مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2018

حديقة الأورمان خبيئة القاهرة الخضراء


شيماء عزيز

لا يخطر ببال الزائر للعاصمة المصرية حالياً، أن بها مساحات للحدائق أو لساحات خضراء.. فالمدينة تزدحم بالمباني والشوارع والبشر.. لا مكان لأرصفة للمشاة، أو حارات للدرَّاجات.. لا مكان للبطء، للتأمل، للتأني ولكنها القاهرة، المليئة بالمفاجآت.. نعم، هناك حدائق في القاهرة ذات مساحات متنوِّعة ومجموعة نباتات وأشجار نادرة. أشهرها وأقدمها في العصر الحالي هي “حديقة اﻷورمان النباتية”.

“الأورمان” كلمة تركية تعني “الأحراش”. فقد أنشأ هذه الحديقة الخديوي إسماعيل في العام 1875م، متأثراً بما كان قد شاهده في باريس خلال المعرض العالمي الذي أقامه نابليون الثالث عام 1867م. ومن بينها كانت هناك حديقة الأزبكية في وسط المدينة. أما حديقة الأورمان فكانت جزءاً من حدائق الجيزة التي أنشأها الخديوي على مساحة 200 فدان لكي تمد القصر بثمار أشجار استجلبها من جزيرة صقلية، وقد احتوت على نحو 10,000 شجرة، وسُميّت “حدائق الليمون”، وقد صممها مهندس الحدائق البلجيكي غوستاف ديلشيفاليري بمساعدة كبير البستانيين المصريين آنذاك إبراهيم حمودة. وفي عام 1919م انقسمت وتحوّلت إلى حديقتي “الحيوان” و”الأورمان” في عهد الخديوي توفيق، حيث حوَّلت وزارة الزراعة المصرية قسم من حدائق الليمون إلى “حديقة الأورمان النباتية” بعد أن قسّمت مساحة حدائق سراي الجيزة ما بين حديقة الحيوان وجامعة القاهرة وشوارعها ومديرية أمن الجيزة، لتتقلَّص مساحة حديقة الأورمان إلى 28 فداناً.

تتكوَّن الحديقة من عدة نطاقات، منها حديقة الصبارات الصخرية، وحديقة الورد الجوري، ومعشبة الملك فاروق التي تحتوي على أعشاب بريَّة وطبية، ومركز لتبادل البذور، وبحيرة مائية تعيش فيها زهرة اللوتس، تعلوها ثلاثة جسور خشبية قديمة.

كان المعرض العالمي الذي ابتكره نابليون الثالث وسط إعادة تخطيط مدينة باريس مصدر إلهام لكثيرين من الطبقة البرجوازية الأوروبية والمصرية، حيث شاعت فكرة إنشاء حدائق كجزء أصيل من تصميم المدن لتضيف إليها جمالاً وخضاراً. فشاع الاهتمام آنذاك بالزراعة البستانية واستجلاب زهور ونباتات استوائية وإنشاء البيئة المناسبة لنجاحها في ظروف مناخية مختلفة.
لم يكن الخديوي إسماعيل أول المهتمين في العائلة الخديوية بجلب النباتات الجديدة إلى أرض مصر. فقد سبقه جده محمد علي باشا بشغفه الزراعي. ولكن الخديوي إسماعيل هو من أدخل الأسلوب الأوروبي في زراعة البساتين. وخاصة الأسلوب الفرنسي، بعدما أقام في العاصمة الفرنسية لبضعة أشهر.

حدائق مختلفة في حديقة جامعة
تتكوَّن الحديقة من عدة نطاقات، منها حديقة الصبارات الصخرية ومساحتها 1.5 فدان وتضم مئتي نوع من الصبارات والنباتات العصارية التي تنتمي إلى إحدى عشرة فصيلة، وحديقة الورد الجوري ومساحتها فدانان، ومعشبة الملك فاروق التي تحتوي على أعشاب برية وطبية، ومركز لتبادل البذور، وبحيرة مائية تعيش فيها زهرة اللوتس، تعلوها ثلاثة جسور خشبية قديمة تمكّن الزائر من أن يشاهد من الأعلى جَمَال وصلابة تلك الزهرة المدارية.
وعلى الرغم من تقلص مساحة الحديقة إلَّا أنها تبقى مكاناً لنزهة ممتعة بعيداً عن صخب العاصمة. ففي هذه الحديقة أنواع شتى من الأشجار وممرات أشهرها “طريق النخل الملوكي”، وهو ممشى حجري تحيطه النخلات العاليات من الجانبين. وفي ساحة أشجار الصنوبر العالية بأنواعها المختلفة والمتكتلة في بقعة واحدة، ينظر الزائر إليها عالياً فتأخذه معها في رحلة إلى مكان آخر. ففي مصر كلها لا توجد صنوبريات إلا في هذه البقعة من الحديقة. أما “البامبوسا” الآسيوية فتحتل مساحة صغيرة لا تتجاوز بضعة أمتار إلى جانب بحيرة اللوتس، عتيقة وممشوقة وجميلة، يحتمي فيها الأصدقاء ويتركون عليها كتاباتهم كتذكـار لذلك اليوم الذي كانوا فيه بجانبها.

مجموعتها الفريدة من النباتات
تُعد الأورمان أكثر الحدائق النباتية تنوعاً وثراءً. فهي تحتـوي على 835 نوعاً من 115 فصيلــة، و434 جنساً من نباتات البــذور. أما أكثر الفصائل النباتية تنوّعاً في الحديقة فهي فصائل الصباريات التي يوجد منها 74 نوعاً، يليها 68 نوعـاً من البقوليـات، و55 نوعـاً من الأغافات، و54 نوعاً من النخليــات، و41 نوعـاً من الفربيونيات، و37 نوعاً من التوتيات، و20 نوعاً من البغنونيات.
أما الأشجار فيوجد منها 250 نوعاً تنتمي إلى 45 فصيلاً، ومن بينها أشجار الطقس البارد مثل صنوبر الكناري، والسيكويا دائمة الخضرة، والسيفالوتكساسيات. وأيضاً هناك عديد من أنواع الأشجار الاستوائية مثل أشجار الساج الكبير والسباثوديا والكايا والتابيبويا والبيكسا والايوكليا والأنتيديسما.

إنها حديقة خاصة تأخذك في رحلة خارج الزمان والمكان، لتتعرَّف على عوالم أخرى وتتواصل معها، عوالم مملكة النباتات الأخَّاذة.

تتنوَّع استخدامات الأشجار والاستفادة منها بتنوِّع أنواعها. فعلى سبيل المثال، تستخرج من أشجار الألياف مثل شجرة القابوق الألياف التي تستخدم في حماية الأجهزة من التكسير، ومن شجرة القطن الحريري الأحمر يستخرج القطن لحشو الوسائد، والألياف لصناعة الحِبال. أما أشجار الزيوت مثل شجرة “جتروفا كوركاس” أو “شجرة البتروليوم” فتستخرج من بذورها زيوت لصناعة الصابون، وتدخل بذور شجرة الباوباب في صناعة الدهون والشمع. ومن الأشجار الطبية مثل شجرة الفليفلة العنقودية تستخدم أوراقها وجذعها كتوابل، وتستخدم الصبغات المستخرجة من شجرة “البيكسا أوريللانا” كمواد طاردة للحشـرات. وفي تلويــن الزبد وبعض الأقمشة. أما مستخرجات الأوراق والجذور فتستخدم في أدوية علاج مرضي الصرع والديسنتاريا. وتحتوي الزيوت المستخرجة من شجرة القرفة الكافورية على مواد حيوية، مثل الكافور والتربينولين التي تستخدم كمواد مطهرة وفي صناعة المراهم. وتُعدّ شجرة “الجاك فروت” ذات استخدامات متعدِّدة، فخشبها يتميز بصلابته ولمعانه ومقاومته للحشرات، ويستخدم في بناء البيوت وصناعة الأثاث.

معرض زهور الربيع
حين تغزو الألوان الزاهية الحديقة
يغلب اللون الأخضر على حديقة الأورمان طوال العام، حيث يمكن للزائر أن يتنزه بهدوء فيها. ولكن حين يأتي فصل الربيع، ويقام فيها المعرض السنوي للزهور، تتبدَّل الحديقة وتتحوَّل إلى كرنفال من الألوان الزاهية المتعدِّدة. فتحضن تحت أشجارها العالية عديداً من مشاتل الزهور والنباتات المؤقتة، يبرز منها “مشتل مظهر” وهو إرث تركه لنا الفنان الشهير أحمد مظهر، ويتميَّز بعرض أشجار وزهور نادرة كما يتميَّز بمعشبته التي تحتوي على عديد من البذور من مختلف الفصائل، بحيث تُعدّ فعلاً متحفاً للبذور. ويشتمل المعرض أيضاً على محلات للخدمات الزراعية والأعشاب وبعض محلات الحيوانات والأسماك. فتجتمع فيه كل أشكال الطبيعة وألوانها في وقت واحد. ويجد فيها هواة الزراعة كل ما يحلمون به. ويستمر المعرض من شهر مارس إلى شهر مايو من كل عام، وتستضيف الحديقة في هذه الفترة أنواعاً عديدة من النباتات والزهور النادرة، إلى جانب أشجار فاكهة وخضراوات وأعشاب ونباتات عطرية تضيف إلى الحديقة ألواناً وروائح جديدة، يتمتع بها الزائرون من كل الطبقات والأعمار.

