حتى الأمس القريب، لم يكن اسم البجيري يعني كثيراً لغير المطلعين جيداً على تاريخ المملكة. أما اليوم، وبعد اكتمال تطوير هذا الحي، فقد أصبح اسمه واحداً من أبرز الإضافات العمرانية الحديثة لمنطقة الرياض، وهي إضافة ذات وظائف متعددة، غير أنها تبقى بحقيقتها وعمقها تحيةً لدور هذا الحي في تأسيس المملكة، وتحية موازية لفن العمارة النجدية الخالصة.
وكأنَّ سكان مدينة الرياض كانوا في انتظار افتتاح هذا الحي، فبدأوا بالتدفق عليه غداة افتتاحه، كمتنزه جديد يضاف إلى متنزهات العاصمة. ويبلغ هذا التدفق ذروته خلال العطلة الأسبوعية، حين يصبح البجيري مقصداً للآلاف الذين يرون في حدائقه وميدانه ومصطباته الخضراء، متنزهاً أنيقاً يوفر لهم كل ما يمكن أن يتطلبه تمضية يوم كامل هناك. وفي هذا ما يؤكد نجاح واحدة من الوظائف المتوخاة من تطوير هذا الحي.. واحدة فقط، لأن هذا الحي هو أكثر بكثير من كونه مجرد متنزه. فمن بين الأبنية الحجرية والطينية الجديدة ومن الحدائق والمصطبات التي تنحدر صوب مجرى وادي حنيفة، يطل المتنزه على أطلال وقصور حي الطُريف القائم فوق مرتفع على الضفة المقابلة من الوادي. ومن تأرجح النظر بين هنا وهناك تبدأ رحلة الوجدان إلى التاريخ. تاريخ البجيري والطُريف اللذان تلاحما ذات يوم من عام 1744م، فسلك التاريخ منعطفاً أدى إلى قيام الدولة السعودية الأولى، وصاغ هوية المملكة الحديثة.
قلب الدعوة الإصلاحية
خلال القرن الثامن عشر، كان البجيري، وهو جزء من حي السهل، بساتين تتبعثر في أرجائها بعض البيوت الصغيرة والآبار، مقابل حي الطُريف العامر بالقصور والدور الكبيرة والمسوّر جيداً. غير أنه كان مقدراً لهذا الحي أن يتحوَّل إلى أكبر مركز للعلوم الدينية في الجزيرة العربية، عندما قصده ذات يوم رجل وصله مشياً على قدميه لا يحمل معه إلا مروحة يدرأ بها عن نفسه حرّ الظهيرة، ألا وهو الشيخ محمد ابن عبدالوهاب، مطلق الدعوة الإصلاحية الهادفة إلى تنقية الإسلام مما علق به بمرور الزمن من ممارسات شركية. هذه الدعوة التي جوبهت بالعداء في أماكن كثيرة، كان آخرها، بلدة العيينة مسقط رأس الشيخ نفسه، حين طلب منه حاكمها عثمان بن معمّر مغادرتها إثر تهديد حاكم الأحساء له بقطع المعونة المقررة له. فاختار الشيخ الدرعية مقصداً لتعاظم نفوذها بين المدن والبلدات النجدية.
استقر الشيخ في البجيري، ووجدت دعوته آذاناً صاغية وكثيراً من المؤيدين لها في الدرعية. فقصده ذات يوم من عام 1744م، أميرها محمد بن سعود، لاستطلاع حقيقة الدعوة، وكان اللقاء بين الرجلين تاريخياً. فتبايع الأمير والشيخ على دعم الدعوة وتأييدها. وبذلك أُسست الدولة السعودية الأولى، وبدأت الدعوة الإصلاحية بالانتشار انطلاقاً من الدرعية وما حولها، حتى عمّت معظم أرجاء الجزيرة العربية وبعض مناطق العالم العربي والإسلامي.
بتأرجح النظر ما بين حي البجيري المجدَّد وأطلال الطُريف المهيبة التي تسد الأفق، تتأرجح الانفعالات وتبدأ رحلة الوجدان إلى التاريخ
وبموازاة تعاظم النفوذ السياسي للدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية، تعاظمت مكانة البجيري كأكبر مركز للعلوم الدينية في الجزيرة العربية. واستمر الوضع على هذه الحال حتى نهاية الدولة السعودية الأولى وتدمير الدرعية بالشكل المروّع الذي دُمِّرت به عام 1818م، في الحملة التي قادها إبراهيم باشا على نجد. ولم يُكتب النجاح لمحاولات النهوض بالدرعية التي جرت بعد انسحاب إبراهيم باشا منها، إذ كانت الدرعية هدفاً لحملة أخرى بقيادة حسين بك، الذي أمر في مارس 1821م بإخلاء الدرعية ممن تبقى من سكانها. ومن رفض الأمر نُقل إلى معسكر اعتقال في ثرمداء. ودمَّر الغزاة ما كان قد تبقى من الطُريف والبجيري وما حاول البعض إعادة بنائه، وعمّ حرق البيوت والكتب وقطع الأشجار بشكل جماعي.. وتُركت العاصمة التي كانت حاضرة مزدهرة لتواجه الاضمحلال البطيء. وعلى مدى قرن ونصف القرن تقريباً لم تكن خرائبها تجذب غير الباحثين عن مواد البناء…
العودة إلى الضوء
في أواسط القرن العشرين عادت الأنظار لتتجه صوب الدرعية وأطلالها، فجرت محاولات متواضعة لترميم الطُريف. وفي عام 1974م، بدأت وكالة الآثار والمتاحف تخطِّط للحفاظ على بقايا الدرعية. وفي عام 1998م صدرت الموافقة الملكية على برنامج تطوير الدرعية التاريخية تحت إشراف الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. فانطلق مشروع الترميم الكبير للمحافظة على التراث التاريخي لموقع الدرعية، وتحويل المنطقة إلى مقصد للسياحة الثقافية والتاريخية. وتولت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض مسؤولية إعداد الدراسات والتخطيط والتصميم والتنفيذ بالتنسيق مع الجهات المعنية، وهي: الهيئة العامة للسياحة والآثار ودارة الملك عبدالعزيز ومحافظة الدرعية وبلديتها.
وبموازاة أعمال التطوير والترميم القائمة على قدم وساق في حي الطُريف والمستمرة حتى اليوم، انطلقت أعمال تطوير البجيري في عام 2005م وانتهت بافتتاحه في شهر أبريل من العام الجاري.
المعمار الجديد في البجيري يؤكد قابلية العمارة التقليدية للانفتاح على أحدث أشكال العمارة والتصميم في العالم، وأن الجمال والأناقة لا يشترطان كثرة في الزخارف..
كان الهدف الرئيس من تطوير البجيري هو إنشاء مركز يعكس الأساس الإسلامي الذي قامت عليه الدولة السعودية الحديثة، وصرح يوفِّر المناخ اللازم للتأمل في واحد من مكونات تاريخ المملكة، ومركز لجمع الوثائق وإجراء الدراسات. وأكد تصميم المشروع على إنشاء فضاء عام في البجيري يكون أشبه بمدخل أو بوابة ثقافية لحي الطُريف الذي يبعد عنه نحو مئتي متر تقريباً، وأن يتضمن حدائق وساحة عامة وممرات ومرافق إضافة إلى نواته الأساسية المتمثلة في مسجدين ومؤسسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وذلك لإيجاد منطقة يمكن لزائرها أن يتلمس ويختبر شيئاً من شخصية البجيري كمركز ثقافي وترويحي، وتقدير قيمة اتصاله بالطُريف.
الطريق إلى البجيري
ثمة ما هو غامض على الطريق من الرياض الحديثة إلى البجيري، ويحضّر مزاج الزائر للوصول إلى مكان مختلف عن المألوف في العاصمة الحديثة ذات العمران المنتمي إلى عصر الفضاء. أهو في السارية المهيبة التي ترتفع مئة متر في ميدان الملك سلمان وترفرف في أعلاها الراية السعودية، أم في الأبراج الدفاعية التي تطل من خلف الراية عند السور الخارجي الذي كان يلف الطُريف والبجيري معاً، أم هو في الطرق التي تضيق وتتلوى قليلاً بشكل مختلف عن الشوارع الكبيرة والطرقات السريعة في الرياض، فتهمس لك بأنك على الطريق إلى مكان أكثر حميمية ودفئاً؟ ربما كان الجواب في كل ذلك دفعة واحدة.
وبالوصول إلى أي من مداخل البجيري، يشعر المرء أنه في مكان تم تطويره وفق مقاربة فائقة الحساسية لكي يؤدي الغرض أو الأغراض المتوخاة منه على أفضل وجه، خاصة أن الموقع يندرج ضمن منطقة حمى حي الطُريف الذي أدرجته اليونيسكو في عام 2010م على قائمة مواقع التراث العالمي. فهنا، بخلاف الطُريف، ثمة هامش ولو محدود من حرية التصميم والتصرف والبناء، هامش أحسن المصممون الاستفادة منه بحذر ودراية لتأتي عملية التطوير هذه متناغمة جمالاً وروحاً مع الطُريف المقابل، وسداً يوقف زحف عمران المدينة الحديثة في هذا الاتجاه.
إعادة إعماره
بين المشاهدة والتأمل
بنيت مؤسسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب حول المسجد الذي يحمل اسمه. وكان المسجد الأصلي الذي بني على عهد الشيخ قد تهدم وأعيد بناؤه في أواسط القرن العشرين، ثم أعيد بناؤه للمرة الثانية عام 1998م. ويتألف مبنى المؤسسة من أربعة مكعبات من الحجر الجيري المحلي. وتبدو جدرانها الخارجية الخالية من أي زخارف، والمائلة لجهة الغرب – جهة القبلة – وكأنها تنزلق إلى ما تحت الأرض.
ومن القاعة التذكارية الواقعة تحت مستوى سطح الأرض في المؤسسة، يمكن رؤية السماء من خلال مئذنة المسجد المميزة بميلان واحد من جدرانها الأربعة والنافذة المستطيلة جداً التي حادت عن منتصف جدار المئذنة.. وبإضافة القليل من العناصر المعمارية غير التقليدية مثل الزجاج والفولاذ في بعض المواضع، يؤكد تصميم هذا المبنى قابلية العمارة التقليدية للانفتاح على أحدث أشكال فنون العمارة والتصميم في العالم.
وعلى مقربة من المؤسسة التي شيدت لتكون مركزاً متكاملاً للأبحاث والدراسات، يقوم مسجد الظويهرة المبني بالطوب الطيني والمرمم جيداً كشاهد أصيل على ما كان عليه المسجد النجدي التقليدي. ويقع هذا المسجد عند الساحة المركزية، حيث تم إنشاء عدد من المباني وفق الطراز النجدي الخالص فيما يكاد يكون احتفاءً بمهارات البنَّائين القدامى وتحية لهم.
فقد تم تشييد كل هذه المباني بالطين على تعدد تقنيات استخدام الطين في البناء من الطين المدكوك إلى الطوب المجفَّف بالشمس إلى الطين اللبن، ومع البناء بالطين يحضر الجص المستخرج محلياً لتلييس الجدران، وخشب الإثل وسعف النخيل لبناء الأسقف. وتحتضن هذه المباني التقليدية جداً عدداً وفيراً من المقاهي والمطاعم والمتاجر ومنافذ البيع التي توفر للزائر مستلزمات البقاء في رحاب البجيري طوال النهار.
وما بين الحديقة الجنوبية التي استوحت الحدائق الأندلسية في تصميمها وتقسيمها إلى مربعات تؤطرها سواقي الماء، إلى المصطبات التي تنحدر حتى أسفل الوادي، يمكن للزائر أن يتمشى أو أن يجلس، أن يستمر في تفحص ما يراه أو أن يستذكر ما شهده هذا المكان قبل قرنين أو ثلاثة قرون من الزمن. ففي المعمار الجديد القائم في البجيري، يمكنه أن يرى ما يؤكد أن نقاء الخطوط والملامح يمكنه أن يكون في غاية الأناقة، وأن كثرة الزخارف ليست شرطاً من شروط الجمال.
أما أطلال الطُريف المهيبة التي تبقى تشد الأبصار إليها من أينما كان في البجيري، فتهمس بخطاب يتجاوز فن العمارة، لتحرك في الذاكرة والمخيلة ما كان عليه هذا المكان قبل قرنين ونصف القرن من الزمن. وما سبق له أن شهده من آمال وطموحات ونجاحات وما أعقب ذلك من خيبات ومآسٍ وأحزان. ولكن ما إن تعود العين إلى التطلع إلى ما حولها في البجيري الذي استعاد زهواً يشبه زهوه القديم، حتى تتبدَّد ضوضاء الصور المتزاحمة في الذهن لتستقر على الشعور بالثقة في الحاضر وفي الغد. إنه مزيج من الانفعالات المتعددة التي يصعب اختبار ما يشبهها في مكان آخر غير البجيري.
صور الموضوع: محمد وعبدالله السياري
البجيري قلب الدعوة
بمناسبة الاحتفال بتدشين حي البجيري في شهر أبريل الماضي، أصدرت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض كتاباً بعنوان «البجيري – قلب الدعوة» يستعرض قصة هذا الحي ويحتفي بمكانته كبوابة للدرعية التاريخية وبدوره في تأسيس المملكة من خلال السرد والتواريخ والخرائط والصور الفوتوغرافية القديمة والجديدة..
الكتاب الأنيق الذي يقع في 127 صفحة من إعداد الكاتب البريطاني بيتر هاريغان، راجعته دارة الملك عبدالعزيز، وهو يتألف من قسمين: فقد جاء القسم الأول تحت عنوان «الجذور»، وتضمن أربعة فصول تروي تاريخ الدرعية انطلاقاً من التاريخ الغابر لوادي حنيفة، وصولاً إلى نهاية الدولة السعودية الأولى، مع التوقف بشيء من التفصيل أمام دور حي البجيري في قيام الدولة بصفته مقر الشيخ محمد بن عبدالوهاب ودعوته الإصلاحية.
أما القسم الثاني الذي تضمَّن بدوره أربعة فصول أيضاً، فقد خُصِّص للحديث عن مشروع تطوير البجيري ومكوناته، وفن العمارة النجدية التقليدية ومواد البناء المستخدمة فيها وتطبيقاتها في هذا المشروع.