حياتنا اليوم

الطائرة الورقية
والحلـم بالأعالـي

  • 63a
  • 56a
  • 58a
  • 58c
  • 60b
  • 61e
  • 62a

بها تحقق لأول مرة حلم الإنسان بصناعة شيء يطير.. شيء يفلت من الجاذبية ويعلو إلى حيث لا يستطيع الإنسان الوصول. ولصورتها محلقة في الفضاء تتراقص مع النسيم شاعرية جعلت منها واحدة من أطول الهوايات والتسالي عمراً.
إبراهيم العريس يحدثنا عن الطائرة الورقية التي عاشت لقرون في وجدان أطفال العالم (وغير الأطفال أيضاً)، والتي رغم تراجع اهتمام الناس بها في السنوات الأخيرة، لا تزال تحتفظ بجاذبيتها وحضورها حيثما أتيح لها مجال للتحليق، مثل المهرجانات التي تقام في الهواء الطلق، ومنها على سبيل المثال مهرجان الربيع الذي أقيم خلال هذا العام في النعيرية بالمنطقة الشرقية من المملكة.

طيري يا طيارة طيري, يا ورق وخيطان…
بدي إرجع بنت زغيرة على سطح الجيران…
كل شيء يبدو حاضراً هنا في هذه الكلمات البسيطة التي تبدأ بها إحدى الأغنيات الفيروزية: فهنا يواجهنا الهواء الذي يحمل الطائرة إلى البعيد..إلى الأعلى. ولدينا المادة التي تصنع الطائرة منها. ولدينا مثل هذا وذاك, حس الطفولة الذي ارتبط بهذه «اللعبة» التي ربما تكون أول محاولة قامت بها البشرية للصعود المادي الملموس إلى الأعلى إلى الفضاء الذي ما برح الإنسان ينظر إليه من على سطح كوكبه آملاً بغزوه ذات يوم.

الطبيعة والبراءة, حركية المجتمع وتوق الإنسان إلى بلوغ الأعلى, كل هذا إذن, في هذين السطرين. حكاية طائرة الورق بدت دائماً هكذا. حتى ولو كان في وسعنا أن نقول إنها, في مرّات كثيرة تجاوزت هذه البراءة الأولية، وفي اتجاهات عديدة.

يوم راقبوا الطيور بحسد
حكاية طائرة الورق حكاية قديمة جداً. وربما يعجز أي تاريخ عن تتبع بداياتها الحقيقية. ومع هذا هناك من يقول دائماً إن أول ظهور لطائرة الورق, في أوروبا على الأقل, يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. إذ تقول التقاليد إن العالِمْ الإغريقي أرخيتاس, كان أول «مخترع» لها. والحقيقة أن هذه الفكرة ظلت سائدة, في أوروبا أيضاً, لزمن طويل, حتى كشفت الكتب ونصوص أدب الرحلات واللوحات الفنية والنصوص الأدبية الآسيوية, أن «طائرة الورق» كانت موجودة في التقاليد الشعبية والدينية في معظم مناطق شرقي آسيا منذ أقدم العصور. في كوريا كما في الصين, في اليابان كما في ماليزيا, تعتبر طائرة الورق, تسلية يلجأ إليها الكبار والصغار منذ بدأوا يشعرون بالحاجة إلى تسلية ما. ومنذ راحوا يراقبون الطيور تحلّق فوق رؤوسهم ويتساءلون: إذا لم يكن في وسعنا نحن أن نطير مقلّدين الطيور. لماذا لا يمكننا أن نطيِّر شيئاً ما. وهكذا في الوقت الذي راح فيه إنسان آسيا, يرصد حركة أشياءٍ صغيرة يرمي بها في الجو, فتعود إليه بشكل عام, فيما تختفي أشياء أخرى عن ناظريه, اكتشف أنه إن أطلق في الفضاء مواد أخف من الهواء, وربطها بخيط, يمكن لهذه المواد أن تتموج في الجو على هواها ويمكنه هو أن يتحكم بها ليعيدها إلى عالمها الأرضي.

هكذا, وبكل بساطة, ولدت الطائرة الورقية. وفي أماكن متعددة من تلك الأصقاع الآسيوية. ولدت في تقاليد متبادلة أو ولادات متعددة متوازية زمنياً؟ الجواب هنا لا يبدو ضرورياً حتى وإن كان ثمة ميل عام إلى القول إنها وجدت أولاً في الصين. لكن الكوريين كانوا أفضل من استخدمها. أما اليابانيون فكانوا من أعطاها أبعاداً ميتافيزيقية. ولكن وربما في مناطق آسيوية أخرى عديدة, اتسمت الطائرات الورقية بسمات ميتافيزيقية واضحة من دون أن تفقد في الوقت نفسه سماتها الأساسية كوسيلة للتسلية. فانطلاقاً من كون الطائرة الورقية, شيئاً يطلقه الإنسان إلى الأعلى, كان من المنطقي اعتبارها مسعىً للسمو والارتفاع عمّا هو أرضي ودنيوي.

لإبعاد أشباح الليل
نجد هذا كله واضحاً لا لبس فيه ولا غموض, في كل التقاليد التي تحدثت عن تاريخ الطائرة الورقية. وهذه التقاليد تبدو, في نهاية الأمر, متواصلة في حديثها عن طائرة الورق. فالمسألة تبدو دائماً تسلية وأبعد من التسلية في الوقت نفسه. ولنُشر منذ البداية إلى أن الطابع الميتافيزيقي لوصول شيء إلى الجو مرسلاً من الإنسان, تجسِّد, في نهاية الأمر, ولدى الشعوب الآسيوية كافة في اعتقاد خرافي كان, ولا يزال, يرى أن تحليق طائرة ورقية ليلاً فوق بيت من البيوت, كفيل بأن يبقي الشر بعيداً عن البيت. ومن هنا ما دوّنه رحّالة أوروبي قصد الصين وكوريا في القرن الثالث عشر, حول أنه رصد ليلاً مئات الطائرات الورقية, وبعضها يلمع بفضل ألوان فسفورية أضيفت إليها, تحلّق فوق البيوت مربوطة بخيوط طويلة عقدت أطرافها فوق أسطح تلك البيوت. ولكن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الطائرة الورقية كانت دائماً تميمة من التمائم, فهي كانت تسلية تُفرح الصغار وتثير فضول الكبار أولاً وأخيراً. لكنها كانت, وهذا شيء ينبغي أن يقال هنا أيضاً, ذات استخدامات عسكرية وهندسية كذلك. كيف؟

جنرالات الطائرة الورقية
في كوريا خاصة, تروي حكايات الماضي أن واحداً من قادة الجيش اضطر ذات مرة إلى إقامة جسر لتعبر عليه قواته فوق نهر عميق. ولما تعذَّر إرسال جنود إلى الناحية الأخرى يربطون حبالاً تمسك الجسر, طيرت طائرة ورقية عملاقة ربطت بخيط ربط بدوره في حبل. وبعد تجارب عديدة حطَّت الطائرة هناك، وعلق الخيط وأجريت عمليات في غاية الدقة أسفرت في النهاية عن إقامة الجسر.

وفي حكاية ثانية, من كوريا أيضاً، أن قائداً عسكرياً آخر, علق مصابيح مضاءة بأذيال طائرات ورقية وأرسلها إلى الجو كإشارات محددة و «شيفرة» إلى جنوده.

بيد أن الحكاية الأشهر بين الحكايات المتعلقة بالطائرة الورقية تبقى التجربة التي قام بها بنجامين فرانكلين, العالم المخترع والمفكر المعروف, الذي حين صاغ جملة نظريات حول الشحنة الكهربائية التي تنتج عن الصواعق, ورأى حين انتقل من النظرية إلى التطبيق, أن خير وسيلة للقيام بتجربة عملية, هي من خلال طائرة ورقية. وهكذا صنع طائرة علق في طرف ذيلها قطعة معدنية من النوع المسمى «جاذب الصواعق». وحين أمطرت السماء وبدأت الصواعق والزوابع, أطلق فرانكلين طائرته في الفضاء. وبالفعل تجمعت الشحنة الكهربائية في قطعة المعدن لتسلم البيوت والأماكن الأخرى من أذاها. وهكذا لعبت طائرة الورق دوراً أساساً في اكتشاف فرانكلين واختراعه اللذين ظلا مستخدمين لمنع الصواعق حتى زماننا هذا.