نبذة عن تاريخ الحدائق النباتية
المقصود بالحدائق النباتية فئة من الحدائق تكون الغاية من إنشائها إما إجراء البحوث العلمية على ما فيها من نباتات، أو اقتناء وعرض مجموعة من النباتات الغريبة عن البيئة المحلية. ويعود إنشاء الحدائق النباتية كما نعرفها الآن إلى إيطاليا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد أنشأ لوكا غيني في جامعة بيزا أول حديقة نباتية في عام 1543م، وتلتها حديقة ثانية في بادوا عام 1545م، وثالثة في فلورنسا في العام نفسه، ومن ثم في بولونيـا في عام 1547م. وكانت تلك الحدائق بغرض البحث العلمي الخاص بالنباتات الطبية. وانتشرت بعد ذلك الحدائق النباتية في مدن أوروبية عديدة مثل كولونيا وبراغ. وأنشأت المملكة المتحدة أولى حدائقها النباتية في جامعة أوكسفورد عام 1621م، لأغراض تعليمية أيضاً.

بحيرة سيدة الزهور
تحتل زهرة اللوتس الزرقاء مكانة خاصة في الوجدان المصري على وجه الخصوص. فقد كانت زهرة اللوتس رمزاً مهماً في الحضارة المصرية القديمة. استخدمها قدماء المصريين في عدة أشياء، منها صناعة العطور، وكطعام مخلوط بالخبز. كما كان وجودها في غاية الأهمية في الطقوس الاحتفالية والجنائزية على حد سواء. فقد عرفوا أهميتها واحتلت مكانة كبيرة في الديانة المصرية القديمة. فقليلاً ما تجد جـدار معبــد أو مقبرة لا تحتل فيه اللوتس مساحات كبيرة في التصوير والزخرفة. كما أنها كانت رمزاً للجيش المصري. وفي البحيرة التي تقع في منتصف الحديقة تقريباً، تجدها واقفة شامخة معلنة عن وجودها بعزة. عطرها يفوح في نسيم الهواء. ويوجـد في البحيرة نوعان من اللوتس. اللوتس الزرقاء التي ملأت أشكال الفن المصري القديم واللوتس الوردية والبيضاء الطويلة التي جاءت إلى مصر بعدها.
وفي الثقافات الآسيوية تحتل زهرة اللوتس مكانة كبيرة في مجال الطب الآسيوي، حيث يشربونها كشاي مهدئ، وتستخدم جذورها وأوراقها في الطبخ والتداوي من عدة أمراض منها أمراض الجهاز التنفسي والهضمي، وتحتوي الزهرة بكل مكوناتها من ساق وأوراق وجذور على فوائد جمة للجسم الإنساني، فهي تحتوي على فيتامينات ومعادن كثيرة مثل فيتامين ج ومعادن الحديد والفسفور والنحاس وعناصر مضادة للأكسدة.
ولا يمكننا ذكر اللوتس من دون ذكر نبات البردي، الذي كان رمزاً للمملكة الشمالية قبل توحيد المملكة المصرية القديمة. ويرجع اكتشاف أول بردية إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد في منطقة وادي الجرف التي كانت ميناءً مصرياً قديماً على شاطئ البحر الأحمر. وعلى ضفاف البحيرة ينتصب نبات البردي مظللاً سطح البحيرة وزهورها. ومعلوم أن البردي ينتشر على ضفاف نهر النيل، خاصة في الدلتا، وقد استخدمه قدماء المصريين في صناعات كثيرة أشهرها الورق، ولكنه استخدم أيضاً في صناعة الحِبال والمراكب الصغيرة والصنادل والسلال وستائر الشبابيك وكدواء لأمراض الحلق عن طريق ارتدائه حول الرقبة كحلية. كما تنفرد الأورمان عن بقية الحدائق المصرية بوجود زهرة الخلّبة فيها.
إنها حقاً حديقــة خاصــة تأخــذك في رحلــة خارج الزمــان والمكان، لتتعرف إلى عوالم أخرى وتتواصل معها، عوالم مملكة النباتات الأخَّاذة.

 


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “حديقة الأورمان”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *