أدب وفنون

أنت تمشي إذاً أنت تكتب

stick man7-ما بين المشي من جهة والنشاط الذهني وما يمكن أن يتمخض عنه من إبداعات فنية أو أدبية ذات علاقة غامضة قد يصعب تفسيرها، كما يصعب تعميمها، لأنها ليست قاعدة ولا شرطاً. ولكنها موجودة، وبوضوح عند عدد من كبار المبدعين في الأدب والموسيقى وحتى الفلسفة.

«لم يقدَّر لي قط أن أكون أكثر تفكيراً، وأكثر استمراءً لوجودي وحياتي، وأكثر قرباً من حقيقتي مما كنت في تلك الرحلات التي كنت أقوم بها سيراً على قدمي، ففي المشي شيء ينعش نشاطي ويسمو بأفكاري. وأنا لا أكاد أفكِّر عندما أكون ساكناً، لا بدَّ لجسمي من أن يكون في حركة حتى يتحرك عقلي».

هذا قليل من كثير خطه المفكِّر العالمي جان جاك روسو في كتابه «اعترافات»، قبل أكثر من قرنين ونيف، متحدثاً عن مركزية المشي في نتاجه الفكري والأدبي. قد تبدو غريبة لكثيرٍ من بيننا هذه الصلة التي يعقدها روسو بين جسده وفكره، بين حركة قدميه وحركة عقله. بيد أن ما يبدو لنا غريباً لن يظل كذلك، متى عرفنا بأن الاعتقاد بالترابط بين الجسد المتحرك والفكر يرجع إلى زمن الحضارة الإغريقية. هذا أقلّ ما يبيِّنه التنقيب في تاريخ الفلسفة. من هذا نعرف أن تلاميذ أرسطو عُرفوا بـ «المشَّائين»، لأن معلمهم كان من عادته أن يلقي عليهم دروسه ماشياً. ليس هذا فقط، نعرف أيضاً أن الرواقية، المدرسة الفلسفية المقابلة والمعاصرة لمدرسة أرسطو، جاءت تسميتها من الرواق. وهو ممر طويل اعتاد الفلاسفة الرواقيون المشي فيه أثناء مجادلاتهم الفلسفية. فكيف حين نعرف أن الفعل نفسه الذي يعني باليونانية القديمة المشي، يحيل أيضاً على محادثة بين شخصين يمشيان.

«حقل وفضاء مملوء بالأفكار التي لم نكتشفها بعد، وأن المشي في دروب الطبيعة الخارجية هو السبيل الوحيد للتجوال في دروب وشعاب العقل الداخلية».
روسو

stick man3قبل روسو بزمن طويل، مشى الفلاسفة الإغريق كثيراً وفكروا وتفلسفوا. لكنهم تعاملوا مع تلازم المشي والتفكير تعاملهم مع طبيعة الأمور، فلم يتركوا لنا قولاً فلسفياً مخصوصاً عن صلة المشي بالتفكير. وإن كانت الكتابات الأدبية عن المشي تبدأ مع روسو، فليس لأنه كان أول من اكتشف هذه الصلة، بل لأنه أول من كتب بدقة وإسهاب عن المشي ومحله من العملية الإبداعية خاصته. فعل ذلك في أكثر من كتاب له، من «اعترافات» إلى «أحلام يقظة مشَّاء منعزل»، إلى غيرها من الكتب والمقالات والخطابات.

