للوهلة الأولى، تطالعك لوحات هيلين دين وكأنك تطل من نافذة الطائرة على سهول زراعية شاسعة ومتنوِّعة، تتخللها بحيرات زرقاء بين الحين والآخر. وتشعر شعور اليقين أن الخيال الذي شكَّلها ينتمي إلى بلاد يغلب عليها هذا المشهد الصباحي النضر، والذي يحمل إليك فيضاً من الهواء النقي. فتقول إيرلندا أو كندا، وإذ بها نيوزلندا التي ربما تكون أشد اخضراراً وتلوّناً من الاثنين.
هيلين دين فنانة تجريدية نيوزلندية من أصل إنجليزي تقيم في منطقة أوكلاند الغربية. تُراوح أعمالها بين لوحات كبيرة غنية بالألوان النقية والرسوم الصغيرة على الورق، مستخدمة في الحالتين ألوان الإكليريك. وهي تسبح في ما يشبه الفضاء الحر، فتبدو لوحاتها بلا حدود، وكأنها أحياناً قصاصات من لوحات أكبر. وهذا ما يعزِّز الشبه بالسهول الزراعية الممتدة بلا انقطاع في هذه الجزيرة الخضراء على حافة الكرة الأرضية، تفصل بين بقاعها تنويعات يفرضها تنوُّع المحاصيل وفق الفصول المختلفة.
تبدأ دين تشكيل لوحتها بتلقائية انطلاقاً من خطوط عفوية. ومن ثم تروح تلوّن لتخلق طبقة إثر طبقة، تاركة المجال لصدف مفاجئة وسعيدة. وهي تقرُّ بأنها تتأثر بالأشكال والتنويعات اللونية في محيطها، بما في ذلك أنواع الأشجار والفواكه والصخور وغيرها. وتقول إنها حين زارت إنجلترا بعد سنين من مغادرتها وبدء ممارسة فن الرسم، تساءلت كيف سينعكس المشهد الإنجليزي المختلف تماماً عن المشهد النيوزلندي على أعمالها.
تبدأ هيلين دين تشكيل لوحتها بتلقائية انطلاقاً من خطوط عفوية. ومن ثم تروح تلوّن لتخلق طبقة إثر طبقة، تاركة المجال لصُدف مفاجئة وسعيدة.
بين تدريس المهاجرين والرسم
كانت هيلين دين قد درست الفنون في إنجلترا، إلَّا أنها لم تمارسها إلَّا لفترة بسيطة. إذ قرَّرت التفرغ لتعليم أطفال المهاجرين، حين نقلها عملها هذا إلى نيوزيلندا. وهي مستمرة في مهنتها التي لا تزال تأخذ إلى جانب اهتمامها ببيتها وابنتها الجزء الأكبر من وقتها. إلا أنها منذ بضعة سنوات، عادت إلى التركيز على الرسم أكثر من أي وقت مضى. فراحت تعمل من دون توقف، وتبدع أسلوباً مميَّزاً لفت أنظار المقتنين الصغار أولاً، ثم أخذت دائرة الذين يتابعونها والمشترين تتسع من نيوزيلندا إلى مختلف أنحـاء العالم. وبدأ الرسم يحتل حيِّزاً متنامياً من حياتها.
وعلى الرغـم من الشــوط الكبيـر الذي قطعته في فن الرسم، فإنها لا تزال متمسكة بعملها في تعليم الإنجليزية لأبناء المهاجرين. فحين سألناها إذا كانت أمام بوادر هذا النجاح تتمنَّى أن تتفرَّغ كلياً للرسم وتترك التعليم، قالت إن هذا بالطبع حلم كل فنان، إلا أنها من ناحية أخرى تشعر بأن بقاءها في مهنة التعليم يبقيها على صلة بالحياة والمجتمع، وأن العلاقة مع أبناء المهاجرين تشكِّل بالنسبة لها مصدر اكتفاء روحي ونفسي يثري مشاعرها.
هيلين دين في سطور
من مواليد إنجلترا 1972م. حصلت على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة سندرلاند عام 1995م، لكنها لم تمتهن الرسم طوال عقدين من الزمن أمضتهما في السفر وتعليم الإنجليزية في فرنسا وإسبانيا والأندلس ثم انتقلت إلى نيوزيلندا عام 2003م للعمل في تدريس المهاجرين. في 2015م عادت إلى التركيز على الرسم بعد أن خرجت من وسط المدينة إلى “وسط الأشجار” في ضاحية واتاكير بأوكلاند. شاركت في كثير من المعارض الفنية المحلية في أنحاء نيوزيلندا إلى معارض جماعية معدودة في دول مختلفة في كل من: باريس، مايو 2016م، وبودابست في يوليو 2016م ودبي في سبتمبر 2016م، وتعد الآن لمعرضها الفني الأول.
رحلتها مع اللون
من التجارب إلى الاستقرار
عندما طرحنا عليها السؤال عن رحلتها مع الألوان التي تطبع أعمالها بهذا الطابع الخاص، قالت هيلين دين إنها كانت تنشد في الأساس ألوان الباستيل النقية الصافية التي تشبه ألوان “الأيسكريم”. ولكن هذه الألوان وحدها تَظهر “أجمل مما يجب” من وجهة نظر فنية. ومن ثم بدأت باللجوء إلى ألوان ترابية أشد دفئاً والتصاقاً بالأرض. ومن هنا دخلت توليفتها اللونية في مناخات جديدة، وصلت إلى حد التخلي عن ألوان كانت تتكرّر عندها باستمرار كاللون الزهري.