ولكن الطائرة الورقية تبقى أساساً وسيلة للتسلية في شتى أنحاء العالم, وبصرف النظر عمن كان رائداً في ابتكارها وفي من استفاد منها. ففي زمننا هذا, كل الناس يصنعون هذه الطائرات، وكل الناس يستخدمونها، وثمة مباريات ريعية غالباً تقام في مناطق كثيرة في العالم, بين الصانعين كما بين الذين يطيّرون الطائرات. وليس من الضروري أن يكون هؤلاء من الأطفال, حتى ولو كان الأطفال هم أغلبية «جمهور الطائرات الورقية».

أخف من الهواء أو أقوى
ولكن قبل أن نتحدث عن هذا لا بد من الإشارة إلى أن الطائرات الورقية تنخرط علمياً في واحدة من فئتين أساسيتين تنتمي إليهما كل الأشياء الطائرة التي عرفها التاريخ, بدءاً برحيق النبات ووصولاً إلى الصواريخ العابرة للقارات. الفئة الأولى هي فئة الأشياء التي يزيد ثقلها, أصلاً على ثقل الهواء.. فيما الفئة الثانية هي فئة الأشياء الأخف من الهواء. وفي حين تحتوي هذه الفئة الأخيرة على البالونات التي تطير من تلقائها إذ تنفخ بغازٍ خفيف, كما على المناطيد التي تملأ, لكي تطير, بهواء يسخّن فيضحي أخف من الهواء البارد الطبيعي. في المقابل تحتوي فئة الأشياء الطائرة الأثقل من الهواء على كل أنواع المخلوقات الطائرة والحشرات والآلات, التي تخترق الأجواء, والأجواء العليا, إما بفضل الحركة, أو بفضل النفث التفجيري. و هنا, في حال الطائرات الورقية, بفضل حركة الهواء وقوتها.

وهنا يُطرح سؤال: كيف صارت الورقة قادرة على الطيران؟
بكل بساطة هي مبدئياً أثقل من الهواء. ولكن حين تشتد حركة هذا الهواء, وتوضع الورقة في وضعية منحنية بعض الشيء وإن في شكل مسطح تقريباً, يصبح في إمكانها أن تعلو وتعلو بمقدار ما تمكنها حركة الهواء من ذلك. وتربط بذلك الخيط الطويل الذي يبقيها مرتبطة بالأرض سواء أأمسك شخص ما بطرف الخيط, أو ربط الخيط بأي شيء ثابت على الأرض. وأما حركة انحناء مسطح الورق التي تتيح له الطيران, فمضمونة من خلال ما يسمى بـ «الذيل» وهو عبارة عن كتلة ورقية مستطيلة (حبل من ورق مكثف) تربط كالذيل بإحدى زوايا المسطح مخفضة تلك الزاوية إلى الأسفل في حين تصعد الزوايا الثلاث إلى الأعلى لأنها أخف.

والآن بعد أن حددنا هذه الأمور التي قد تبدو, بالنسبة إلى القارىء, بديهية اليوم, لكنها في الحقيقة احتاجت إلى زمن طويل حتى تتجمع وتتحول في مجملها إلى تلك الطائرة التي نعرفها اليوم, وتُفرح منا الصغار والكبار, لا بد من الوصول إلى الكيفية التي تصنع بها, بشكل أساس, هذه الطائرة. علماً بأن أشكالها وأحجامها متنوعة تنوع ألوانها وزينتها ومواسمها.

يبقى الحنين
يمكن للطائرة الورقية انطلاقاً من هذا أن تتخذ عشرات الأشكال فتقسم في الصين وأقاصي آسيا بسمات التنين, وتصبح ذات شكل يماثل رأس الأسد أو النمر, ثم ذات شكل يماثل أي شكل آخر, خاصة أن استخدام الورق الملوّن, واستخدام ألوان عديدة في الطائرة الواحدة, صار أمراً رائجاً ومستحباً وتجري من حوله مسابقات الجمال.

أما من الناحية الأقل تسلية والأكثر جدية, فإن الطائرة الورقية, ولا سيما بالشكل السداسي, تستخدم لإجراء تجارب متنوعة, ولعل أشهر هذه التجارب تلك التي تتم عن طريق الأسلوب المسمى «القطار». هنا تصنع طائرة أولى تطلق في الجو حتى ارتفاع يتناسب مع طول الخيط الذي يمسك بالطائرة, ثم تربط بالطرف الأرضي للخيط طائرة ثانية مماثلة تطلق بدورها, ومن بعدها طائرة ثالثة ورابعة وهكذا. ونذكر هنا أن هذا النوع المتتالي من الطائرات كان يستخدم, قبل وجود بالونات السهر, من أجل الدراسات في مجال الطقس والمناخ, كما أنه كان يستخدم لالتقاط لقاح النباتات الذي يطير خلال فصول الربيع إلى أعلى طبقات الجو.

كل هذا يبدو لنا اليوم منطقياً في بدائيته وظرفه. ولكن ماذا سيكون رأي القارئ لو عدنا مرة أخرى إلى التاريخ لنذكر أن الطائرات الورقية كانت, في صيف غابر الأزمان, قد حققت حلم الإنسان بالطيران. وكان ذلك حين صنع الصينيون طائرات ورقية عملاقة مكنت أناساً من التمسك بها والطيران فوق الوديان ملقين بأنفسهم في الجو من أعلى السطوح دون أن يصيبهم أذى؟ مهما يكن فإن هذه التجارب البدائية التي لن ننكر هنا أنها كانت توقع ضحايا بين الحين والآخر, سرعان ما أوقفت قرون طويلة, قبل أن يعاد استخدامها خلال الحرب العالمية الأولى, وفي أوروبا حتى, من أجل تطيير مراقبين كانوا يُكلّفون بمهمة تصوير تجمعات العدو واستبيان دروب تحركه. والحقيقة أننا إذا ما بدأنا هنا في تعداد وسائل وأساليب الاستخدامات المتنوعة, غير الترفيهية, للطائرات الورقية, فلن يمكننا أن ننتهي أبداً. فالحال أن الطائرة الورقية هي, في كل هذه المجالات, الوالدة الراعية لكل تقدم نجده اليوم في عالم الطيران.

ومن هنا لكي لا نزحم رأس القارئ بنص علمي, نقول إن ما يهمنا في زمننا الراهن هذا, من طائرة الورق, هو ما باتت مقتصرة على أن تكون: أداة للتسلية, للبراءة وللحنين. ولعبة ربيعية طيبة يحلو لنا أن نتذكرها.

خشب ورق وقليل من الوقت
من ناحية مبدئية, لصنع طائرة ورقية نموذجية يحتاج المرء إلى مسطح من الورق يصل طول كل ضلع من أضلاعه المتساوية إلى نحو 60 سنتيمتراً. فإذا كانت الورقة رقيقة وهشة تلصق ورقتان فوق بعضهما البعض, ثم تطوى الأطراف وتلصق على عرض 2 إلى 3 سم, كما يحدث عند صنع منديل من قماش. وبعد هذا يؤتى بقضيب من الخشب الخفيف, أو القصب, ويفضل هذا الأخير, يثبِّت بمادة لاصقة أو بورق رفيع لاصق على لوح الورق من الزاوية إلى الزاوية المقابلة لها. وهذا القضيب يكون عادة العمود الفقري للطائرة. وهو انطلاقاً من تركيبته يجعل للوح الورق شكل المعين الواقف على زاوية واحدة هي إحدى الزاويتين اللتين ينتهي إليهما القضيب. وهنا يؤتى بقضيب أكثر مرونة من الأول وأطول منه بعض الشيء, ليلصق طرفاه بالزاويتين المتقابلتين الأخريين, لكنه يلصق بمجمله بشكل يجعله منحنياً إلى الأعلى. وإذ يتخذ القضيب المنحني مكانه، يلصق بدوره على مسطح الورق بمادة لاصقة. ثم يربط بشكل محكم عند نقطة تقاطعه مع القضيب الأول. وبعد هذا يمكن تثقيل الطرف السفلي من القضيب المستقيم بشكل يمكنه حين الطيران من أن يُبقي تلك الزاوية إلى الأسفل لتأمين الانحناء العام للطائرة المحلقة. وفي المقابل يمكن للمرء أن يدرك بسرعة أن ثقل طرفي القضيب المنحني يجب أن يكون هو نفسه لأن أي تفاوت في الوزن بين الطرفين سيحدث اختلالاً عاماً يمنع «الآلة من الطيران».

وبعد الانتهاء من تصنيع هذه الطائرة كما وصفنا, يصار إلى لصق شريط من الورق عرضه يتراوح ما بين 10 و12 سم, وهذا الشريط المزدوج يمكنه أن يعطي حركة طيران الطائرة مزيداً من الاستقرار. وأخيراً, يصار إلى لصق الذيل, وهو عبارة عن أفعى ورقية يبلغ طولها نحو متر أو أكثر قليلاً, تصنع من قطع من الورق تلصق فوق بعضها البعض. وفي النهاية بعد إنجاز هذا كله, تُربط الزاوية العليا للطائرة بخيط قد يصل طوله في بعض الأحيان إلى مئات الأمتار, لكنه عادة يتراوح ما بين 40 و 50 متراً, يربط طرفه الآخر بقطعة من الخشب, يلف الخيط عليها أول الأمر, ثم حين تُوضع الطائرة في مواجهة الريح وتُشد لكي تطير, يبدأ اللاعب بإدارة الخشبة والخيط بحيث يعطي الطائرة من طول الخيط قدر ما تحتاج حتى تطير.

تقنيات في متناول اليد
غير أن الأمر, حتى هنا, ليس بهذه السهولة أيضاً. ذلك أن الخيط نفسه يكون عادة مؤلفاً من قسمين, ثبِّت أولهما على طرفي القضيب الأول, الأفقي, شرط أن يكون طوله مساوياً تقريباً لضعفي طول كل ضلع من أضلاع المربع. وهنا يجب أن يُربط الخيط بالورق لا بالخشب؛ لكي يستحوذ على مرونة أكبر تجاه حركة الريح. أما القسم الآخر من الخيط, فهو الذي يستخدم من أجل إطلاق الطائرة. وكما أشرنا, ليس ثمة حدود واضحة لطول هذا الشريط, إذ إن ما يتحكم به عادة هو حركة الريح, ومهارة صناعة الطائرة نفسها, ناهيك بعناد الشخص الذي يمارس تطيير الطائرة ومهارته هو الآخر.. ومن ضمن مهاراته, تلك التي تظهر لحظة إطلاق الطائرة, ولا سيما حين تكون الريح خفيفة, إذ هنا يتعين عليه أن يرفع جسم الطائرة بيده ممسكاً الخيط باليد الأخرى ثم يركض ويركض حتى تخلق حركة ركضه الدينامية المطلوبة أما إذا كانت الريح قوية فيجب إطالة الخيط الممدود أول الأمر إلى أقصى الحدود الممكنة.

وكما يمكن للقارىء أن يفهم, يعتبر هذا النموذج الذي نصفه هنا, أبسط النماذج وأكثرها بدائية. وقد يبدو غير منطقي للمتمرسين في هذا الفن الممتع.

أما النموذج الثاني, والذي يبدي مرونة واستقراراً أكبر, بل يمكن إيصاله إلى ذرى أكثر ارتفاعاً. فهو ذاك الذي يعتبر اليوم الأكثر رواجاً.. خاصة أن في إمكانه أن يصطحب معه في ارتفاعه طائرات أصغر منه, بل يمكنه كذلك أن يستخدم استخدامات تجريبية، حتى العلمية منها.