روسو: من دون المشي ما كنت
لأستطيع الكتابة
من يقرأ «اعترافات» روسو، لا سيما كلامه عن المشي، يتبدَّى له التناغم الغريب الذي يعقده هذا الفيلسوف، بين التجوال في دروب الطبيعة من جهة، والتجوال في دروب العقل من جهة أخرى. تناغم يصل معه روسو إلى القول إن العقل هو أيضاً «حقل وفضاء مملوء بالأفكار التي لم نكتشفها بعد، وأن المشي في دروب الطبيعة الخارجية هو السبيل الوحيد للتجوال في دروب وشعاب العقل الداخلية». وينسحب اعتقاد روسو بهذا الترابط الوثيق بين المشي في دروب الطبيعة والتجوال في دروب العقل إلى حد الإقرار أكثر من مرة بعجزه عن التفكير والتأليف والإبداع ما لم يكن ماشياً. مشهد المكتب والكرسي والورقة البيضاء كان يسلبه أي شجاعة على التفكير: «عليَّ أن أمشي لتحفيز وتنشيط نفسي، ولأبقى على صلة مع العالم. من دون المشي ما كنت لأستطيع الكتابة ولو حتى كلمة واحدة، أو قصيدة، أو قصة، أو مقالة. من دون المشي سأكون قد أجبرت على التخلي عن حرفتي التي أحبها كثيراً». فالتفكير والكتابة بالنسبة لروسو سفر مجاله الطبيعة ومتنه جسد المفكر المتحرك، أكثر منه صنعة يستعان عليها بارتياد المكتبات والانعزال فيها والجلوس لساعات طويلة على طاولات القراءة. وهو الذي خلال مشيه الطويل، الذي كان يستغرق أياماً متواصلة، تأتَّى له أن «يكتشف ما ليس موجوداً في الكتب، بل ما يوجد في الطبيعة التي يمشيها رجل وحيد على غير هدى».

كل شيء بدأ مع جان جاك روسو بالمشي. مشى الرجل كثيراً في حياته. بل قل إنه أمضى حياته كلها ماشياً، ولم يجلس سوى بين المشية والأخرى. حين باشر حياة الارتحال الطويل مشياً على الأقدام في أرجاء أوروبا، كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره. حصل ذلك دون تخطيط مسبق. في مساء يوم أحد، كان الفتى روسو عائداً من نزهة في الأرياف المحيطة بجنيف حين وصل إلى مدخل المدينة ليجد بوابتها مقفلة. وصل متأخراً عن موعد إقفال البوابة ورفض حرس المدينة إدخاله. شيء ما في بؤس حياته داخل هذه المدينة يتيماً، وفي منظر بوابتها الضخمة المقفلة، أوحى له بأن يشيح بنظره عن البوابة وعن المدينة أيضاً. أدار وجهه إلى الجهة الأخرى، ناحية الحقول المتمادية، لم يصطدم نظره بشيء سوى بمنظر «الطبيعة بلا أبواب ولا أغلال». لا نعرف بِمَ وعد الصبي نفسه قبل أن يدير ظهره لجنيف وبوابتها المقفلة، ويقرر الرحيل ماشياً على غير هدى. لكن حين أدار ظهره وبدأ المسير لم يعد. ومنذ تلك اللحظة سيدشِّن روسو حياة طويلة من الترحال تنقل خلالها سيراً على الأقدام بين عديد من المدن والبلدات الأوروبية، من تورين إلى أنيسي إلى لوزان إلى ليون إلى باريس وغيرها كثير من المدن الأوروبية. ظل روسو يمشي ويمشي ويمشي لعقد ونيف دون توقف، وفي أثناء ذلك بدَّل بلداناً كثيرة، وعمل في مهن كثيرة فكان خادماً في إحداها ومعلم موسيقى في أخرى، ومحاسباً في ثالثة، وسكرتيراً في رابعة.. وظلت حياته على حالها من انعدام الوجهة والهدف حتى وقعت له المصادفة التي كان لها الفضل الأول والأخير في صنع روسو الكاتب والمفكر الذي نعرفه. فكيف حين تكون المصادفة هذه قد وقعت له أيضاً خلال المشي.

RAMBO-تقول القصة إن روسو، كان من عادته حين يخرج للمشي أن يصطحب معه كتاباً ليقرأه على الطريق. وفي واحدة من هذه المرات وبينما كان يطالع مجلة أدبية ماشياً وقع نظره على إعلان نشرته أكاديمية ديجون الفرنسية عن جائزة لأفضل نصّ يجيب عن سؤال حول التقدم العلمي ومآلاته السلبية والإيجابية على الإنسانية جمعاء. عن هذه الحادثة المفصلية في حياته، سيقول روسو إنه في اللحظة التي قرأ السؤال انفتح أمامه مشهد عالم آخر سيكون هو نفسه فيه شخصاً آخر، غير ذاك المتسكع الذي لا يعرف له مركزاً ولا مهنة. وبالفعل سينكبُّ روسو على كتابة نصه، وكان وقتها مجرد نكرة، لم يكن قد نُشر له أو عنه من قبل ولو سطر واحد في كتاب أو مجلة، وسيفوز النص الذي سيكتبه بالجائزة إياها، والذي عنونه روسو بـ «خطاب حول الفنون والعلوم». وسيتحول المشَّاء التائه بسبب هذا النص ونصوص أخرى تلتها، إلى روسو الكاتب والمفكر الذي نعرفه اليوم وعرفه كثير قبلنا. أيكون بعد ذلك من المبالغة القول إن كل شيء بدأ مع روسو بالمشي وكل شيء صاره هذا الرجل صار له بالمشي؟.

نيتشه: الكتابة بالأقدام
«اجلس قليلاً. ولا تصدِّق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق». هكذا كان يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، وعلى هذا الأساس كان يحكم على الأفكار. كان صاحب «هكذا تكلم زرادشت» مشَّاءً كبيراً. مشى يومياً لساعات طويلة في الطبيعة، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود. ومثله مثل روسو، نظر إلى المشي، نظرته إلى العنصر الطبيعي في نتاجه الفكري، والرفيق الدائم لكتاباته.

«اجلس قليلاً. ولا تصدِّق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق.»
نيتشه

في العام 1878م، بدأت رحلة نيتشه الطويلة مع المشي. وفي صيف ذاك العام، انتقل للعيش في قرية صغيرة تدعى سيلس – ماريا. ومن هناك كتب لشقيقته رسالة يذكر فيها بأنه يبدأ نهاره «بالمشي لثماني ساعات يومياً. وفي الأثناء أؤلف أفكاري». في هذه القرية، تحوّل نيتشه إلى المشَّاء الكبير الذي عرفه تاريخ الفلسفة فيما بعد. مشَّاء لا مثيل له بين الفلاسفة سوى روسو. في سيلسماريا، مشى نيتشه كما كان يعمل الآخرون. وكان يعمل، يفكر ويؤلف الكتب ماشياً. وفي خريف العام نفسه، أنجز «المسافر وظله»، الكتاب الذي يشير في مقدمته، إلى أن كل ما يحويه من أفكار باستثناء سطور قليلة، فكر بها ودوَّنها وسط الطبيعة البكر وأثناء المشي. هكذا، ماشياً في الغالب على هضاب ساحلية، كان نيتشه يؤلف فكره في الهواء الطلق. وخلال عقدين قضاهما ماشياً، كتب أعظم كتبه: «هكذا تكلم زرادشت» و«ما بعد الخير والشر» و«إنسان أكثر إنسانية» وسواها..

Nietzsche1882لم تولد أفكار نيتشه داخل مكتبة ولا مكتب. المكتبات رمادية وكئيبة، هكذا كان يجدها. و«رمادية وباهتة هي الكتب التي تكتب بداخلها» على ما وجدها روسو أيضاً. الكتب المحملة بالاستشهادات والمراجع والملاحظات والتعقيبات والشروح التي يكتبها مؤلفون حبيسو المكتبات، عادة ما تكون ثقيلة القراءة وعسيرة على الهضم. أما كتب نيتشه المولودة من المشي وفي أثنائه، فإنها تبدو من نوع آخر، كتب تتنفس هواءً منعشاً كما أرادها صاحبها، كتب مكتوبة بالأقدام، على ما كان يقول، مشيراً إلى شرط الكتابة الجيدة: «نكتب بأيدينا. لكننا لا نكتب جيداً إلا حين نكتب بأقدامنا».

الفيلسوف إيمانويل كانط، كان هو الآخر يمشي. وكان معروفاً عنه المشي يومياً في مدينة كونغسبرغ الألمانية في ساعة محددة، حتى إن جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه الدقيق. لكن المشي كان لكانْط وقتاً مستقطعاً من العمل، وراحة للجسد من ساعات الجلوس الطويلة في الكتابة والقراءة على مكتبه. على النقيض تماماً مما كانه وقت المشي بالنسبة لنيتشه. هذا الذي كان هو نفسه وقت العمل والتأليف والبحث والتفكير. بعبارة موجزة: كان المشي بالنسبة لنيتشه ما كانه لروسو: الشرط الأول لإمكانية أي تفكير وكتابة.

