بعد أن تتجول في حديقة منزلية مليئة بالزهور وتنتصب فيها ثلاث نخلات شامخات، يأخذك مدخل عند الزاوية القصية خلف المنزل إلى مرسم التشكيلية البحرينية ميّاسة سلطان السويدي، الواقع وسط فيلتها الخاصة، والمنعزل عنها بمدخل خاص. وبعد أن تصعد الدرج، تصل إلى غرفة تمتد على طول الجناح الشرقي للفيلا. وبمجرد الدخول، يأخذك جمال المكان إلى عالم آخر.
في الجهة اليسرى من هذا المحترف مدرّج من الألوان يشبه ما تراه في متاجر بيع الأدوات الفنية أو المكتبات، وعلى رفوفه قوارير ملوّنة بأحجام مختلفة وأكواب كثيرة فيها فرشايات الرسم على شكل باقات. وبقربه طاولة مغطاة بأدوات الرسم، وعشرات اللوحات والرسوم، بعضها مصفوف فوق بعضه، وبعضها معلق على جدران المرسم وفق نظام مبتكر يسمح بتعليق اللوحات على مستويات متفاوتة حسب أحجامها المختلفة. وفي زاوية أخرى، موضع خاص لتخزين اللوحات التي تعمل عليها السويدي وتلك التي شارفت على الانتهاء منها.
استغلت السويدي موهبتها في فن الديكور بتوزيع الإضاءات بشكل هندسي مدروس على مساحة المرسم. حيث يدخل الضوء نهاراً من خلال القباب التي تطل على طاولة الرسم الأولى، ومن نافذة بحجم الطاولة. كما اهتمت السويدي بعمل إضاءات خاصة في المرسم لا تقل عن الإضاءة المستخدمة في المعارض الفنية المتخصصة، ويتضح ذلك بمجرد النظر إلى سقف المرسم.
وعلى الجدار تمتد مكتبة تحتوي على عدد كبير من الكتب الفنية المتخصصة والمجلات الثقافية، تصطف بينها بعض الشهادات والدروع التي حصلت عليها السويدي، وبقربها زاوية للقراء. وقد تلاحظ وجود نسخ عديدة من روايات تحمل عدداً من لوحات الفنانة على غلافها، وعدداً آخر من اللوحات بعضها معلق على الجدار، وأخرى إلى جانب المكتبة، مثلت عدداً من المراحل التي مرت بها الفنانة في مسيرتها.
فضاء خاص لا أقنعة فيه
تقول مياسة عن مرسمها: “أحب أن أسميه فضائي أو مكاني الخاص جداً. وهذا المكان غير مفتوح لأي زائر يدفعه الفضول فقط للدخول إلى عالم خاص جداً بالنسبة لي. لا يدخل مرسمي سوى مهتم بالفن أو شخص قريب من روحي.. هنا أمارس حريتي وأنطلق بسعادة في عالمي. هنا تختفي القيود والأقنعـة الحاضرة في العالم الخارجي”.
وتضيف: “كل منا قد يرتدي أقنعة، وهناك قيود في عالمنا الخارجي. وحين يكون المرء مع نفسه، تتلاشى تلك القيود والأقنعة وتبقى الحقيقة وحدها. لذا، قد ترى فناناً هادئاً جداً في حياته وطباعه، ولكنك تجد صخبه وجموحه واضحاً من خلال ضربات الفرشاة والألوان الحادة، هذا يعني أنه حينما يختلي بنفسه تتجلى الشخصية التي بداخله فلا يخفيها أي قناع أو تصنّع”.
وتقول: “كلما ابتعدت عن مرسمي لفترة طويلة، أشتاق إلى هدوء فضائي الخاص. قد يسمي البعض ذلك “عزلة”، لكني أسميها “خلوة مع الذات”، تلك التي يحتاجها المبدع ويستطيع من خلالها أن يُعيد حساباته، أو ينفصل عن العالم ويختلي بذاته، لترتاح من صخب الحياة. كل ما في مرسمي يساعدني على الاسترخاء والإبداع، الموسيقى التي أحب، وكتبي وأوراقي التي أبوح لها بأفكاري وكل ما يدور في خلدي. وقد أقضي بعض الأحيان أكثر من عشر ساعات هنا، خصوصاً قبل المعارض الفنية التي تطلب تسليم أعمال في وقت محدَّد. وقد أفارقه لأيام أو شهور. فأنا لا ألتزم بساعات عمل معيَّنة، رغم قناعتي بضرورة ممارسة الرسم بصفة مستمرة. إلا أن مشاغلي الخاصة ودراسة الدكتوراة أخذت من وقتي المخصَّص للرسم كثيراً، وأصبحت أبتعد عنه رغماً عني”.
وعن أقرب محتويات المرسم إلى قلب السويدي تقول بأنها تلك الصور “التي جمعتني بالفنانين في الورش والمعارض. فكلها ذكريات جميلة..كما أحب تلك الروايات التي اختارها الناشرون لتكون لوحاتي غلافاً لها. وما زلت أذكر فرحتي الأولى بأول غلاف على رواية عربية. والطريف أني لم أقرأ تلك الرواية أبداً. فكلما هممت بالقراءة توقفت عند الغلاف أتأمله بفرح ولا أتجاوزه”.
التشجيع أتى متأخراً
وحول بداياتها الفنية تقول السويدي: “كأي طفلة.. كنت أحب اللعب بالألوان. وحين بدأت الرسم بالإكريليك والزيت لم تخطر في بالي فكرة العرض، بل كان الرسم بالنسبة لي مساحة للتعبير عن مكنونات النفس، وتفريغاً لمشاعر كثيرة على صفحات بيضاء، وقضاء أوقات مع نفسي للبحث عن الذات”.
وحول التشجيع العائلي تقول إنها لم تلق التشجيع من داخل الأسرة في البداية، لأن تخصصها هو في حقل الرياضيات، كما أنه لم يسبق لأحد من العائلة أن احترف الفن حينها. ولكن بمرور الوقت، بدأوا يقتنعون بجدية الأمر. ولما حصلت على جائزة دولية، كان الأمر إعلاناً عن أن الفن لم يَعُد مجرد هواية لقضاء وقت الفراغ، وإنما شغف وحُب صادق. وحينها تغيَّر موقف الأسرة من المعارضة إلى التشجيع”.
طقوس الرسم والعرض الأول
حول طقوسها في الرسم، تقول السويدي: “يهمني أن أسمع الموسيقى أثناء الرسم، وأعيش اللحن وتفاصيله أثناء الرسم، ولا أحب أن يقاطعني أحد. أغلق جميع نوافذ الاتصال بالعالم الخارجي. وأتفرغ تماماً بكل طاقتي للرسم، وأستغرق فيه، فيجعلني أنسى نفسي لساعات طويلة، حتى يأتي أحد أفراد عائلتي يتفقدني لهذا الغياب “.
وحول بدايات عرض أعمالها تقول: “في البدايات، لم تشغلني فكرة العرض. كنت أرسم لنفسي وأكتشف اللون والمساحات والمواد الفنية بكثير من الدهشة المصحوبة بالفرح. وكانت مشاركتي الأولى في عام 2009 مجرد صدفة، وذلك مع مجموعة من طلبة جامعة البحرين. لم أمتلك الشجاعة يومها للوقوف أمام اللوحات أو التحدث عنها للجمهور، بل وقفت بعيداً أراقب من يقترب، وكيف كانوا يتأملونها، وبعضهم يلمسها بفضول. ظللت لمدة لا أحب التواجد مع لوحاتي في المعارض. فأعمالي تمتلك الشجاعة الكافية لذلك، وليست بحاجة لوجودي قربها.
وتكرَّر الأمر في مشاركتي الأولى في المعرض السنوي للفنون التشكيلية الذي يُقام في المتحف الوطني في عام 2012، وهو الأهم على مستوى عرض الأعمال الفنية في مملكة البحرين. وفي مشاركتي الثانية عام 2013، استجمعت شجاعتي ووقفت أمام لوحتي في الافتتاح. وكان الحضور كبيراً جداً، إذ كان المعرض برعاية سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان. ومع ازدياد المشاركات، اعتدت الوضع والتواجد وقت الافتتاح مع اللوحات”.