وهذا النوع المتطور الذي نتحدث عنه هنا هو السداسي, أي له ستة أضلاع بدلاً من أربعة, ويصنع هيكله الضابط من ثلاثة قضبان قاسية تربط فيما بينهما من منتصفها, ثم يُربط خيط يصل بين الأطراف الستة, على أن يكون الفارق بين طرف القضيب والطرف التالي له, مساوياً لنصف طول كل قضيب. وهذا الهيكل السداسي الذي يتخذ في نهاية الأمر شكل مظلة, يوضع فوق لوح من الورق القوي (ورق الكرافت مثلاً), ويُقص لوح الورق حول الأضلاع الستة على أن يُترك هامش عرضه عشرة سنتيمترات, لكي يطوى على الخيطان ويلصق. وبعد هذا يثبَّت الذيل عند أية زاويتين يتم اختيارهما متجاورتين, بحيث تشكل هاتان الزاويتان والضلع القائم بينهما قاعدة الطائرة. ويجب ألاّ يقل طول هذا الذيل عن خمسة أو ستة أمتار وهو يصنع من شرائط وقصاصات ورق طويت على شكل فراشات. أما خيط التثبيت فيقسم إلى ثلاثة خيوط متساوية يُثبَّت اثنان منها على الزاويتين الأعلى في السداسي مقابل الزاويتين اللتين ألصق الذيل بهما. أما القسم الثالث فيثبت في الوسط عند النقطة التي تجتمع فيها القضبان الثلاثة. أما الخيوط الثلاثة المتساوية, والتي ألصق طرف كل واحد منها عند زاوية وفي الوسط, ويتعين أن يكون طول كل واحد منها مساوياً لطول كل ضلع من أضلع السداسي, فإنها تجمع معاً في النهاية لتربط بالخيط الأساس الذي سيستخدم لإطلاق الطائرة والإمساك بها. وهنا لا بد أن نلاحظ أن الضبط المركزي لطيران الطائرة يتم عن طريق تطويل أو تقصير الخيط الثالث المربوط بنقطة المركز. فإذا طوّل, ستكون النتيجة أن الطائرة ستطير بتكوين مسطح حين تكون الريح قوية, أمّا إذا قصّر فإن أداء الطائرة يكون أفضل حين تكون الريح خفيفة.

بين الغزال والحدأة والحُنْظُب
اللعبة التي نطلق عليها اسماً مباشراً, يبدو في نهاية الأمر رسمياً, هو «طائرة الورق», لها اسم آخر في مجامع اللغة العربية، غير أن أحداً لم يستخدمه, حسب علمنا, حتى الآن. والحقيقة أن معرفة الاسم «الرسمي» الحقيقي لطائرة الورق تكفي في حد ذاتها لفهم السبب الذي يحول بين الناس وبين استخدامه. الاسم هو «الحنظب» والجمع «حناظب»..هكذا، بكل بساطة! والحقيقة أن المرء لا يمكنه إلا أن تأخذه الدهشة أمام التفكير الذي حلّ على من اقترح الاسم وأقنع رفاقه من أهل اللغة في المجامع به. كيف خيّل إليه أن طفلاً أو فتى في الرابعة عشرة يمكنه أن يقول لرفاقه: «هيا بنا نطلق حناظبنا لتطير في الهواء».

في الفرنسية ولسبب لا يبدو لنا واضحاً يطلقون على طائرة الورق, بدورهم, اسماً لا مبرر له على الإطلاق: إنها عندهم Cerf-Volant, وترجمتها العربية «الأيل الطائر» والأيل هو نوع من أنواع الغزلان, وربما يكون الأكثر رشاقة وخفة حركة بين أبناء نوعه. ولذا, لأن الطائرة الورق يجب أن تتميز بالخفة والرشاقة, بدا من الطبيعي للفرنسيين أن يشبهوها, إذ وصلتهم من أقاصي آسيا ليصبحوا بسرعة من هواتها ومن أكثر المتفننين في تزيينها, أن يشبّهوها بالغزال.

أما جيرانهم الإنجليز والأمريكيون من بعدهم, فيسمون طائرة الورق «كايت» Kite. وكلمة Kite هي في الأصل اسم لطائر مشهور في بلاد الإنجليز, يسمى عند العرب بـ «الحدأة». وربما يعود استخدام اسمه اسماً لطائرة الورق, إلى أنه طائر ربيعي يحلق في الهواء في مكانه تقريباً, ما جعل أول الإنجليز الذين استخدموا طائرة الورق التي وصلتهم هم أيضاً من أقاصي آسيا, يقتبسون اسمه حين رأوه يحلق بين الطائرات عندما تطيّر في أيام الربيع الصحو.

أضف تعليق

التعليقات