رامبو: العابر بنعلين من ريح
arthur rimbaud«لا أقدر على تزويدك بعنوان للرد على رسالتي هذه. أجهل إلى أين يمكن أن تحملني قدماي. وعلى أي درب، أو طريق، ولماذا وكيف». يختصر هذا المقطع الأخير من رسالة كتبها رامبو في العام 1884م لوالدته، سيرة هذا الرجل النزق والشريد الذي عاش بلا عنوان. وهو الذي نعته الشاعر الفرنسي بول فرلين بـ «العابر بنعلين من ريح». أما رامبو حين تأتى له التعريف بنفسه فقد قال: «أنا مشَّاء. ولا شيء أكثر».
في بلدة فرنسية صغيرة تدعى شارلفيل ولد أرتور رامبو عام 1854م. وكان في السادسة عشرة من عمره حين بدأ أولى محاولات الهروب من منزل العائلة والوصول إلى باريس. مبكراً، فهم المشَّاء الشريد الذي كانه رامبو، بأن البلدة الصغيرة أضيق من أن تتسع لأقدامه العجولة ولتوقه إلى ملاقاة العالم. لعام ونيف سيتحول الوصول إلى هذه المدينة شغله الشاغل والوحيد. وفي مجرى ذلك، سيحاول الوصول مرات وسيفشل أكثر من مرة قبل أن ينجح أخيراً. في المحاولة الأولى: لن يشاهد من باريس سوى جدران سجنها الداخلي. سيوضع في السجن بعد أن عثرت عليه الشرطة مستقلاً القطار دون تذكرة سفر صالحة. في الثانية، سيهرب من المنزل العائلي لكن ليس إلى باريس هذه المرة، التي كانت واقعة تحت الحصار الألماني، بل إلى بلجيكا. مشى هذه المرة لأيام متنقلاً على غير هدى من قرية إلى قرية في الريف البلجيكي. وعن هذه الرحلة نعرف أنه حين وصل بعد أيام إلى مدينة شارلو، قصد صحيفة محلية هناك، وحاول الحصول على عمل فيها، ولما لم ينجح استراح لبعض الوقت وتابع المشي صوب مدينة بروكسل باحثاً عن منقذه في الملمات إيزامبار. وحين وصل وعرف أن الأخير غادر قبل يوم عائداً إلى بلدته ديوي في فرنسا، لحق به إلى هناك. وحين التقاه سلمه قصائد، وأخبره أنها ولدت على الطريق، ونعرف أن «حلم من أجل الشتاء»، و«الحانة الخضراء» كانت من بين هذه القصائد. كتب الأولى على متن القطار الذي حمله من بلدته إلى فاماي. وكتب الثانية خلال تجواله بالريف البلجيكي. من بين هذه القصائد أيضاً، كانت رائعته «بوهيماي»، التي يصور فيها حياة التسكع في العراء بتكثيف شعري أخَّاذ، حين يقول: «وانطلقت سائراً، قبضاتي في جيوبي المفتقة، ومعطفي هو الآخر صار محض فكرة». أو «مزقت حذائي على حصباء الدروب». قصائد الطريق هذه التي سلمها رامبو لإيزامبار، هي نفسها القصائد التي سيسميها النقاد لاحقاً بـ «قصائد الهروب المنزلي». والتي سيجدون فيها أن رامبو يقدِّم لنا شعراً يكتبه قائله ماشياً. شعراً يوائم بين إيقاع الجسد المشَّاء وإيقاع الحياة.

في منزل معلمه إيزامبار في ديوي، مكث رامبو بعض الوقت، وأكمل هناك نسخ بعض القصائد التي ألفها على الطريق. وفي أيلول من العام نفسه وصلته رسالة من الشاعر بول فرلين. يدعوه فيها الأخير، بعد أن قرأ قصائده، للمجيء إلى باريس: «تعالي أيتها الروح العزيزة الكبيرة…إننا ننتظرك وندعوك». ولاحقاً، سنعرف من فرلين أنه حين قرأ قصائد المدعو رامبو، خمَّن أن كاتبها لا بد أن يكون شاعراً مجهولاً في منتصف العمر. إذ إن القصائد التي وصلته تنبِىء بشاعر على معرفة واطلاع واسعين بالشعر في عصره والعصور السابقة، وأن معرفة كهذه لا يمكن أن تتحصل سوى لمن بلغوا من العمر عتياً. وسنعرف أيضاً أن فرلين سيتفاجأ حين استقبله في محطة القطار واكتشف أنه «بالكاد أكثر من طفل».

Mahfouz street color-_1امتناع الوصول ودوام إرجائه
في باريس قدَّم فرلين صديقه رامبو للمجتمع الأدبي، وسيغدو «الصبي الفظ والنزق»، كما وجده أكثر من شاعر معاصر آنذاك، عضواً مكرساً بين شعراء باريس. هكذا، وبسرعة حقق رامبو ما كان يصبو إليه يوم كان لا يزال فتى شريداً في بلدته شارلفيل. لكنه حين وصل إلى باريس واكتشف «محدودية» شعرائها، ووجد أنهم «يراوحون في أمكنة شعرية غادرها من زمن طويل»، هزأ من شعرهم وأحرجهم، وتعمد أن يكون فظاً معهم، وجرَّهم جراً لينبذوه. وكان له ما أراد. وصل إلى باريس، لكنه لن يكمل عامه الأول هناك، حتى كان غادرها صحبة فرلين إلى لندن. كأن الوصول إلى باريس لم يكن للصبي الشريد، الذي كانه رامبو في شارلفيل، سوى كناية عن وجوب المغادرة، لكن ليس البلدة الصغيرة وحسب، بل المغادرة بإطلاق: مغادرة كل محل فكري أو فعلي يبلغه. وعلى هذا النحو سارت حياته شاعراً وإنساناً.

بين الشعر ودوام الترحال انحاز رامبو للأخير. غادر الشعر كأنما الشعر لم يكن له سوى متعة تعويضية عن متعة أصيلة، لم يجدها، كما سيتبدى في الفصل الأخيرة من حياته، سوى في دوام الترحال: «عليَّ أن أمضي ما بقي لي من العمر شارداً».

مشَّاء الطرقات الكبيرة
معروفة قصة السنوات الخمس التي أمضاها رامبو، بعد هجره الشعر، في الانتقال مشياً وبما تيسر له من وسائل النقل بين المدن الأوروبية من شتوتغارت إلى ميلانو إلى فيينا إلى جنوة إلى مرسيليا وصولاً إلى الإسكندرية، ومنها إلى قبرص التي سيعمل فيها مشرفاً على العمال في ورش بناء. قبل أن يتركها ليمضي العقد الأخير من حياته بين عدن اليمنية وهراري الإثيوبية، متنقلاً، ماشياً في الغالب، على رأس قوافل تجارية اشتغل في تسييرها بين المدينتين. لكنه، حتى حين عمل في التجارة وخيّل للبعض أن الشاعر انتقل من نقد الجشع إلى ممارسته، ظل كل همّه تمكين نفسه من «مال يغنيني عن حياة العوز ويتيح لي دوام السفر والارتحال والمشي في بقاع قصية ومجهولة».

في السنوات الأخيرة من حياته، حتى حين كان لا يزال يعمل في التجارة، بدا واضحاً أن الشاعر السابق كان يريد أن يصبح مستكشفاً يجوب العالم. وسيكون هذا سبباً لعودته إلى الكتابة. لكن ليس إلى الكتابة الشعرية من جديد، بل إلى الكتابة الجغرافية. من مراسلاته مع شقيقته نعرف أنه أرسل لها المال، وطلب منها شراء آلة تصوير وآلات مساحة وقياس معيَّنة يستخدمها الجغرافيون. وأخبرها أنه يفكِّر بوضع كتاب جغرافي عن هراري وبلاد الغال. وأنه ينوي «عرضه على الجمعية الجغرافية الفرنسية أملاً بالحصول منها على تكليفات في رحلات أخرى». «رحلات أخرى» إلى بلاد أخرى وعناوين أخرى، هذا كل ما أراده هذا الشاعر الشريد وسعى إليه في حياته. كان يريد الوصول إلى أمكنة قصية، كتلك التي خبرها في عدن أو هراري. أمكنة تتيح للمرء القطع مع ماضيه، واستيلاد نفسه من جديد باسم جديد، ولسان جديد. وهو عين ما تأتى له فعله خلال إقامته هناك: تكلم العربية، وتطوّع لتعليمها للصغار أحياناً. عُرف بين السكان وفي معاملته التجارية باسم «عبدو رانبو»، وكان يتنكر لماضيه الشعري حين يسأل عنه، ويقول إنه محض هراء.

