تُمثل أرض الجزيرة العربية وناسها دور الفضل بن يحيى الذي قيل فيه:
ما لَقينا من جودِ فضلِ بن يحيى تركَ الناسَ كُلَّهم شُعراءُ
فلا عجب أن تكون الصورة قادرة على التقاط كرم الحياة وسخائها. وهذا ما تتبعته العدسة في فلم “جود” الذي أنتجه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، بحثاً عن صور بكرٍ لم تدنسها العدسات، فسعت في أقصى الأماكن، مشرّقة ومغربة بحثاً عن تلك الصور التي يقول عنها الشاعر:
وبالبـدو جــــودٌ لا يـــزال كأنه ركامٌ بأطراف الإكام يمورُ
ما القصيدة سوى صورة وموسيقى؟! صورة تسحر السامع، وموسيقى تتواطأ على ذلك، ليتسامى السامع، ويعلو سابحاً شعراً، وهذا ما يجعل من “جود” فيلماً يستثمر المساحة الشعرية، ويجعلها وسيلته لإيصال رسالته، هذا الفلم الذي أخرجه أندرو أنكاستر وأشرف عليه المخرج السعودي عبدالله آل عياف يلعب على الصورة في سبعين دقيقة. سبعون دقيقة لا يفلت منك مشهد على الإطلاق، مجموعة من الصور والمشاهد الخاطفة المترابطة بشكل لا يمكّنك من تفسيرها منفردة، وإنما في سياق يجمعها. ويظل المعنى حقلاً من الاحتمالات. ولأن الصورة وحدها غير قادرة على إقناع المشاهد بفلم صامت، إذ إن الفلم لعبة سينمائية لا تستغني إطلاقاً عن الصوت، جاءت الموسيقى، والموسيقى وحدها هي القادرة على صنع لغة عالمية ثانية مشتركة. فجمع الفلم بين لغتين عالميتين: الصورة والموسيقى، وأجاد في كلتيهما.
تمكن المخرج أندرو أنكاستر بفريق مشترك عربي وغربي من التوافق على الصورة، واتخذ من الموسيقى إبرة نسج بها المشاهد المتباينة التي لا يمكن حياكتها إلا بصوت يستطيع جمعها إلى بعضها.
وأجاد الموسيقي جيري لاين حياكة الصور وربطها. فقد انسابت وتوافقت الصورة والموسيقى، واستطاعت جذب المشاهد، وإسقاطه وسط الفلم دون الحاجة للحوار على الإطلاق. وهذا ما تستطيعه الموسيقى دون سواها: الحديث بلسان عالمي يفهمه الجميع، يغني عن الحوار، ويجعلك منذ البداية وحتى النهاية تفتش عن الحوار، فلا تجده، وإنما هو من يجدك حين تخرج من الفلم بقدر كبير من الموسيقى التي تغنيك عن أي حديث.
البداية والنهاية
ينطلق الفلم منذ لقطته الأولى من صورة علوية لقبور متراصّة في لقطة مهيبة، وبداية من المـوت الذي ينجب الحياة بمفارقة عجيبة، وكل ذلك يجري في دائرة غير منتظمة، لذلك جعل الفلم من حرف الـ (O) في اللغة الإنجليزية إطاراً لكلمة “جود” العربية، وكأن الجود محاط بدائرة الحياة دون انتظام: مد وجزر، غنى وفقر، بحر وقفر، في سلسلة من الثنائيات التي يدور حولها الفلم، ويجعلها سلسلة من الدوائر التي تتفق في فقدان بدايتها ونهايتها. وتختلف في المادة التي ترسمها ما بين إطار سيارة أو مقود، مروراً بدولاب تتخذه فتاة في يديها لتتراقص به في مهارة فائقة، فتترك الختام لمخيال المشاهد من دون خاتمة. لأن الدائرة هي الشكل الأقدر على تبديل البدايات والنهايات، وتتويهها حدَّ نسيان العدد والبدء من جديد!
سجال الصور
تأتي اللقطات في سجال في ما بينها، تبدأ بالموت، وتنثره في ثنايا الفلم، وتنسج منه مادة للجود حين يتكفل طفل صغير مفعم بالحياة، بإكرام طير يخطفه الموت، فيواريه عالياً في أعلى جبل! إنه الجود الذي يجعل من إكرام الميت التعجيل بدفنه، والعودة للحياة التي لا تتوقف عند موت أحد، فيجعل الفلم من اللقطات سجالاً لا يعرف عمراً ولا جنساً ولا عرقاً ولا جهة. فيعبر الجزيرة باتساعها، وينتقل من البر إلى البحر، ومن القديم إلى الحديث، عابراً للزمن، وواقفاً عند كل لحظة مهملة، فلا يعثره برج شهير أو مكان أثير، وإنما يجذبه كل مكان لا تتوقعه، في مصنع لا تستبينه، ومجلس لا تعرفه، وشارع لم تمر به. وعندما تقلب ذاكرتك، تدرك أنك أنت المعنيّ حين تمر بك اللحظات دون أن توقفها وتستمتع بها. فالجمال لا يقف عند زمان أو مكان. والحياة من الجود بمكان، سخية تهب كل ما لديها، فلا تبخل على أحد بلحظة مما تملكه، تعطي من سعتها، والسعيد من سعد بكل لحظة، من سعد بلمسة بلّورة لم يرها، وإنما سرى نورها في يمينه، فلمعت عيناه الفاقدة للضوء. فيا لجود الضوء حين لا يميز بين الناس، وإنما يشرق على الجميع، وتستقبله كل العيون بقدرها.
وظيفة قرائية
يجود الفلم برصد كل الأسماء المشاركة، وهي كثيرة/قليلة. ففلم كهذا جدير بأن يرصد كل شيء، فالجماد/جواد لا يقل بطولة ومشاركة عن أي اسم، ولكنه رضي أن يظل المجهول/المذكور، وغفر للفلم ما سخي به حين جلب كل الأصوات التي أبعدها لسلطة الموسيقى؛ لتحتل تلك الأصوات مساحة التتر، وتكون وسيلة ناجحة وجاذبة ترغم المشاهد على احترام كل الأسماء، والبقاء لسماع أصوات على غرار كل اللحظات المسجلة، التي لا يعرفها أحد، وإنما عرفها وقدَّرها القائمون على الفلم.
وأخيراً.. هل من الممكن القول إن الصورة والموسيقى في قالب سينمائي هي قصيدتنا المعاصرة؟! هل هي اللون الجديد للشعر حين يتفق العالم على لغة واحدة لا لبس فيها؟! إن فلم “جود” بلقطاته البصرية، وما يتركه من أثر على مشاهديه حدَّ قراءته وتأويله، يقول ذلك ويؤكده، ويقرر ما يقوله جيل دولوز بأن الصورة ذات وظيفة قرائية إلى جانب وظيفتها البصرية.
اترك تعليقاً