وعن كثرة حضور اللون الأبيض في أعمالها وغياب الأسود، تقول إن المساحات البيضاء تعود أساساً إلى أيام التجارب في معهد الفنون، حين كانت ترسم على أوراق بيضاء صغيرة. وكان الأبيض الظاهر هو من الورقة نفسها. ولكنها بتطوّر تجاربها، صارت تشعر أن هذه المساحات تشكِّل مساحات تتنفس منها اللوحات. وقد شبّه البعض هذه المساحات بكونها أكسجيناً.
أما الأسود فقد نفت استخدامه. فهي تلجأ بدلاً عن ذلك إلى ألوان داكنة كالأزرق القاتم. وهي تستمتع بهذا التردُّد بين المناطق الداكنة والأخرى الفاتحة، بين زرقة الحبر العميق والأخضر الفيروزي. فعبر هذا البحث في الألوان تبدأ الأشكال في الظهور والتكوّن، ويتحقَّق عبر هذا الانتقال التوازن بين المساحتين: المساحة الداكنة والأخرى الفاتحة، فتبدوان وكأنهما في مستويين أو مسطحين في مساحة تفصل بينهما الظلال.
تفضيلها لتقنية الأكليريك
والتجريد التعبيري
وحين سألناها عن تفضيلها لألوان الأكليريك على الألوان الزيتية، أجابت بأن السبب الأساس في ذلك أن الأولى عملية أكثر من الزيت. وتضيف: “إن ألوان الأكليريك تبدو جميلة حين تكون طرية، وتفقد بعض نضارتها حين تجف، وذلك بعكس الألوان الزيتية. لكنها في النهاية تبقى جميلة، وهي ربما ملائمة أكثر لنمط رسمي، ولسهولة عبور اللوحة إلى خاتمتها.. أشعر أنني قادرة على التحكّم بها بشكل أفضل”.
ومن التقنية ينتقل الحديث مع دين إلى أسلوبها في الرسم، فتقول: “أحياناً، أبدو وكأني اتنقّل بين أشكال منضبطة أو ثابتة تتكرَّر في أعمالي. فعندما أشرع في رسم لوحة، أبدأ من دون أن تكون عندي أية فكرة عمّا سيحدث وماذا ستنتهي إليه اللوحة. بعض الخطوط البسيطة أولاً.. وثم تبدأ الفرشاة تتنقل، مشكّلة في البداية أشكالاً خافتة أو رقيقة، تتكاثف عبر المحاولات التلقائية. وبهذا، تمر اللوحة بمراحل متتالية، فتجدني أحياناً أجبر نفسي على أن أتوقَّف وأعود خطوات إلى الوراء كي أرى ماذا تحقَّق. فأعدّل أو أضيف، أو ربما أبني لوحة مختلفة تماماً فوق الأولى وعلى أنقاضها.
وتصف الفنانة أسلوبها بأنه أقرب ما يكون إلى التجريد التعبيري. وتقول: “إني أتبع منهج هذه المدرسة في الاهتمام بكيفية الرسم وبالتجريب بالألوان. فأنا أرسم بشكل إلهامي، بدءاً بخطوط أولى تلقائية ترسم خط سير أو خارطة طريق للعمل. فلطالما جذبتني أعمال الفنَّانين الذين يعتمدون خطوطاً أو علامات كأنها ملامح أولى مع ضربات فرشة حرة، أمثال ماري أبوت وجريس هارتجن وهيلين فرانكنثالر وتعبيريين آخرين من تلك الحقبة. فخلال أسفاري، أزور متاحف الفن المعاصر، وأجد متعة خاصة في النظر عن قرب إلى أعمال فنَّاني المدرسة التعبيرية، والتأمل في استخدامهم الفرشاة في لوحاتهم، فتثيرني هذه اللحظات”.
سبب تأخرها في التركيز على الرسم
وعَرَضاً، كشفت هيلين دين عن سبب ابتعادها عن الرسم في فترة سابقة، وهو أمر يبدو محيّراً بالنسبة لمن يلحظ استقرار شخصيتها الفنية ونضجها. فعندما سألناها عما بقي من انطباعات أو ملكات لديها من الفترة الجامعية تقول إن أجمل ما في تلك الفترة كان وجود متسع من الوقت للإبداع والتفكير. فهناك دائماً أناس حولك، والكل يعمل ويرسم ويناقش. وتضيف: “اخترت وقتها التوجه التجريدي، واعتز بذلك، رغم أنه كانت على الطلاب ضغوط لاختيار ما يفضّله الأساتذة. وفِي لحظة ما شعرت أني أكاد أفقد ثقتي بنفسي وبقدرتي على التقييم أو الحكم. وربما هذا ما جعلني أبتعد عن الرسم لفترة طويلة وأعود إليه متأخرة. أما الآن وقد نضجت، فلم أعد أكترث لموقع أسلوبي بين كل الفنون أو ما يطلبه سوق الفن. ففي العالم مدارس ودروب في الفن لا تعدّ ولا تحصى، وعلى المرء أن يخلق مساحته الخاصة به بنفسه”.
التعبيرية التجريدية
مذهب في الرسم يقوم على نظرية تقول إن الألوان والخطوط والأشكال، إذا ما استخدمت بحرية في تركيب غير رسمي، تصبح أقدر على التعبير وإبهاج البصر.
وتنقسم التعبيرية التجريدية إلى قسمين أساسيين هما:
• الرسم الحركي: يتبع هذا الأسلوب في الرسم الفنان جاكسون بولوك، ويركز فيه على إظهار ملمس اللوحة وضربات الفرشاة عليها.
• رسم المساحات اللونية: يعبر الفنان في هذا النوع عن حالة نفسيـة خاصـة من خلال المساحــات اللونية والشكليـة أمثال مارك روثكو.
اترك تعليقاً