تجربتها مع الورش الجماعية
وتتحدَّث السويدي عن تجربتها مع الرسم الجماعي من خلال الورش، فتقول إنها جربته للمرة الأولى في سلطنة عُمان ضمن عمل جماعي مع عدد كبير من الفنانات. وكان تحدياً كبيراً بالنسبة لها، فقد كانت المرة الأولى التي ترسم فيها بحضور الجمهور وبأعداد كبيرة. فكان هناك كثير من التعليقات العابرة التي تربك التركيز خصوصاً في بداية الرسم، عندما يكون لدى الفنان فكرة يحاول الوصول إليها. لكن “المراقب” لا يرى تلك الصورة، فيبدي تعليقات قد لا تساعد في إنهاء اللوحة بالطريقة التي يرغبها الفنان. وبعد ذلك عملت في البحرين مع (عمر الراشد ومروة الخليفة) ضمن ورشة فنية ومرسم واحد. وكان الثلاثة يستخدمون الألوان نفسها، كل واحد ضمن هويته الفنية التي يعمل بها، واستمر العمل في هذه الورشة مدة عامين نتج عنها معرض اتفقوا على تسميتـه “خارج الخط”.
وتضيف السويدي: “تكرَّرت تجارب الرسم الجماعي في عدد من الدول الخليجية. ولَم تعد هناك أية مشكلة بالنسبة لي، لأني صرت أستعين بالسمَّاعات التي تفصلني عن العالم. ومن وجهة نظري، فإن الرسم في الورش الجماعية مفيد إذا أحسنا التعامل معه”.
الرسم بالشاي
في 2016، عرضت السويدي 27 عملاً فنياً في متحف البحرين الوطني، اعتمدت على تجربة الرسم بالشاي التي قالت عنها “تلك كانت تجربة مختلفة تماماً عن بقية الأعمال الفنية الأخرى.. فقد كان المهرجان خاصاً بهيئة البحرين للثقافة والآثار، وتم اختيار مجموعة من الفنانين للعمل مع طباخين محترفين، لعروض فنية تقام في متحف البحرين الوطني. كانت الفرصة ذهبية بالنسبة لي، لأن الفكرة جديدة ومختلفة، ولم يسبق من قبل تقديمها على مستوى مملكة البحرين. وكان التحدي كبيراً، إذ كان علينا، نحن المجموعة التي تم اختيارها لدخول هذه التجربة، التفكير بشيء جديد من دون معطيات مسبقة. فالمجال كان مفتوحاً لتقديم أي عرض فني مختلف عن المألوف. والمشروع يقضي بتقديم طعام من قِبل طاهٍ وأعمال فنية من قِبل الفنان.
والواقع أن السويدي لم ترسم بالشاي، بل استخدمت أكياس الشاي نفسها من خلال الكولاج الذي جرَّبته للمرة الأولى. وهذا ما احتاج منها صبراً شديداً في قَص ولزق وتجميع كل تلك الأكياس التي تبقت عليها بقع الشاي بطريقة ما. ونجحت تلك التجربة التي أدهشت جمهور المعرض. وتم عرضها في لندن حيث لاقت إعجاباً ملحوظاً، حتى أنهم لقبوا السويدي آنذاك “فنانة الشاي”. وتعرب الفنانة عن تمنيها أن تعرض التجربة قريباً في اليابان ودول أخرى، مع صدور الكتاب الذي شارك فيه عدد من الكتّاب والمبدعين المعروفين على مستوى الخليج والوطن العربي والذي خصّص للحديث عن طقوس الشاي، كما حصلت لوحة “همس الشاي” (Tea Whisper) على جائزة “تصويت الجمهور” من قِبل مؤسسة “سوفيرين” الفنيّة العالمية. وثبتت تلك الجائزة قناعة داخلية عندها بأن أي عمل تبذل فيه الجهد الحقيقي، وتنجزه بحُب وشغف صادق سينجح بالتأكيد. وتضيف السويدي :”لم أتوقع النجاح، ولم يخطر في بالي الحصول على هذه الجائزة، لكن النجاح بالنسبة لي كان من خلال المعرض نفسه الذي أقيم في البحرين، فقد كان مختلفاً عما تم تقديمة من قبل، وحظي بإعجاب جميع من حضر وكذلك القائمين على تلك التجربة.
وحول ما تقدِّمه الجوائز للفنان تقول: ” الجوائز ليست هدفاً بحد ذاتها، إنما هي باقات زهور تدفعنا إلى بذل المزيد وهي لا تعني دائماً التفوق على الآخرين. فقد تفوز أعمال لا تستحق ويتم تجاهـل أعمـــال أهم، فالجوائــز تبقى وجهة نظر خاصـة بالقائمين عليها”.
التحولات اللونية
وحول ما تم تقديمه في المعارض التي أقيمت في نهاية العام الماضي في الهند (دلهي وبومباي)، وركَّزت فيها السويدي على الأعمال الورقية والأسود والأبيض، تقول: “أحب التجديد والتغيير وتقديم شيء مختلف قد لا يتوقعه من يتابع أعمالي. ولا يستهويني التكرار أبداً. وفِي المستقبل قد أعمل على مجسمات. فلا مانع من التجارب الجديدة التي تحفز على الإبداع. فكل مشاركة فنية هي بالنسبة لي فرصة لعرض شيء جديد ومختلف”. و”الأبيض والأسود” قالت إنه “تحّدٍ” ونتيجة بحثها الدائم عن الذات الإنسانية، الذي هو أيضاً مجال بحثها الأكاديمي الخاص بالدكتوراة، والذي يدور حول الذكاء العاطفي وقدرة الإنسان على الوعي بذاته وبمهارات التواصل مع الآخرين.
وعن “الساعة الخامسة والعشرون”، وهو عنوان عدد من الأعمال التي قدَّمتها في المعرض السنوي للفنون التشكيلية البحرينية، تقول: “كنت أبحث عن الذات الإنسانية وفكرة التحولات التي تصيب الإنسان وتجعله قابلاً للاستهلاك من خلال الرقم أو الشفرة. وبدأت فعلاً في رسم لوحة ذات خلفية سوداء متحركة، وعليها شفرة – الباركود – بصورة مجازية مختصرة، لمعرض خاص بالمرأة، وتم عرضها في عدد من دول العالم، وهي تعبِّر عن المرأة التي تحوَّلت في بعض المجتمعات إلى سلعة.. وبعد مشاهدة تلك اللوحة، نصحني أحد الأصدقاء بقراءة تلك الرواية التي تتحدث عن سجين عابر نُقل من سجن إلى آخر.. فتحوَّل إلى مجرد رقم من دون اسم يُذكّر به. ومن خلالها استوحيت عدداً من الأعمال الحديثة، واستخدمت أوراق الرواية نفسها وأدخلتها بطريقة فنية لأستبقي ما أريد من كتابات استوقفتني، ورسمت حولها، فكان الكتاب الفني ومجموعة من اللوحات”.
ونختتم حديثنا مع السويدي بسؤالها عن عناوين معارضها الأخيرة التي تمحورت حول الإنسان وهويته، فأجابت: “تشدني المواضيع الإنسانية في رحلة البحث عن الذات. كما كان البحث عن الهوية يستفزني بعض الشيء. وقد استمعت في البداية لكثير من التعليقات حول هوية الفنان الثابتة، وبصمته الخاصة وصناعة اتجاه يميزه عن الآخرين. وكان في داخلي صراع لأن روحي تحب التجديد والبحث عن الدهشة في العمل الفني. ولهذا توقفت عن إجبار نفسي على اتباع اُسلوب واحد، بل أطلقت لها العنان كي أجرب وأستمر في التجريب. ويوماً ما، ربما في المستقبل البعيد، قد تكون هناك هوية ثابتة عنوانها التجديد والاكتشاف والدهشة”.
تصوير: عمار حمّاد
ميّاسة السويدي في سطور
من مواليد مملكة البحرين.
طالبة دكتوراة في جامعة غرونوبل للإدارة في فرنسا.
عضو جمعية البحرين للفنون التشكيلية.
بدأت مشاركاتها الفنية عام 2009 في معرض الفنون بجامعة البحرين.وأقامت معرضها الفردي الأول في جسر الملك فهد عام 2013.
شاركت في كثير من المعارض وورش العمل المحلية والإقليمية والعالمية، كان أبرزها المشاركة في معرض مشترك لفنانين من البحرين في افتتاح خاص في متحف فيكوريا والبرت بالمملكة المتحدة 2016. والمشاركة بمعرض شخصي ضمن فعالية “الطعام ثقافة” في متحف البحرين الوطني 2016.
حصلت على عدة جوائز، أهمها جائزة “تصويت الجمهور” لمؤسسة “سوفيرين” الفنيّة العالمية عن 2016. وجائزة من ملتقى الكويت الدولي للفن المعاصر في عام 2014، والجائزة الأولى في المعرض السنوي الثالث لفنانات البحرين برعاية “نادين جاليري” ، مملكة البحرين في عام 2013، وجائزة لجنة التحكيم الثانية في ملتقى الإبداع الخليجي الثالث في الكويت عام 2012.
اترك تعليقاً