مَنْ منا لم يحلم مرةً واحدةً على الأقل خلال نومه أنه يطير؟ ومع الطيران ترتفع معنوياته وتكبر آماله، ليستيقظ بعد ذلك على واقع مخالف ومحبط، إنه ملتصق بالأرض. لكن العلم يعمل على تحقيق هذه الأحلام وتحويلها إلى واقع، ويبدو أنه بدأ يقترب من ذلك.
استخدم باحثون من جامعة بريستول البريطانية دوامة صوتية (Sound Vortex) لرفع جسيمات في الجو، تشبه الإعصار الطبيعي، لكنه إعصار صوتي له نواة في وسطه تشبه عين الإعصار العادي.
مصطلح جاء من “حرب النجوم”
ولشرح اختراعهم المهم، استخدموا مصطلح “حمّالات الصوت الجرّارة” (Acoustic Tractor Beams) الذي هو استعارة من أفلام الخيال العلمي. ففي فِلْم “حرب النجوم” الأول (1977م) فإن حمّالةً جرّارةً غير مرئيةٍ على “كوكب الموت” جذبت مركبة “الصقر الألفي”، بينما صده شعاع متلألئ أنقذ الطاقم. وتتألّف هذه الحمّالات الجرّارة من جسيمات صوتية متخيلة.
اليوم، تستخدم الدوامات الصوتية موجات الصوت (الصوت هو اهتزازاتٌ تنتشر على شكل موجات مسموعة، منها القصير ومنها الطويل. فالموجات ذات التردد القصير تُحدث أصواتاً عالية، والطويلة تُحدث أصواتاً منخفضة) لحمل الجسيمات في الجو. وعلى العكس من الجذب المغناطيسي أو بأشعـة الليزر وغير ذلك، الذي لا يستطيع جذب إلا بعض المواد، فإن الدوامات الصوتية يمكنها التقاط ونقل معظم المواد الصلبة أو السوائل وحتى الحشرات الصغيرة من دون لمسها أو احتكاكها بأي شيء آخر. وتَعِد، بثورة خيالية في مجال النقل والتطبيقات الطبية والتكنولوجية المتعدِّدة.
فلأول مرة في التاريخ، أظهر المهندسون أنه من الممكن احتجاز أجسام أكبر من طول موجات الصوت بشكل ثابت في حزمة دوامة الصوت. ويمثل هذا تطوراً كبيراً جداً على طريق التمكن من التلاعب بكبسولات أدوية أو أدوات جراحية دقيقة تُزرع داخل الجسم، كما أن بإمكانها، في المدى الطويل، أن تؤدي إلى رفع البشر في الهواء.
اعتقد الباحثون في السابق، اعتماداً على عدد من المحاولات للوصول إلى هذه النتيجة، أن حمّالات الصوت الجرّارة لا تستطيع ذلك لأن الجسيمات الأكبر من طول موجات الصوت ظلّت غير مستقرة، وكانت تدور بلا ضوابط. ويرجع ذلك إلى أن حقل الصوت الدوّار كان ينقل بعض حركته الدوارة إلى الأجسام نفسها مما كان يجعلها تدور أسرع وأسرع ثم تُقذف خارجاً. غير أن الأسلوب الجديد، الذي نًشرت نتائج اختباراته في مجلة “فيزيكال ريفيو ليترز” بداية العام الجاري 2018م، يستخدم الدوامات الصوتية سريعة التقلب، التي تشبه الأعاصير الصوتية، المصنوعة من بنية أصوات عالية تحيط بنواة صامتة.
اكتشف الباحثون الجدد أنه يمكن التحكم بوتيرة الدوران عن طريق تغيير اتجاه الدوامات بسرعة، مما يجعلها تستقر. وهكذا، بدلاً من كونها تشبه الإعصار، تتحوَّل لتصبح شبيهة بسلة غسالة الثياب السريعة جداً، إذا افترضنا أن السلة مصنوعة من الصوت. كما جعلهم ذلك قادرين على زيادة حجم النواة الصامتة، مما يسمح لها بحمل أشياء أكبر. وقد استخدموا موجات فوق صوتية بتردد 40 كيلو هرتز، وهو تردد مشابه لذلك الذي لا يمكن أن يسمعه إلَّا الخفافيش (بينما نطاق سمع الإنسان بين 20 هيرتز و20 كيلو هيرتز)، واستطاع الباحثون تعليق كرة من البوليسترين يبلغ قطرها سنتيمترين في الهواء بواسطة هذه الدوامة الصوتية.
ولصنع الدوامات الصوتية، قام ميهاي كاليب، الباحث البارز الذي طوّر المحاكاة ببناء مصفوفة دائرية من 192 مكبر صوت تولد موجات فوق صوتية، تردداتها عالية جداً لا تلتقطها الأذن البشرية، وقادرة على حمل جسيم يصل قطره إلى سنتيمترين.
إن مقياس هذه الكرة هو أكثر من موجتين صوتيتين في الحجم وهو الأكبر حتى الآن يعلق في دوامة صوتية. ويتوقع الباحث أنه سيكون بالإمكان تحريك أشياء أكبر بكثير بهذه الطريقة، وجعل النقل بالموجات الصوتية واقعاً في المستقبل.
تطبيقات طبية في الأفق
ويضيف كاليب أن مصفوفة مربعة قياسها مترين بمترين يمكنها أن تضم مجموعة من 400 مكبر صوت، يمكن أن تحمل جسماً حوالي المتر، لكن هذا لا يزال نظرياً في الوقت الحالي. ولكن التطبيقات الرئيسة المحتملة للرفع الصوتي في المستقبل القريب تتمثل بالدخول إلى جسم الإنسان ودفع الحصى في الكلى، أو توجيه كبسولة من المستحضرات الصيدلانية إلى المكان الصحيح وما شابه ذلك من التطبيقات.
ويقول بروس دريك ووتر، أستاذ ما فوق الصوتيات في قسم الهندسة الميكانيكية الذي أشرف على العمل، إنه “متحمس بشكل خاص لفكرة خطوط الإنتاج غير الملموسة، حيث يتم تجميع الأشياء الحساسة دون لمسها”. وإليه يضيف أزير مارزو الكاتب الرئيس للبحث: “أعتقد أنه يفتح الباب أمام عديد من التطبيقات الجديدة. قد يشمل بعضها تصنيع أجهزة طبية، مثل كبسولات الأدوية أو الأدوات الجراحية الدقيقة”.
أما بالنسبة لأولئك الذين يتساءلون عن إمكانية رفع شيء ما أكبر بكثير من كرة قطرها سنتيمترين، أو حتى الإنسان، يقول كاليب: “في المستقبل، ومع قوة صوت أكبر، فسيكون من الممكن رفع أشياء أكبر. فخلافاً للاعتقاد السابق أن بالإمكان استخدام ترددات صوتية منخفضة فقط، مسموعة من البشر وتجعل التجربة خطرة عليهم بسبب الضوضاء التي تحدثها، فإن التجربة الحالية تستعمل الموجات الصوتية التي لا يسمعها البشر، لكنها يمكن أن تكون خطرة على الخفافيش كما أسلفنا”.
ولا يذهب كاليب إلى حد القول إن هذه المحاكاة هي دليل على أنه سيكون بإمكان البشر أن ينتقلوا بالموجات الصوتية بالتكنولوجيا المتوفرة حالياً. فما تظهره الدراسة هو أنه يمكن بنجاح استخـدام ترددات عالية، أعلى بكثير مما يمكن أن يسمعه البشر، في حزم الدوامات الصوتية، ويمكن رفع أجسام أطول من الموجات الصوتية وجعلها ثابتة في الوقت نفسه. ومع ترددات صوتية أعلى يمكننا حمل أجسام أكبر، وهكذا نستطيع تحويل الخيال العلمي إلى واقع.
ويعتقد مهندسو ناسا أن تكنولوجيات الدوامات الصوتية يمكنها أن تتولى مهام أكبر، مثل جمع جسيمات الغبار الكبيرة على سطح المريخ أو من ذيل المذنبات لفحصها وفهم مكوناتها.
ومن الناحية النظرية، يمكن للتحسين المستمر وتطوير التكنولوجيا المناسبة في المستقبل، أن يؤديا في يوم من الأيام إلى ثورة كبيرة في مجال النقل على أنواعه كافة، يمكننا أن نقارنها بالثورة التي أحدثتها الإنترنت في هذا العصر الذي نعيشه.
اترك تعليقاً