stick men6وحتى حين صار بساق واحدة وعكازين، بعد أن بترت ساقه اليمنى، ظل على توقه لمواصلة الارتحال. في الأيام الأخيرة من حياته، لم يشغله سوى انتظاره لساق خشبية كان أوصى عليها، وكان يمنِّي نفسه بالعودة إلى المشي بمساعدتها. وهو الذي قبل يومين من وفاته فقط، أملى على شقيقته إيزابيل رسالة توجه فيها إلى وكالة سفر يشرح فيها ظروف إعاقته الجسدية، ويستفسر عن تكاليف وإمكانية سفره إلى إفريقيا. وحين مات بعد يومين، كان من المفارقة بمكان ألَّا يجد محرر شهادة وفاته في المشفى المرسيلي من صفة له سوى: «العابر». فكتب: «أرتور رامبو. مولود في شارلفيل عام 1854م. عابر في مرسيليا. توفي في العاشر من نوفمبر عام 1891م». وكان عليه أن يضيف مع فرلين «بنعلين من ريح».

المشَّاء بإطلاق
قبل رامبو مشى روسو. وقبل نيتشه مشى الفيلسوف الدانماركي سورين كيركغارد، لكنه، كان مشاءً مدينياً. اختار كريغارد مدينته كوبنهاغن، التي لم يغادرها طيلة حياته، كمكان لمشيه ولدراسة موضوعاته الإنسانية. وعلى خلاف روسو ونيتشه، اللذين فضلا المشي في الغابات والطبيعة البكر، كان كريغارد الانطوائي والمكتئب منذ الولادة، يحتاج إلى بعض الضوضاء، إلى بعض الضجة المدينية لكي ينسى حزنه الشخصي ويستعيد مقدرته على التفكير والكتابة. وهذا ما وجده في كوبنهاغن التي كان المشي في شوارعها وسيلته الوحيدة للاحتكاك بالآخر، لأن يكون بين الناس، وهو العاجز عن مخالطتهم ونسج صداقات معهم.

«لا أقدر على تزويدك بعنوان للرد على رسالتي هذه. أجهل إلى أين يمكن أن تحملني قدماي. وعلى أي درب، أو طريق، ولماذا وكيف».
رامبو

وقبل كريغارد مشى بيتهوفن أيضاً. كان يؤلف الموسيقى في أثناء مسيره اليومي الطويل في غابات فيينا، مسلياً نفسه بين الحين والآخر بمطابقة النغمات في رأسه مع إيقاع خطو قدميه على الأرض. ومن قراءة سيرته نعرف، أن صاحب «السمفونية الخامسة» وغيرها كثير من روائع التأليف الموسيقي، كان حريصاً على اصطحاب دفتر ملاحظات عند خروجه للمشي، وأنه بين الحين والآخر كان يتوقف لتدوين بعض الأفكار الموسيقية التي كثيراً ما كانت تدركه أثناء المشي. وأن «الرعاة» وسواها من سمفونيات ومعزوفات بيتهوفن ولدت أثناء مشاويره اليومية في الغابات. وبعد بيتهوفن، مشى تشايكوفسكي وألَّف الموسيقى في العراء. حتى إن التطابق المذهل لجهة موقع المشي العضوي والمركزي من نتاجهما الإبداعي، دفع بعض مؤرخي الموسيقى إلى الاعتقاد بأن تشايكوفسكي قد التقط فكرة التأليف الموسيقي خلال المشي عن بيتهوفن.

Beethoven_

كل هذا قبل أن يظهر «مشاء الطرقات الكبيرة»، رامبو. فلئن نجح روسو ونيتشه وكريغارد وبيتهوفن كل على طريقته وبأسلوبه في المواءمة بين المشي والإبداع، وجعل واحدهم يمشي ليفكر ويؤلف موسيقاه أو كتبه، فإن رامبو الذي كتب الشعر لفترة وجيزة من حياته، بدا غير راغب في تدجين المشاء الذي بداخله لخدمة الشاعر الذي كانه. وهذا عين ما يفرقه عن المشَّائين الكبار في تاريخ الفلسلفة والموسيقى والأدب. ويجعل من سيرته سيرة المشاء بإطلاق. هكذا، وعلى خلاف نيتشه الذي اكتشف أن «الكتابة بالأقدام» شرط الكتابة الجيدة، وظل يكتب حتى منعه مرضه من ذلك، توقف رامبو طوعاً عن الكتابة في العشرين من عمره، وترك لأقدامه أن تكتبه وتكتب مصائره.

أضف تعليق

التعليقات