مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2018

عنوان وموضوع..
قافلة للذهن بأسمى معانيه
بقلم الأستاذ عبّاس محمود العقَّاد


في عددها الصادر لشهر شوال 1375هـ “يونيو 1956م”، نشرت القافلة مقالة للأستاذ عباس محمود العقّاد جرياً على عادتها في استضافة كبار الكُتَّاب العرب، قدَّم له المحرر بقوله:

جرياّ على عادة “قافلة الزيت” في جعل صفحاتها ندوة أدبيّة يتعرّف فيها قراؤها الكرام بكبار الشعراء والأدباء والكتّاب والمفكّرين، من أمثال حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل شاعر المملكة الأول وفخر شبابها، ومعالي الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، وسعادة الأستاذ عبدالرحمن عزّام الأمين العام السابق للجامعة العربيّة، نوالي اتصالاتنا بالنخبة من فلاسفة وأساتذة وروّاد الجيل في مختلف الميادين، لمدّنا بالزاد الفكري الدسم والغذاء العقلي والآراء والأفكار الناضجة النيّرة، فنقدِّم في هذا العدد الأديب الكبير الغني عن التعريف الأستاذ عبّاس محمود العقَّاد، الذي نشك في أن أحداً من أبناء الضاد لم يطالع له كتاباً أو مقالاً أو بحثاً من مؤلفاته التي يصعب عدها أو حصرها.

لمّا تلقيت الاقتراح بكتابة مقال أدبي لقافلة الزيت خطر لي أنْ أستوحي موضو المقال من اسم المجلة نفسه، لأنه اسم يكشف لنا عن بعض أسرار اللغة العربيّة ويرد عن لغة الضاد نقداً شديداً يوجِّهه إليها المنكرون والمعترضون في مسألة الأضداد. فمن الأمور التي تعاب على اللغات أن يلتبس معنى الكلمة فيطلق على الشيء وما يخالفه ولا يدري السامع ماذا يُراد به على التحقيق، وأشد من ذلك عند نقَّاد اللغات أن يطلق اللفظ الواحد على الضدّين النّقيضين فيدل على الأبيض كما يدل على الأسود، ويدل على الصحيح كما يدل على السقيم، وهذا هو المقصود بكلمـات الأضداد في اللغة العربيّة، وهي معدومة أو قليلة في اللغات الأخرى.
القافلة مأخوذة من القفول أي العودة والرجعة، ويسمى الركب المسافر قافلة من باب التفاؤل له بالسلامة والإياب. ومن هنا تتبيّن لنا عادة من عادات الذهن العربي في إطلاق الأسماء على المعاني والأشياء. فهي تطلق أحياناً للتفاؤل أو لدفع التشاؤم وهذا الذي يلاحظ مثلاً في كلمة السليم بمعنى الصحيح المبرّأ من العلل، وكلمة السليم بمعنى الّلديغ أو المصاب، فالقائل والسامع لا يجهلان معنى السلامة حين يستخدمان كلمة السليم للدلالة على المصاب بلدغة العقرب أو غيرها من الحشرات السامّة ولكنهما يعرفان المعنى تمام المعرفة ويطلقانـه عن قصد وعمد كأنهما يدعوان لذلك المصاب بالسلامة والشفاء.
كنّا مرة نتجِّــه إلى طريــق النيــل فسألنـا ثلاثة أو أربعة من المارّة مقبلين معاً من تلك الجهة: هل القنطرة مفتوحة؟
فأجابنا أحدهم “نعم” وأجابنـا الآخر “لا”… وعجبنا من هذا التناقد في أمر ظاهـر كفتح القنطرة، وهي أكبر من أن تلتبس على الناظر بين الفتح والإقفال. ولكننا أدركنا على الأثر أن الجوابين مصيبان، وغاية ما هنالك أن أحدهما قصد الفتح بمعنى فتح الطريق لمسير المارّة على البرّ، والآخــر قصـد الفتح بمعنى فتح الطريق لمسير السفن في المــاء، وما يكون مفتوحاً لأحد الفريقين يكون مقفلاً أمام الفريق الآخر بطبيعة الحال.
وهكذا يصح المعنى في كثير من كلمات الأضداد باللغــة العربيّــة لأنها تُفهـم من وجهتيـن حسب النظر إليها.
فيقال إن الريّان “ناهل” ويقال كذلك إن الظمآن “ناهل” على حسب الاختلاف في الورود أو الصدور من منهل الماء.
وهكذا يبدو لنا أن الكلمة العربيّـة تتسع لوجهات النظر المختلفة فتحسب من الحسنــات ولا تحسب من العيوب.
أمّا الزيت فهو كلمة من الكلمات الكثيرة تطلق على هذه المادة وأشباهها، ويكاد الدارس للغة العربيّة أن يتخيّل أنها من وضع الكيميائيين الذين يركِّبون الخصائص والعناصر حين يركِّبون الحروف والألفاظ.
ففي اللغة العربيّة كلمة الزيت والدهن والودك والشحم والسمن والدسم والوضر والجميل، وهي صالحة لتنويع الدلالة على مسمّياتها حسب اختلاف المواد واختلاف الأجزاء من نباتية أو حيوانيّة.
واللغة العربيّة لها خاصة حسنة في هذا الموضوع تساعد على دراسة التطور في معاني الألفاظ من الأمور الحسيّة إلى الأمور المعنويّة والفكريّة، ويندر في اللغات أن تتيسّر هذه الدّراسة وأن يتضح للباحث تطوُّر المعنى كما أطلق على الأشياء المحسوسة بداءة كما يطلق على المعاني المجرَّدة التي انتقلت من الحس إلى الذهن أو الخيال.
فالذهن والدهن مثلاً من مادة واحدة، ولنا أن نسمي الشحم ذهناً كما نسمي العقل ذهناً لأنه لباب الرأس وموضع “اللب” من الإنسان، وأنفع شيء للباحث في اللغات أن يقدر على تتبـع الأطـوار الحسيّــة والمعنويّة على هذا المثال، فإن تتبعها في سائر اللغات جد عسير.
وما دمنا بصدد الزيت والدهن والشحم وما إليها، فمن المفيد أن نذكر أن “الجميل” بمعنى الشحم المذاب، وأن الوجه الجميل وصف بهذا الوصف أولاً لأنه يلمع ويدل على الصحة والصفاء، وليس الغرض من إطلاق الجميل بهذا المعنى أنه مرادف للسُّمنة فإن العرب لم يحمدوها قط في كلام مأثور، وإنما الغرض منه كما أسلفنا علامات الصحّة والصّفاء.
وعلى هذا يصح أن تكون قافلة الزيت قافلة للذهن بأسمى معانيه، ومن آيـات ذلك أن كل كلمة من الكلمتين في هذا الاسم الواحد هي في الوقت نفسه عنوان وموضوع.


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “قافلة للذهن بأسمى معانيه”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *