مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2023

قول في مقال

ليلة السرقة من “الأرض اليباب”


عبده خال
كاتب وروائي سعودي

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين. مجلة “قافلة الزيت”، كما كانت تُسمى سابقًا، كانت إحدى القنوات المائية التي حملتني وأنا غلام صوب الكتابة والاستمتاع بما أقرأ، وكبرتُ وهي تكبر في فؤادي وذاكرتي. كأني الآن أعترف اعترافًا كاشفًا لمرحلة عمرية من حياتي، فقد كان لمجلة “قافلة الزيت” دور ثقافي، وفي الوقت نفسه كانت مددًا كتابيًا لما كنت عليه عندما كنت أكتب رسائل العشق للأصدقاء.
في ذلك الزمن، حصلت على تميّز بين أقراني في الجانب الكتابي، فلم يكن لدي شيء ذو بال أعتد به أمام صبايا الحي، لا قوة ولا جمال ولا مال، يرفع من أسهمي أمام عيون الصبايا المنتشرات كورود زيّنت النوافذ والأبواب والأزقة ودروب المدارس، وليل تشبع بالهمسات، وطرق الشوارع ليلًا لتوصيل رسائل العشاق.
كان حيًا يضج بالعشق، وكأن الحي مستودعٌ للقلوب النابضة، فليس هناك من شغل شاغل سوى ذلك الحب الدافئ.
امتيازي الذي حصلت عليه في تلك السن، أنني كنت أقرأ كثيرًا؛ تلك القراءة التي مكنتني من ارتقاء التميّز بين أقراني، وأضفت إلى ذلك أني كنت جالبًا للكتب والقصص والمجلات المحببة لدى صبايا الحي.
ولطالما قادني شغفي بالقراءة إلى “ورّاق” اسمه صالح، كان يعرض الكتب والمجلات بجوار المحكمة الأولى بحارة البحر، فأتسلل من سوق “باب شريف” لأصل إليه عبر الأزقة والمنحنيات، وأكون مشتريًا أو بائعًا للكتب التي قد قرأتها. وكانت من المجلات الرصينة التي اقتنيتها في طفولتي تلك، مجلتا: “العربي” و “قافلة الزيت”.
ومن التميز الذي حدث لدي أنني أصبحت أكتب جملًا للتشجيع؛ لتشجيع ناديي الاتحاد والأهلي وفق من يقصدني لكتابة جمل التشجيع تلك، وهذا ما أكسبني التسامح والابتعاد عن التعصب الرياضي لنادٍ بعينه دون الأندية الأخرى.
هذه الميزة سرعان ما تطورت، وقصدني أقراني في مرحلة الشباب لأن أكتب لهم رسائل عشق لحبيباتهم، وهذا ما مكنني من قراءة ردود الحبيبات أيضًا، فأصبحت أعرف أسرار الشباب والصبايا في الحب من خلال تلك الرسائل المتبادلة، فأنا الكاتب وأنا القارئ.
وها أنا أبوح الآن معترفًا بأن علاقتي بمجلة “قافلة الزيت” كانت توثّقها تلك المهمة التي حظيت بها بين أقراني، فقد تكثفت طلبات العشاق لأن أكتب الرسائل، وأرد على الحبيبات، وكنت أستمد من المجلة ما ينفعني في الكتابة. وقد سجلت قصتي مع مجلة “قافلة الزيت” كـ “سرقة أدبية” في روايتي الأخيرة “وشائج ماء”؛ جاءني ذات مرة صديق عاشـق يطالبني بكتابة رد على رسالة حبيبته، وكنت منشغلًا تمامًا، بينما كان هو في حالة انهيار تام. كان ذهني فارغًا وغير راغب في كتابة رسالة عشق، وأمام إلحاحه وانهياره وقتها، قادني إلى سرقة قصيدة “الأرض اليباب” للشاعر العالمي العظيم توماس إيليوت، المهداة إلى صديقه العظيم عزرا باوند، حيث اطلعت عليها في أحد أعداد المجلة. في تلك السن وعند تلك الحالة الملحة، تغافلت عن كون القصيدة تجسيدًا عالميًا لخيبة الأمل، والتأكيد على الدمار، الذي سنح لكل أنواع الفساد أن تطفو على السطح.
هل تغافلت عن ذلك، أم أن الحالة الضاغطة لصديقي وانهيار قصة حبه جعل من قصيدة “الأرض اليباب” مناسبة تمامًا لانهيار عالم صديقي العاشق؟
في ذلك الزمن، كيّفت قصيدة “الأرض اليباب” لإيليوت بتغيير المقاطع وتبديلها، وكتبتها ردًا على تلك العاشقة المتعففة عن حب صديقي. ما زالت تلك الذكرى ضاغطة على بالي لأن صديقي العاشق دمره عشقه حتى الآن.
خمسة وأربعون عامًا منذ تلك الحادثة وصديقي ملقى على قارعة العشق، متسولًا كلمة واحدة من تلك الحبيبة القاتلة لأحلامه وحياته.
أليس من حقي أن أُفجع حين علمت أن مجلة القافلة قد توقفت؟! الفجيعة ليست في هذه الحالة أو القصة. الفجيعة أن هذه المجلة كانت نبراسًا متوهجًا لأجيال وطوابير من الكتاب والقراء الذين صنعت بهم أخاديد من وله الكتابة والقراءة معًا.
في أثناء مسيرتي الكتابية كتبت في أرقى المجلات العربية، ولم يدُر في خلدي، وأنا غلام، أني سأكتب في مجلة العربي. تقافزت التطلعات، فكتبت في أرفع المجلات العربية. واليوم وأنا أكتب في مجلة “القافلة”، كيف بي لو عادت ذكريات اقتنائها من “الورّاق” لأقول له: أنا كاتب في هذه المجلة.
وحينما فاجأني عدد القافلة السبعيني، تبلورت كل تلك الذكريات والحكايات عن مجلة “قافلة الزيت” سابقًا و “القافلة” حاليًا، فهاجني استذكار البدايات في حياتي الكتابية. ومع هذا العدد الذي تحتفل فيه مجلة القافلة بعيد ميلادها السبعين، تراكضت الذكريات على هيئة شريط مصور لطالما كان مضمرًا كذكرى استكانت بين تلافيف مطويات الأيام النائمة، وما بين يدي من ركام أوراق كُتب بقي بعضها وغاب معظمها.
الآن.. هل أجرؤ على مكاشفة صديقي؟ وأقول له بكل شفافية وصراحة أني رددت على حبيبته من أبيات “الأرض اليباب”. لو تجرأت فسوف يتهمني حتمًا بأني أفسدت عليه حياته!


مقالات ذات صلة

أكثر من ثمانية مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض. وأضعاف هذا الرقم هو عدد المرايا الرقمية التي باتت تحاصرنا بما يشبهنا من نسخ. لا غرابة إذًا أن يكون التفرُّد حلمًا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى؛ التفرُّد بمعنى أن تكون نسخة واحدة لا يُشبهها شيء. غير أن السعي نحو ذلك الحلم ضمير مشترك بيننا، […]

في منتصف التسعينيات الميلادية، كتبتُ عن طليعية التحديث المبكرة للتجربة الشعرية النبطية المجددة للشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، وذلك عبر مقال من سلسلة مقالاتي “قراءة ذاتية لتيار جماعي” المتبادلة مع الشاعر علي الدميني. وقد تكون هذه أحد الأسباب، التي حدت بمجلة القافلة أن تطلب مني المشاركة بمقال عن تجربته الشعرية، حرصًا […]

الحديث عن الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية المختلفة، بكل ما للكلمة من معنى. لكن الحديث في نهاية الأمر أصبح واجبًا في غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله، باللغة التي نراها أقرب إلى ملامسة ما أمكن من أطراف تجربته المتفردة. رسم: عمر صُبير […]


0 تعليقات على “ليلة السرقة من “الأرض اليباب””


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *