم من ابتكار تقنية جديدة لتنقية الهيدروجين المستخدم في معامل التكسير والمعالجة الهيدروجينية. وقد نجح هذا الابتكار في حل مشكلة مزمنة تحد من قدرة معامل التكسير والمعالجة الهدروجينية على رفع طاقتها الإنتاجية، وتحسين مواصفات المنتجات البترولية، مما يعد قفزة نوعية في مجال تطوير وتشغيل المصافي البترولية وزيادة أرباحها.
وسبقت ذلك لائحة طويلة من الابتكارات التي حصل بعضها على براءة اختراع في السنوات السابقة، وبعضها الآخر اقتصر على كونه فكرة مبتكرة تعني نشاط الشركة الداخلي. وأهم ما تعكسه كل هذه الابتكارات هو نجاح الشركة بنقل مناخ العمل فيها إلى مناخ “ابتكاري” إذا جاز التعبير. ويتصف هذا المناخ بالحيوية وبتوفير فسحة للتفكير الجريء ووجود حوافز شخصية مشجعة بالإضافة إلى الوسائل والأجهزة الحديثة التي تساعد المبتكر على إنجاز ابتكاره.
وبكلمات رئيس الشركة، كبير إدارييها التنفيذيين، الأستاذ عبدالله جمعة: “فإن الابتكار في أرامكو السعودية هو ثمرة عقول مبدعة، وهو عملية لا تحدها المواعيد، ولا الرتب ولا الأنظمة. الابتكار شغف ذاتي حيوي لا يتوقف لدى موظفين يبحثون عن سبل أفضل لتأدية عملهم. الابتكار ببساطة هو إلهام فردي يبحث عن فرصة لتحقيقه. والقدرة على الابتكار موجودة في كل واحد منا”. ومن يراقب هذه الموجة “الابتكارية” داخل الشركة يلفت انتباهه الانخراط الواسع للشباب السعودي فيها. إن الشاب السعودي الذي يلتحق بأرامكو يشعر بتحدٍّ قد لا يشعر بمثله لو التحق بأية شركة أخرى. “أنا في أرامكو السعودية” يقول لنفسه، ويتيقن منذ ساعات عمله الأولى من أن عليه الارتقاء بكفاءته وأدائه لمجاراة رفاقه العاملين في الشركة العملاقة. وهذه الانطلاقة نفسها تضعه على الطريق ذاتها تقريباً التي تتطلبها طريق الابتكار. الحماسة في العمل، والاستعداد للتغلّب على المصاعب، والتفكير في الحلول، والتداول بشأنها مع رؤسائه، وتقديم المقترحات التي تثبت جدارته الوظيفية…
وفي هذا المناخ، فهو لا يحتاج إلى أكثر من إيجاد فكرة ابتكارية ليصبح مبتكراً بالفعل، خاصة أن هذا الشباب يمتلك أسوة بجميع شباب العالم، علوم الكومبيوتر وفنونه. ومن يراجع لوائح المبتكرين يجد أن نسبة عالية منهم هم من الشبّان السعوديين. ومما يعزز هذا المنحى، من دون شك، هو هذا التحدي العام المطروح اليوم أمام الشباب ليثبتوا كفاءتهم وجدارتهم في مجال العمل. ويكفي أن ترى مجموعة من هؤلاء يعملون في أحد مصانع الغاز الجديدة مثلاً، كي تظهر أمامك هذه الصورة كاملة.
ابتكر … وأنت حر!
رحلة الابتكار رحلة شاقة لا تخلو من سجال. وفيها كر وفرّ. تبدأ بمواجهة المعضلة أو تمييز الحاجة، ثم تعريفها بشكل محدد، ومن ثم تخطر فكرة حل أو علاج أو بديل.. ثم يتم عزل المعضلة والتأمل فيها من جديد والدرس والبحث والمراجعة، ثم الاقتراب من الحل ثم الفشل والإحباط واليأس ثم العودة للمحاولة مرّة تلو الأخرى إلى أن.. تظهر أولى بوادر الأمل، ثم يكون الاختراق الفاصل الذي يحقق الوثبة الكبيرة والنتيجة المأمولة. ويكون الابتكار قد تحقق ولو بقيت فيه بعض الشوائب.. فتكون هناك خطوات أخيرة تشمل التهذيب والتشذيب إلى أن يصل الابتكار إلى شكله النهائي القابل للعرض على الملأ.
ولا تخلو هذه الرحلة من معارك جانبية: صبر المديرين وتعاون الزملاء وتوفر الأدوات والمعدات والمخصصات الإضافية ثم المراوحة التي لا تتوقف بين اليأس والأمل… ولا ينتهي المبتكر من ابتكاره إلا ويشعر كما يشعر الفارس الذي خاض معركة وخرج منها مظفراً مرفوع الجبين. فليس المبتكر إنساناً حالماً فحسب، فالحالم إنسان تخطر له الأفكار، أمّا المبتكر فيصنعها. المبتكر يحلم، ثم يتأمّل، ثم يقاوم الشكوك، ثم يجرب ثم يطور إلى أن يصل إلى غايته. لقد قال مرة توماس أديسون: “إن من يأتِ بفكرة ويبدأ بتجربتها وتطويرها يصل إلى مكان يرى فيه أنها مستحيلة التحقيق فيشعر باليأس. ولكن هذه هي بالذات المحطة التي لا يجوز فيها للمبتكر أن ييأس”. فالقدرة على الصبر والمواظبة وتحدّي اليأس من صفات المبتكر، وهي الصفات ذاتها التي تعطيه الحق بدور أكبر في عمله وفي المجتمع بشكل عام.
والابتكار مُعْدٍ. إنه كأي شكل آخر من أشكال النجاح إذا انتقل إلى مكان، أثار في الجميع الرغبة في رفع التحدي نفسه. والموظّف المبتكر يحصل في النهاية على ما لا يحصل عليه غيره من المكافآت. وقد كتبت “القافلة” عند بداية حملة الابتكار: “من جدّ جدّد… ومن جدّد وجد!” لكن ما يناله في النهاية يفوق المكافآت: إنّه ينال درجة رفيعة من الثقة تعطيه حرية استثنائية في مجال عمله. إنجازه يضعه في مصاف قيادية ليس بسبب مردود الابتكار المالي وحسب، بل بسبب الصفات الشخصية التي أثبت المبتكر امتلاكه لها.
من خارج الصندوق إلى خارج الأسوار
لا تبقى فوائد الابتكار محصورة في الدائرة الصغيرة التي شهدت ولادته. إذ لا بدّ له من أن ينتشر لتصل إشعاعاته إلى ما هو أبعد من دائرته الأولى. ومن يصدّر الروح الابتكارية لا ينفع محيطه فقط، بل إن هذه المنفعة سوف تعود إليه أيضاً. ففي عودتها إذكاء للروح الابتكارية لديه..
ولا شك أن نشر هذه الروح في الغرب من خلال النجاحات الابتكارية ومن خلال مئات المقالات والكتب التي كتبت حول الابتكار، كان له أعظم مردود على إبقاء جذوة الابتكار على أشدها وتغذيتها باستمرار. وإدارة أرامكو السعودية التي كانت دائماً تسعى إلى التأثير في محيطها، كان في ذهنها نشر قيم الابتكار في هذا المحيط بشتى الوسائل، وأهمها من خلال ما يحمله عشرات الآلاف من موظفي الشركة إلى بيوتهم وإلى أولادهم من أفكار وقيم ودعوات للتفكير “خارج الصندوق”.. أحد شعارات الحملة الابتكارية البارزة. ولا شك في أن ما يروّج من أخبار حول ابتكارات مهمة حققها موظفو الشركة يحث الشباب على التطلع إلى أدوار ومسارات مستقبلية أفضل. وغداً، حين تتضاعف الابتكارات الناجحة لا بد أن تتحول إلى سجل مشرّف يطلع عليه أبناء الشركة وذووهم، وتصبح هذه المنجزات الابتكارية مثالاً يحتذى في أرجاء البلاد كافة.
إن الابتكار يؤدي إلى التغيير، والتغيير يعود فيصنع ابتكارات جديدة تحدث بدورها تغييراً جديداً. هذه هي الدورة التي يعيشها المجتمع البشري اليوم. ومن يبقَ خارج الدورة يخسر الموقع تلو الموقع سواء أكان فرداً أم شركة. هذا هو التحوّل الذي أحدثته العقود الأخيرة من العصر الحديث، ولقد تبين من خلال هذا التحول أن القدرة على الإبداع أثمن ما يمتلكه الانسان. وكان لهذا التحوّل نتائج اقتصادية كبيرة، لكنه في نهاية المطاف سمة لحضارة جديدة.
فنحن بحاجة إلى أن نبحث في أنفسنا اليوم عن حلم جديد. حلم يَنْـفُـذُ عبر العصر الحاضر، لتحقيق ابتكارات تعيدنا إلى درب المستقبل.
——————
اقرأ للابتكار
الأسس النفسية للابتكار
هذا الكتاب محاولة جادة لدراسة طبيعة الابتكار من جهة القدرات العقلية المكونّة له، والسّمات الاجتماعية التي يتميز بها الشخص المبتكر، والدوافع المختلفة الكامنة خلف الناتج الابتكاري. ويساعد هذا الكتاب الذي وضعه الدكتور ممدوح عبدالمنعم الكناني الآباء والمعلمين على فهم العملية الابتكارية والحالات النفسية أو الاجتماعية التي تميّز المبتكر، وقد تكون في بعض الأحيان مضطربة ومشتتة، بحيث يصعب على البعض التعامل معها.
ويشير المؤلف إلى التمايز بين الذكاء والابتكار والتحصيل العلمي، ويعرض لدراسة تناولت سمات الأذكياء والمبدعين مقارنة بسمات العاديين، والمقاييس التي يجب العناية بها عند استكشاف المبدع في المراحل العمرية الأولى التي تستقطب أنظار العلماء ومكتشفي الموهوبين.
ويتضمن الكتاب الذي يقع في 341 صفحة ستة فصول، خصص المؤلف منها فصلاً للتوسع في دراسة المناخ الابتكاري في الأسرة، ومن عناوينه الفرعية: الممارسات والاتجاهات الوالدية التي تشجع الابتكارية لدى الأبناء، والمستوى الثقافي والاقتصادي وعلاقته بابتكارية الأبناء. كما يتوسع الكتاب في دراسة المناخ الابتكاري داخل الفصل المدرسي، ويتطرق إلى جميع جوانبه والمؤثرات فيه مثل المناخ الابتكاري والمناخ التسلطي، ومرونة شخصية المدرس ومنح الأمان للتلاميذ المبدعين.
مستقبل الابتكارات
يقول الدكتور فرج موسى رئيس الاتحاد الدولي لجمعيات المخترعين (أفيا): إن براءة الاختراع لا تحمي المنتج العلمي إلا في البلد الذي أصدر البراءة” و هذا يعني أن تسويق الابتكارات يبقى مشكلة فردية، على المنظمات الدولية أن ترعاها وتدعم المخترعين مادياً و معنوياً.
وساعد قيام الاتحادات والمنظمات العالمية ونشاطاتها وتبنيها للمعارض العلمية على ظهور جيل مختلف يسعى إلى التطوير التكنولوجي. وتعددت المنظمات الفاعلة التي ترعى الابتكارات والمبتكرين مثل الاتحاد الدولي لبراءات الاختراع (أفيا) والمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) التي أنشأت عام 1970م، كما قام المجمع العربي للملكية الفكرية عام 1987م الذي شاركت المملكة العربية السعودية في مجلس إدارته التأسيسي مع عشر دول أخرى، وكلها تساهم مباشرة في تنمية المجال العلمي وزيادة عدد الاختراعات وتسهيل منح الرخص العلمية. كما انضمت السعودية إلى اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية واتفاقية بيرن لحماية المصنفات الأدبية والفنية.
وللمملكة جهود واثقة في تشجيع الاختراعات وحماية حقوق الملكية الفكرية وتوطيد العلاقة بين الموهوبين ومؤسسات الدولة التي تعنى بالرعاية وتنظيم البرامج الإثرائية. تؤكد ذلك أنشطة مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين في نشاطها الأخير المتمثل في اللقاء الثالث للمخترعين السعوديين المنعقد في 21/3/1425هـ، وهناك نشرة براءات الاختراع التي تصدرها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بإشراف الإدارة العامة لبراءات الاختراع. وأول نظام لبراءات الاختراع بالمملكة صدر عام 1409هـ، كما صدر أول نظام لحماية حقوق المؤلف عام 1410هـ، وجرى تعديله عام 1424هـ، وصدر أول نظام للعلامات التجارية عام 1358هـ. وهناك العديد من المشاريع التخطيطية التي تُدرس للنهوض بالاختراعات وإحداث حركة علمية من شأنها الرقي بالمستوى العلمي والابتكاري في المملكة بشكل عام.