عن القصيدة وأصيلة وفلسطين
كُتبت هذه القصيدة في زيارتي الأولى إلى مدينة أصيلة المغربية منذ الساعات الأولى لوصولي إليها، إذ لمستُ، ليس فقط حجم التعاطف والتقارب بيني وبين الناس هنا، بل «نوعية» هاتين الصورتين من التلاقي.
كنت قد لمست مشاعر المحبّة الطاغية منذ دخولي المغرب للمرة الأولى. لكنني لم أتوقَّع أن تبلغ المشاعر إلى هذا الحد. وبينما أتجوَّل في ساحات أصيلة وأزقتها و«زنقاتها»، في المقاهي والمطاعم، راحت مشاعر الدفء تنتشر وتتعمّق. ففي أصيلة، كانت إقامتي في مكان وسط المدينة، حيث التحرك يصبح سهلاً في الاتجاهات جميعاً.
كنت في المقهى، وكان ينظر إليَّ كغريب قادم من مكان غريب. وفجأة قام واقترب مني، ثم طلب الجلوس معي، وانطلق الحديث بيننا حول بلادي، فلسطين. قلت له إنني لا أعرفها، فقد ولدت وترعرعت في الأردن. أهلي، أعني أمي وأبي وجدي وجدّتي جرى تهجيرهم من فلسطين عام 1948م، لهذا أنا فلسطيني بالوراثة.
لا أدري كيف انطلق صوت فيروز بأغنية «سنرجع»، وحين سألته، قال نحن نسمع فيروز يومياً هنا، في هذا المقهى، فما الغريب؟ وراح يغني تلك الأغنية الشهيرة، ثم دعاني إلى غداء ووجبة مغربية، ودعاني للإقامة معه، ما جعلني أشعر بحجم الانتماء إلى فلسطين هنا.
وفي زنقة الأرجوان، المتفرعة من ساحة محمد الخامس، وهي الساحة العامة في أصيلة، جلسنا للغداء في مطعم عربي، كانت الأغاني لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وفجأة سمعت أغنية للمملكة المغربية الأبية، العربية، والملك الحسن الثاني، وكان الصوت صوت عبدالحليم، فوجئت حقاً، وسألت صديقي متى غنَّى حافظ هذه الأغنية؟
في هذه الفضاءات المغربية، عشت شهوراً، ورأيت وصادقت كثيراً من المغاربة الذين تربطهم علاقات متينة بفلسطين، بشعبها وقياداتها وثورتها، أعني ثقافتها كلها، شعرها وغنائها. وهكذا بدأت قصيدتي، بدأت من هذا التمازج بين روح فلسطين وروح المغرب، ومن هذا التلاقي المفاجئ للشاعر بين ذاكرته الفلسطينية وحاضره المغربيّ.
هكذا ولدت القصيدة، في هذه الأجواء الحميمة، في هذا الفضاء الحر!
مِنْ كُرومِ قَصائدِها
أشْتَهيْ
أنْ أغَنّي لَها
أنْ أغَنّي أغاني الشّجَرْ
لو كنتُ شابّا
كنتُ سأحملُ هذا الجَمالَ
إلى جَنَّةٍ في الخَيالِ
و..أصيلةُ
أنْ تشرب القَيْروانيّة المَغْربيّةَ لَيلًا
والأتايَ بِنَعْناعِه في الصَّباحْ
بَينَ عَيْنَيكِ عُشّي ونَعْشي
آذارُ أصيلةَ
تَعْصِفُ بِهِ الرّياحْ
عَلّميني حَياةً تكونُ عَميقةً
في أصيلةَ
كان فتىً مغربيٌّ رآني وحيدًا،
خَطا نحو طاوِلتي
خُطْوَتَينِ، ثَلاثًا،
وقالَ: سأجْلِسُ
إنّي أرى وَجَعًا يترنّحُ ما بينَ عينَيكَ،
•أأنتَ..
• أنا عرَبيٌّ..
•ولكنْ بَدا لي..
•نعمْ، وفَلسْطينُ منّي
ترنّح عِشْقًا،
وراحَ يُغَنّي: “فَلسطينُ داري”
وظَلَّ ” يُغَنّي” لَها
بَاكيًا، فبَكَيتُ
وبَينَ بُكاءٍ ورَقْصٍ سُؤالٌ:
فَلسْطينُ، هلْ ستعودُ لنا ونعودُ لها؟
ثمّ يبكي: فَلسطينُ، مَن باعَها؟
ويغنّي:
تُرى، هل أرى القُدسَ،
أدري بأنّ “هُنالِك حَيّ مَغاربةٍ”
حيث جَدّي ينامُ شهيدًا هناكْ
في أصيلةَ
قالَ الفَتى المَغْربيُّ:
فَلسطينُ في قَلبِ مَغْرِبِنا
وهْيَ أختٌ لَنا
قلتُ:
والمغربُ “النّاسُ” قَلْبٌ لَنا
في أصيلةَ
قالَ دَمي:
قادمٌ لأقدّمَ نهرًا من الياسَمينِ
إلى العاشِقينَ الصِّغارِ
وللعاشِقاتِ العَذارى
وأُعمّرَ بالحُبّ لَيلَ الصَّحارَى
وأعرفُ أنّي
جديرٌ بقَلبِ أصيلةَ
بالوَردِ في رُوحِها الأطْلَسيَّةِ
بالنّارِ في دَمِها
وما يَتَلألأ في ثَوبِها
وأزِقّتِها
ومَفاتِنِها
فأنا مَحضُ طِفلٍ على صَدرِها
في أصيلةَ
قالَ الفَتى العربيُّ لِصاحِبِه المَغربيّ:
أحبّكَ
قال الفَتى المغربيّ لِصاحِبِه العربيّ:
أحبّكَ
واشْتَبَكا في عِناقِ الزُّهورْ
وحين أقولُ
“أصيلة”
تنبتُ أجنحةٌ وأطيرُ
أراني نوارسَ بيضاءَ
في وطنٍ عابرٍ للحُدودْ
وأخيرًا
شَرِبتُ كرومَ أصيلةَ
حتّى الثُّمالةِ
حتّى النُّخاعِ الأخيرْ