إن بعض تجارب الضوء المتسلل إلى مفردات الصورة الفوتوغرافية تبدو آهلة بالجمال الذي يزخر بالمعاني، خصوصاً عندما تظهر هذه الصور الصادمة بضوئها في غرف معتمة. وتبدو تجربة المصور الأمريكي آنسل آدمز في إيجاد صورة خالصة غنية بالأحاسيس ملهمة بمستويات ضوئها الساقط. أثير السادة ينحاز إلى آدمز الذي انحاز بدوره إلى الطبيعة.
كان الأبيض والأسود فرشاتهم الوحيدة في عالم الرسم بالضوء، إنه خيار البدايات الذي أخضع إلى كثير من الاختبارات الجمالية، في هذا المزيج المستحيل تجلت أبهى انعكاسات الظل والضوء في لوح الصورة، فبات الواقع أكثر صرامة وأكثر تجرداً من زخرف اللون الذي يغتال عمق الأشياء، أو على أقل تقدير يزيح النظر بعيداً عن الجوهر الغائر في مفردات الصورة.

لم تكن ألواناً محايدة، بل بدت بمنزلة الإعلان المسبق عن الانحياز لروح الأشياء، على النحو الذي كانت عليه تجربة آنسل آدمز (1902-1984م)في المرحلة الأهم من حياته الضوئية التي تفتحت على آفاق النزعة البكتروليزم بدايةً، قبل اتصالها بعالم إدوارد وتسن وألفريد ستابلرز وتمثله لمعطيات الحداثة التي شددت على إيجاد صورة خالصة.
جاءت صوره ملونة بالأحاسيس، بذلك الاصطفاء الدقيق لمستويات الضوء الساقط على مفردات الصورة، جعلت من مهمة استظهار الصورة فعلاً جمالياً هو الآخر، فعلاً متمماً لمعنى الصورة وقيمتها الفنية، حتى كانت تحولات الصورة المونوكرومية مرتبطة بتلك الحساسية الجديدة في إنتاج الصورة في الغرف المظلمة، والتي اجتهدت لاكتشاف تعرجات الضوء في اتساع الصورة، واستثمار كثافة الظلال لإدراك الشروط المعقدة للعلاقة بينهما، فالمكمن الجمالي للصورة هو في تلك التطريزات الدقيقة لمستوى الحضور والغياب بين الظل والضوء.

قراءة الضوء تبدأ من لحظة التصور الذهني للصورة، لحظة تماسها بأحاسيس المبدع، وهو ينتخب لحظة يغمض عليها عين الكاميرا، كان آنسل يتفانى كثيراً في تعميق مفردات الصورة، وكان مسكوناً بذلك الهاجس النغمي لتنويعات الضوء، حتى انتهى به المطاف إلى تطوير ما عرف بـ(Zones System) الذي عمد إلى ترسيم مساحات الضوء حسب كثافة انتشارها، ليكون بمنزلة الذروة في وعي سلوك الضوء ضمن بناء الصورة، وليصبح الدرس الأهم في سيرة التصوير الاحترافي.

بمثل هذه الحساسية كان يقارب هذا المزيج من اللونين الأبيض والأسود بكثير من الحماسة، ليمنح الصورة طاقتها التعبيرية، ومناخها ومزاجها الفني، فهي من ثمَّ جزء من تأملاته ورغباته وخبرته الجمالية، ومنظوره الشخصي الذي يمنح الصورة فرادتها في كل مرة يرسم الخطاطة الأولية في ذهنه للمشهد محل التصوير، أو ما اختار توصيفه لاحقاً بـ (visualization) ليستقر كواحد من أدواته الفنية، وكثيراً ما كان يحيل في حواراته على هذا الحضور الواعي للمصور في بناء الصورة، بنحو يعزز معنى صناعة الصورة الذي أريد به إزاحة التصورات الأولية التي حاولت اختزال فعل التصوير في مجرد الالتقاط، أي النقل الميكانيكي للحظة الفوتوغرافية.

إنها عملية واعية للتنبؤ بالشكل النهائي للصورة، كما يصف آنسل في إصدار (The Negative)، بها يملك المصور القدرة على رؤية الأشياء كصورة ناجزة قبل تنفيذها، والقدرة على النظر إلى الأشياء بما هي ملونة وإدراك قيم الأبيض والأسود الكامنة فيها، فهي تمرين للحواس، على حد تعبيره، للإحساس بإيقاع الأبيض والأسود وباقي تنويعات المساحة الرمادية حتى الوصول إلى الأسود المتين وتمييزه عن الرمادي الداكن.

كانت الطبيعة في أمريكا بتضاريسها البارزة موضوعاته الأثيرة، لذلك استحالت علاقته بوادي يوسمايت فالي في سييرا نيفادا إلى فسحة للاستكشاف البصري، تغلغل معها في صياغة لوحات فنية، ليكتب بها سيرة للأماكن الآسرة. لتلتقي تلك الغايات الجمالية بأخرى بيئية، حيث عُدَّ واحداً من المناضلين لأجل البيئة والداعين إلى احترامها ورعايتها، مؤسساً بذلك رباطاً متيناً بين الفن وقضايا البيئة، إذ كان يرى في الطبيعة رحماً للمعاني التي تحض الإنسانية على التراحم والتعاضد، وبذلك كان يعلل تشاغله الدائم بهذه الفكرة حتى في زمن الأزمات التي مر بها العالم من حوله.

تلك الجبال الشاهقة وهي تعانق خيوط الضوء في الصباح وهبته الإشارات الأولى لسلوك الطريق الطويل في معرفة أسرار الإضاءة الطبيعية، وعلاقتها بتضاريس الأشياء، سيطرت تلك المصابيح المضاءة في السماء ساعات النهار على تفكيره، مضى في اختبار حضور الظل والضوء المتنوع في الفضاءات الواسعة، حتى انتهى إلى أفكاره الوضاءة في هندسة الضوء.

وببلوغه ذروة الوعي بجماليات التصوير تحوَّلت الصورة إلى سجل للتجارب الشخصية أكثر من كونها توثيقاً للأماكن، على حد وصفه، بات يرى في التصوير اقتراباً من العالم الداخلي بقدر الاقتراب من ذلك المعطى الخارجي، لم يعد بالإمكان حصر مهمة التصوير باستنساخ الواقع البصري، بل هي علاقة حب بالدرجة الأولى بين المصور وموضوعاته، وهي بمنزلة الإدراك الأعمق للحظة الأهم في مشهد التصوير.

لذلك وجد المنتصرون لتجربته في تصوير الطبيعة أن ثمة فرادة في بناء الصورة عنده، فهي لا تحكي عن جيولوجيا، أو صخور، أو منحوتات أو حتى طقس، بل تغوص في تفاصيل كل ذلك لتهب المشاهد الإحساس بمستوى الرطوبة ودرجة الحرارة والساعة واليوم والشهر، فهي ما تجهد لبلوغه وتبيانه عبر حساسيته العالية بتمثلات الظل والضوء.

كانت تجربة آنسل كفيلة بإعادة اكتشاف جاذبيات المكان في سييرا نيفادا التي تكرر على زيارتها في مراحل نضجه المبكرة، حتى إذا ما غادر الحياة في 22 أبريل من عام 1984م حُفر اسمه على واحدة من تلك الأودية والجبال التي أحبها بعد أن منحته الولايات المتحدة ذلك تكريماً له، وهو الذي وصفه أحد أقرانه بأنه كان أمريكياً أكثر من أي أحد آخر لإسهاماته الفوتوغرافية ودفاعه عن الطبيعة في عالم كان يغرق في الأزمات.