ينبغي أن نقرر منذ البداية أننا لسنا الشعب الأكثر استهلاكاً في العالم، فالشعوب تستهلك بشكل متسارع مقدّراتها من المياه والغذاء والطاقة والوقود وسائر المنتجات الصناعية والتقنية، وكل ما يعضّد حياة البشر على هذه البسيطة. وقد لعبت ثورة الاتصالات وفتح الأسواق وهدم الحواجز الزمانية والمكانية الدور الأكبر في عولمة الاستهلاك وجعله ممارسة يومية لدى سائر الأمم.
قد يكون المواطن في أمريكا اللاتينية أكثر استهلاكاً لأخشاب الغابات، وقد يقابله المواطن الخليجي كمستهلك أكبر للوقود، لكننا نتساوى في توسيع ثقافة الاستهلاك وترسيخ هيمنتها. والفرق بيننا وبين تلك الأمم أنها حين تفرط في استخدام أحد مصادرها الطبيعية فإنها تمتلك عشرات المصادر البديلة، وهي قادرة في الوقت نفسه على استنبات وإحياء مصادرها التي تتعرَّض للاستهلاك الجائر بفعل أبحاثها العلمية المتقدِّمة، وقدرتها على تنفيذ مخرجات تلك الأبحاث على أرض الواقع.
أما نحن فإننا نواصل استهلاك مواردنا بكل ضراوة، من دون أن نمتلك الحلول الناجعة لاسترداد تلك الموارد أو إحيائها. وهنا تكمُن خطورة الاستهلاك بين عالمٍ يتقدَّم من دون أن يستنفد خزائنه، وعالم نامٍ يسابق الزمن لاستهلاك مخزوناته في باطن الأرض أو فوقها من دون أن يدرك المخاطر المستقبليـة الفادحة التي يمكن أن يُلحقها بأجياله القادمة.
إنها حرب إذن بين الهدر والتفريط، وبين صيانة مصادر ثرواتنا الأسرع اندثاراً، وإطالة عمرها الافتراضي.
اليوم ننتقل إلى عالم القيمة المضافة التي شرّعتها المملكة ضمن دول عربية أخرى، وهي قيمة تشكِّل ضغطاً اقتصاياً على كل منزل ومواطن لم يعتد على الضرائب في حياته، لكنها ربما تكون الهزّة التي تخرجنا من محدودية الدولة الريعية إلى دولة المؤسسات التي تتمتع بقسط وافر من الشفافية والمساءلة ومراقبة الإنتاج، وهي أيضاً ربما تكون اليد التي تنتشلنا من حالة الاستهلاك المزمنة إلى سويّة الصرف المبرمج القادر على تلبية احتياجاتنا الأساسية من دون إفراط في استنزاف ما تخبئه الأرض من موارد طبيعية.
سألتقط هنا بعض الأرقام لكي ندرك مدى خطورة استنزافنا لمصادرنا النادرة:
المملكة هي ثالث دولة استهلاكاً للمياه في العالم بعد الولايات المتحدة وكندا، ومواطنها يستهلك أكثر من 8000 كيلو واط من الطاقة، في حين لا يتجاوز المتوسط العالمي أكثر من 2700 كيلو واط، والمواطن السعودي يعاني من زيادة الوزن بنسبة %60 فيما لا تتجاوز الزيادة في العالم %27، وأمراض السكري تصل إلى %24 فيما لا تتجاوز النسبة في العالم أكثر من %9، ويستهلك قطاع المباني والنقل البري والصناعة مجتمعة نحو %90 من استهلاك الطاقة بالمملكة، كما أن %38 من إنتاج المملكة من المواد البترولية والغاز يستهلك محلياً…!
هذه أرقام سريعة تضعنا أمام مؤشرات خطرة، وهي كلها تتفق على أننا نعاني من هدر يتحوَّل إلى نزيف يهدّد بتآكل مواردنا الاقتصادية وتقليص أحلامنا التنموية.
هكذا يتوجب علينا مغادرة عصر الطفرة وما خلّفه من قيمٍ استهلاكية كسولة وترفيّة إلى حقبة تسود فيها قيم العمل والإنتاج، وتتراجع بعض العادات والتقاليد والسلوكيات التي تحوّلت إلى عبء على اقتصادنا وهويتنا الاجتماعية، وخالفت تعاليمنا الدينية التي حثَّت على عدم الإسراف والادخار وحفظ مقدّرات الإنسان من الزوال. ولعل حالة الهيكلة الاقتصادية الجديدة توصلنا إلى أنماط حياتية وثقافية وسلوكية تقلّص هامش خساراتنا.
ونظراً لأهمية هذه القضية وآثارها على اقتصادنا الكلي واقتصادياتنا المنزلية فقد خصصنا ورشة هذا العدد لمناقشة سُبُل العبور إلى ثقافة استهلاكية رشيدة آملين أن تجيب عن بعض أسئلة قارئنا الكريم.
اترك تعليقاً