قصة مبتكر
قصة ابتكار
أليشـا أوتيـس
السبُّورة
أوتيس اسم لا بد وأن يكون كل واحد منّا قد قرأه يوماً على المصعد. ولكن الاسم قبل أن يكون لإمبراطورية صناعية تنتشر مصاعدها في 200 دولة حول العالم، كان اسم شاب معتلّ، غير متعلم، وفقير إلى أبعد حدود الفقر، بدأ عمله بنقل البضائع وبعض الحرف اليدوية البسيطة. فالرجل الذي صار يحرك بابتكاره عدد سكان الأرض جميعاً صعوداً ونزولاً خلال تسعة أيام، عاش حياة شبيهة بحياة جان فالجان في رواية فيكتور هوغو البؤساء . لكن نهايته لم تكن كذلك.
ولد أليشا أوتيس في مزرعة في فيرمونت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1811م، وهو الصغير بين ستة إخوة. وبالرغم من اعتلال صحته وهو طفل صغير, حاول أن ينشيء عملاً خاصاً, لكن فقر العائلة الشديد ومشكلاته الصحية حالت دون ذلك. كما جعله ذلك يترك المدرسة ، ليهاجر إلى توري في نيويورك حيث سكن لسنوات خمس مارس خلالها أعمالاً يدوية تمكّن بواسطتها, رغم اعتلال صحته مرة أخرى, من توفير بعض المال. فعاد إلى فيرمونت واشترى أرضاً صغيرة أقام عليها مطحنة قمح. لكن المطحنة لم تنجح فحوّلها إلى منشرة خشب. وهناك تفتحت عبقريته في صنع العربات الصغيرة. لكن صحته اعتلت مرّة أخرى ولم يستطع أن يعمل عملاً يدوياً شاقاً فتوقفت المنشرة. وانتقل لاحقاً مع زوجته وأولاده إلى ألباني في نيويورك حيث عمل موظفاً في معمل سنة 1852م. وعندما كان صاحب العمل بحاجة لأن يرفع الآلات الكبيرة إلى الطابق العلوي، تساءل أوتيس مع نفسه ماذا لو استطاع المرء أن يخترع آلة للرفع لا تسقط ؟ لقد غيّر هذا السؤال تاريخ المدن والتخطيط والهندسة المعمارية للمدن إلى مستقبل بعيد. ويعزو الكثير من الباحثين نشوء ناطحات السحاب والأبنية العالية إلى هذا الاختراع المهم. فبدلاً من أن تتوسّع المدن أفقياً, اتسعت عامودياً فوق الأرض وتحتها.
فالمصاعد استعملت منذ فترة زمنية قديمة جداً إلى ما قبل 2400 سنة في أهرامات مصر وغيرها. ولكنها كانت تعمل على الطاقة البشرية أو الحيوانية. أما الجديد الذي اخترعه أوتيس فهو الكابح حيث أصبح المصعد أكثر أماناً خصوصاً للناس.
وقبل أن يتمكن أوتيس من تحقيق فكرته توقف المعمل حيث يعمل بسبب التأرجحات الاقتصادية العنيفة في تلك الفترة. فاستدان بعض المال وأنشأ معملاً للمصاعد، وقد عرض مصاعده الجديدة بـ 300 دولار أمريكي, وباع بعضاً منها عام 1853م. لكن الركود الاقتصادي كان حائلاً دون أن يطلب أحداً أي مصعد في الربع الأول من عام 1854م. فاستغلّ أوتيس المعرض العالمي في كريستال بالاس في نيويورك وعرض مصعده. وهناك اعتلى المنصة حيث المصعد ورفعه أمام جمهور كبير إلى حوالي 40 قدماً وأمر مرافقه أن يقطع الحبل, فحبس الجمهور أنفاسه خوفاً وغير مصدّق أن أوتيس بقي مكانه فانحنى أمامهم وأعلن بأمان, بأمان, أيها السادة . وقد نشر هذا الموقف الدرامي في اليوم التالي في صحيفة نيويورك دايلي تريبيون وكذلك في المجلة الشهيرة Scientific American عام 1854م. ومنذ ذلك التاريخ والطلبات تتزايد على أوتيس، والشركة التي أسسها تكبر وتعبر القارات والحدود.
في عالمنا اليوم، لا يمثل السؤال عن الطريقة المناسبة لعرض فكرة ما أمام مجموعة من الناس أية مشكلة. فسواء أكنت في صف دراسي في مدرسة، أو قاعة محاضرات في جامعة، أو غرفة اجتماعات في إحدى الشركات، هناك عشرات الطرق للقيام بذلك.
لكن ذلك السؤال لم يكن ببساطته التي نعرفها الآن، حين واجهه الاسكتلندي جايمس بيلانس (1778 - 1864م)، وهو يدرّس الجغرافيا بالمدرسة الثانوية بأدنبرة. لم تكن هناك، في ذلك الوقت طريقة يمكنه من خلالها أن يعرض المعلومات المكتوبة أو المرئية التي يحتاجها خلال التدريس. كان الطلبة في مدرسته في ذلك الوقت، يستخدمون ألواحاً صغيرة للكتابة، وكان لكل طالب لوحته الخاصة التي يدون عليها شرح دروسه. وكان على المعلم إن أراد أن يقدم معلومة مكتوبة لطلبته، أن يمر على كل واحد منهم، ويدون في اللوحة الخاصة به، تلك المعادلة الرياضية، أو الخريطة، أو بيت الشعر.
فكر جايمس بيلانس في طريقة تمكِّنه من شرح الدروس، وعرض الخرائط، والرسوم التوضيحية، من دون أن يكون مضطراً لنسخها عشرات المرات على ألواح طلبته. وقاده تفكيره إلى ابتكار لوح كتابة كبير الحجم، مصنوع من الخشب، ومغطى بطبقة من حبيبات رملية خشنة، لتشكل سطحاً أسود، يستطيع أن يدون عليه ما يريد لمرة واحدة، وبحيث يكون مرئياً ومتاحاً أمام طلبته جميعاً في نفس الوقت. وبذلك ظهرت أول سبورة عرفها العالم.
أصبحت السبُّورة منذ ذلك الحين شيئاً أساساً لا غنى عنه في قاعات الدرس. وانتشر استخدامها في كل مكان في العالم. ومع مرور السنوات تطورت صناعتها، فأصبحت تصنع من المعدن، وتغطى بطبقة رقيقة من البورسلين الناعم، تسهِّل الكتابة عليها بواسطة الطبشور الذي يمكن محوه بسهولة. كما أصبحت تصنع بأحجام وأشكال مختلفة، لتناسب استخداماتها المتعددة. فنراها كبيرة تغطي الجدار الأمامي في الفصول الدراسية وقاعات المحاضرات، أو صغيرة متحركة في ذلك الركن في غرفة طفل، يتعلم بواسطتها الحروف الأبجدية. ونراها كذلك حاضرة بقوة في عالم الأعمال، حيث تستخدمها العديد من الشركات الكبرى في اجتماعاتها لعرض المعلومات ومناقشتها، كإحدى الوسائل التي تساعد على الوصول إلى حلول مبتكرة وأفكار إبداعية. ربما لأنهم يعتقدون أن النظرية النسبية التي توصل لها ألبرت أينشتاين، يعود الفضل فيها إلى تلك السبُّورة السوداء التي كان يدون عليها ملاحظاته وأفكاره!
|