مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2018

اشراقات أمجد علي خان في الموسيقى الهندية


سعيد بوكرامي

للموسيقى الهندية شخصية خاصة، يعود اختلافها عن باقي ألوان الموسيقى في العالم بالدوافع إلى نشأتها، ووظيفتها وآلاتها والعوامل التي أثّرت في تطوّرها. ويحتل الموسيقار أمجد علي خان مكانة بارزة في الموسيقى الهندية المعاصرة. غير أن الإطلالة عليه لا يمكن أن تكون إلَّا من نافذة التراث الموسيقي الذي ينتمي إليه. فالموسيقــى والموسيقــار نافذتــان مشرعتان على بعضهما، تساعد الواحدة على فهم الأخرى.

تسمى الموسيقى في الهند “سانجيتا” وتعني الكلمة: “جمع الأشياء كلها وقولها”. وهذا” الكل “يرمز إلى اتحاد الجسد بالأشياء والكائنات والروح بالفكر. والذهاب إلى الموسيقى الهندية بالنسبة لغير المنتمين للثقافة الهندية، هو بمثابة سفر إلى عوالم مجهولة، هي نفسها ما يحف الشرق الهندي من غموض وأسرار. وبناءً عليه، تكون رحلة المرء إما بأفكار معقَّدة نحو هند بسيطة، وإما بأفكار تبسيطية عن هند معقَّدة.
نعلم من التاريخ الموجز للموسيقى الهندية أنها نشأت من رقيم “الفيدا” والملاحم الشعرية الهندوسية التي كتبت باللغة السنسكريتية في وقت ما قريب من بدايات الألف الثاني قبل الميلاد. وكان يُنظر إلى الموسيقى على أنها “مرآة الطبيعة والحياة بجميع أشكالها: السلمية والعاطفية والمعتمة. إنها التعبير الأسمى عن العواطف والانفعالات “. وكان رهان هذه الموسيقى يكمن في جعل المستمع “يشعر بحركة العالم وبالتعايش مع الكون المحيط به”.

أصل وفرعان..
الراجا يجمعهما
استمرت الموسيقى الهنديـة تتطوَّر ببطء حتى القرن الثاني عشر الميلادي، حين حصل فصل بين الموسيقى في الشمال والجنوب. فتأثرت الموسيقى بجانب من عادات بعض الطوائف الإسلامية الذين وصلوا إلى البلاد من الشمال عن طريق أفغانستان وبلاد فارس. وأضفى الموسيقيون من هذه الطوائف عليها نكهات عربية وفارسية. وهكذا ولدت الموسيقى “الهندوستانية”، التي بلغت أوجها في العصر المغولي. أما في الجنوب، فقد بقيت الموسيقى أكثر ارتباطاً بالطقوس الدينية الهندوسية وبالرقص، وتُعرّف هذه الموسيقى بأنها “كارناتاكية”، نسبة إلى منطقة كارناتاكا الجنوبية.
وإن كان هذان العالمان الموسيقيان قد تطورا لاحقاً بشكل منفصل عن بعضهما، فإنهما حافظا على جامع مشترك في اللون الموسيقي المعروف باسم “الرّاجا”، وهو مصطلح يعني باللغة السنسكريتية “العاطفة” أو “اللون” أو “التعلق”، ويوصف بأنه “عبارة عن ترتيب خاص للأصوات، تظهر فيه الحركات الموسيقية واللحنية وكأنها حليّ مزركشة تسحر العقل”. كما يمكن وصف الرّاجا على أنه تأدية موضوع مفروض، وبلون موسيقي محدّد ومناخ معيَّن، غير أنه يمكن حينذاك للموسيقي أن يرتجله وفق ما يشاء. ويمكن مراراً وتكراراً إعادته بزخارف وإيقاعات مختلفة. في الواقع، فإن هذا اللون الموسيقي هو أكثر تعقيداً من كل الألوان الأخرى.

والحفاظ عليه قضية عائلية
الاستماع اليوم لموسيقى أمجد علي خان أو رافي شنكار يشبه الغوص في ألوان الهند وأرخبيل ثقافاتها المتعدِّدة، فهو يمنحك فرصة الترحال في أغوار الموسيقى التقليدية الهندية المهدَّدة بشبح الموت شيئاً فشيئاً. فلولا محافظة بعض الأسر العريقة على تراثها الموسيقي وتقاليده، ونقله إلى الأبناء والأحفاد، لكانت هذه الكنوز الثمينة في طي النسيان والإهمال وضحية الاستلاب بالحداثة. وأسرة الموسيقار أمجد علي خان هي واحدة من هذه الأسر الموسيقية العريقة.
أمجد علي خان هو تلميذ وابن الموسيقار العبقري حافظ علي خان – الذي كان عمره ستين عاماً عندما أنجب أمجد – والأب نفسه ينحدر من ستة أجيال من الموسيقيين الذين ابتكروا آلة “السارود”، المستلهمة من الرباب الأفغاني، وهي تشبه آلة العود. فهي ممتلئة الهيكل المغلَّف بجلد الماعز، ذات مقبض واسع وطويل، وأصغر حجماً من السيتار الذي تشكِّل معه الآلتين الرئيستين للموسيقى الشعبية الهندية. وتتضمَّن آلة السارود الآن خمسة وعشرين وتراً معدنياً، لكنها كانت في ما مضى تحتوي على تسعة عشر وتراً فقط. ويعزف عليها بقطعة صلبة من جوز الهند أو قطعة من خشب الساج. وتوجد في الهند اليوم مدرستان موسيقيتان متعايشتان، تعتمدان كلياً على السارود: الأولى في ميهار، أسسها علاء الدين خان ويمثلها علي أكبر خان ورافي شانكار، والثانية في غواليور ويمثلها أمجد علي خان.

من علاء الدين خان إلى أمجد
يُعدُّ علاء الدين خان (1862-1972م) شخصية ذات مكانة أسطورية في الموسيقى الهندية. وينتمي هذا الموسيقار في الأصل إلى قرية هي الآن في بنغلاديش. علَّم فنه لابنه، علي أكبر خان وتلميذه رافي شانكار. كانت معرفته الموسيقية واسعة للغاية، واشتهر أولاً بالعزف على آلات تقليدية مختلفة، قبل أن يتحوَّل إلى السارود، الآلة التي تنسب إليه وابتكر بواسطتها تحفاً خالدة.

والد أمجد خان ينحدر من ستة أجيال من الموسيقيين الذين ابتكروا آلة “السارود”، المستلهمة من الرباب الأفغاني، الشبيه بآلة العود.

وكان ابنه علي أكبر خان (1922-2009م) شخصية بارزة أيضاً في الموسيقى الهندية الكلاسيكية. أسهم بحرفية في نشر الموسيقى الهندية في الغرب. فقد ولد علي في ولاية البنغال (هي الآن في منطقة من بنغلادش). وبعدما أكمل دراسته وتدربه على يد والده، قام في عام 1955م بجولات موسيقية في أوروبا لاقت نجاحاً كبيراً. وفي عام 1965م، بدأ بإلقاء محاضرات في الولايات المتحدة، ثم أسس في عام 1967م مدرسته الموسيقية في سان رافائيل بكاليفورنيا.
أما أمجد علي خان فهو أصغر ابن وتلميذ لحافظ علي خان، ينحدر من سلالة من الموسيقيين يعود تاريخها إلى أيام الإمبراطور المغولي جلال الدين محمد أكبر. ألّف كثيراً من معزوفات “الرّاجا” الجديدة للمناسبات الخاصة. ويقيم الآن عدداً من الحفلات الموسيقية، ولديه أعمال مسجلة مهمة للغاية. أسلوبه أنيق، إيقاعاته بارعة وراقية، وموهبته متجدِّدة.
ولد أمجد في 9 أكتوبر 1945م في قاليور، وهي بلدة في وسط ولاية مادهيا براديش، على بُعد مسافة قصيرة من مدينة أكرا وعلى مقربة من مدينة بوبال. وفي عام 1952م، وكان آنذاك في سن السادسة، قدَّم أول حفل منفرد له معلناً بذلك أمام الجمهور المنبهر والصحافة عن مولد عبقري في الموسيقى الهندية العريقة.

علاء الدين خان شخصية ذات مكانة أسطورية في الموسيقى الهندية

توجهه الموسيقي
يكشف أمجد في معظم حواراته عن تواضع كبير. إذ يَعُدُّ ما يقوم به هو مجرد واجب للاستمرار والحفاظ على التقاليد الموسيقية الروحية، وضمان ديمومة أصالتها.
يفسر أمجد توجهه الموسيقى قائلاً: “لا يوجد فرق جوهري بين الموسيقى الشعبية وغيرها، الموسيقى هي الموسيقى، أريد التواصل مع المستمعين الذين يجدون أن الموسيقى الهندية الشعبية مغرقة في القدم وبعيدة عنهم”. وهكذا يرفض أمجد المحافظة الصرفة والتشدُّد في التقاليد الملحوظ عند كثير من الموسيقيين الهنود، محاولاً بهذا توسيع دائرة الجمهور. لكنه بالمقابل، لا يقدِّم أي تنازل في ما يتعلق بالمحافظة على أصول الموسيقى الهندية، مكتفياً بنسج وميض من الألوان والأحاسيس بواسطة آلته الســارود، التي يقال إنها تحمل في أوتارها ألف لون موسيقي ولون.
يعزف أمجد في معظم المهرجانات الموسيقية سواء بشكل منفرد أو مع فرق سمفونية كبيرة. فهو يعرف الموسيقى السمفونية الغربية بشكل جيد. فتتعامد آلة السارود وتتساوق نشيداً للحرية والجمال. وهذا يذكرنا بالفِلْم الوثائقي الرائع الذي أعد عنه بعنوان “سلاسل الحرية”.
وبالنسبة لأمجد، لا يقتصر الأمر على إعادة إحياء موسيقى “الراجا” القديمة فحسب، ولكنه يؤلِّف فيها الجديد أيضاً، لإبقاء مجالات الإبداع فيها مفتوحة، ويبقى في الوقت نفسه مخلصاً للروح العميقة لهذه الموسيقى الـمُعَدَّة من الإحساس والارتجال والإلهام والإبداع.
فهذا الفن الأصيل يبدو وكأنه قدّم إلينا تقريباً بشكل سِريّ وكدرس في الجمال والتوازن العاقل ما بين التراث والانفتاح على الحداثة. ولا يمكن أن تمنح هذه المعرفة بسهولة ويسر. ولكن أمجد هو واحد من هؤلاء الذين أخذوا هذا المشعل الموسيقي وأضاؤوا به عالمنا جمالياً وروحياً. فها هو يعزف السارود متوجهاً بفنه إلى الطوائف الهندية جميعها، ومن خلفها الإنسانية جمعاء. فموسيقاه موجهة إلى الناس البسطاء والنخب على حد سواء. فعلى الموسيقى أن تكون، حسب رأيه رسالة سامية لا تعترف بالفروقات الاجتماعية الوهمية. ولأن هذه الموسيقى الأثيرة تنتقل من السلف إلى الخلف وفق تقاليد تعليمية متأصلة، فإن الأب أمجد علي خان حرص على تعليم ابنيه أمان وأيان أصول الموسيقى الهندية الشعبية، وهما يرافقانه أحياناً على خشبة المسرح. وهكذا سيبقى الامتداد الفني والجمالي والروحي للموسيقى الهندية متواصلاً ومتجدداً من جيل إلى جيل.


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “اشراقات أمجد علي خان”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *