مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2020

أكثر من رسالة


القدس محط الرحال

عندما أخلو إلى نفسي في لحظة صمت أجدها تهذي بقول الشاعر:

“أنا عربي أصيل
أنا فلسطيني أصيل
وفي أصالتي تكمن علتي
ياخلتي يا خلتي”

في ملتقى تجديد الفكر العربي بمركز “إثراء” في الظهران تردَّد ذكر مؤسسة الفكر العربي كمنظِّمة للملتقى بالشراكة مع المركز، وتردَّد اسم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيساً للمؤسسة وأميراً على منطقة مكة المكرمة، فظلَّت هذه الصفة الأخيرة تدق في كياني مع كلمات الشاعر الحيفاوي عبدالله حداد سابقة الذكر.
جاء الأمير وارتجل ما قلَّ من الكلام ودلَّ قائلاً: “ليست لدي كلمة اليوم، كلمتي واحدة هي فلسطين، ونحن أصحاب حق في فلسطين، ولن نرتاح ولن نهدأ إلى أن نستعيد حقنا في فلسطين… ليست المعركة حربية وسياسية فقط، وإنما المعركة فكرية وثقافية وعلمية كتلك التي يجب أن نتسلَّح بها في هذه الجولة المستقبلية، لكي نعيد فلسطين إلى أهلها”.
قلت في نفسي هذا شاعر وقد شدَّ الرحال مع أقرانه، فمن مكة جاء وفي القدس حطَّ الرحال، ومع الأخطل الكنعاني كان الوصل والوصال:

“يا فلسطين التي كدنا لما
كابدته من أسى ننسى أسانا
نحن يا أخت على العهد الذي
قد رضعناه من المهد كلانا
مكة والقدس منذ احتلما
كعبتانا وهوى العرب هوانا”

في وحدتي، خلوت إلى نفسي، وشدَّني الشوق لطفولتي، وقلت كي لا تذكِّرني بواقعي سألهيها بلعبة الدراويش.
فإذا ملت يميناً دقت الكعبة رأسي لتذكِّرني بالقدس، وإذا ملت يساراً دقَّ الأقصى رأسي ليذكِّرني بمكة، وكأن حالَهما قد رقَّ بالدرويش الصغير وأرادا إعادته إلى صوابه ليهتدي بروح تاريخ أمته وعقيدتها وأخذ الدرس الكامن في كل شبر من موطنها.
أراد الدرويش الصغير توفير المشقَّة على نفسه والعودة من روح تاريخ أمته بالترياق لعلته. وفي لحظة توقَّد فيها الشوق لمسقط الرأس، عايش الدرويش الصغير مولد الإمام الشافعي في فلسطين عام 150 هجرية، ورافقه في رحلته يافعاً إلى الحجاز. فقص عليه أن تلك الرحلة تعيده إلى ذكرى جده هاشم بن عبد مناف الذي توفاه الله في فلسطين وهو عائد من الشام إلى مكة، ودفن في مدينة غزة بحي الدَّرَج، لتُعرف المدينة الجريح من يومها بغزة هاشم.
وقصَّ عليه الإمام أيضاً ما روته المصادر التاريخية من أنَّ أسقف غزة هذه قد شدَّ الرحال إلى مكة المكرمة وحمل معه وِرْثةَ الجد إلى حفيده المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، كحسن بادرة من أهل غزة تجاه الرسول الكريم ودعوته، وكان ذلك مقدِّمة لفتح معاوية في عهد الفاروق لغزة هاشم، التي كان فتحُها بدورِه بشارةً بفتح القدس بالطريقة نفسها، إذ دعا أسقفها الفلسطيني الخليفةَ الفاروق لفتحها بعهدته العمرية.
ومن الحجاز أو من مكة المكرمة تفتقت قريحة الشافعي بأرق أشعار الحنين والحكمة إلى مسقط رأسه الفلسطيني:

“نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئبُ يأكل لحم ذئبٍ
ونأكل بعضنا بعضاً عيانا
فدنيانا التصنع والتراهي
ونحن به نخادع من يرانا”

رحم الله الشافعي وفكَّ أسر موطنه وحفظ له عروبته بمسراها وعهدتها وبشارتها ومثواها.

الدكتور محمد عبدالله الجعيدي
أستاذ اللغة العربية والترجمة بجامعة مدريد، إسبانيا


حول التاريخ في الرواية

يحلو لبعض أدبائنا أن يتأملوا في التاريخ العربي، وأن ينتقدوه، فتأتي انتقاداتهم تارة صائبة وتارة قد تخطىء الإصابة. ومبعث هذه المفارقات الفكرية في قيم فكرنا العامة، هو جنوح بعض مفكِّرينا وأدبائنا عن تحديد الهدف، والبحث المركّز حول ما يرفّ له شعور أو ينساب إليه يراع.
فلدراسة فكرٍ ما، لا بد من استعراض مراحله التاريخية، وتشريح كل مرحلة بمباضع التجرد والعمق والواقعية والشمول.
إن الفكر والأدب كائن حي، له كل مقومات الحياة الروحية والعقلية. فهو أزلي أزلية الإنسان، وهو متطوِّر تطوّر الحياة، وهو خالد خلود الروح وليس له ولادة فحياة فموت، وإنما هو مُبدع. بيد أن للأدب مراحل حياتية تنمو وتزدهر تبعاً للتطوّرات الزمنية والأحداث التاريخية، تخبو وتقف بتأثر هذه العوامل.
فللتاريخ صانعون. والتيارات التاريخية من اجتماعية وسياسية وفكرية تتمايز من مرحلة إلى أخرى، ويقف الأدب منها ناقداً ومنقوداً، موجِّهاً ومتوجِّهاً، فتنشأ من ذلك هذه المفارقات بين فترة وأخرى، أو بين مجتمع ومجتمع، أو جيل وجيل، فيكون التاريخ مادة للفكر وللأدب السردي.
من هنا نشأ مصطلح الرواية التاريخية في عصرنا الحاضر. ولكن ما هي الرواية التاريخية وما علاقة التاريخ بالرواية، وعلاقة الرواية بالتاريخ؟ وهل كل رواية تعتمد في مضمونها على الأحداث التاريخية تسمى رواية تاريخية؟ وكيف نميِّز بين الاتكاء على التاريخ في العمل الروائي والاتكاء على الذاكرة في ذلك؟ أي كيف يمكن توظيف التاريخ البعيد والتاريخ القريب في الرواية؟
في ندوة عقدها اتحاد الكُتَّاب العرب بدمشق قبل عدة سنوات، قسّم الناقد والباحث السوري محمد أبو خضور، الرواية التاريخية إلى ثلاثة أنواع، وهي:

  1. رواية تسهم في رصد مرحلة تاريخية معيَّنة.
  2. رواية تستخدم التاريخ مادةً لها.
  3. رواية تعرفنا بوجهة نظر الراوي لهذا التاريخ.

كما أنها هي الرواية التي تثير عدداً من القضايا حول الهوية والعلاقات التناصية. فقد يلوذ الكاتب بالتاريخ، وقد يستحضره من خلال العمل الروائي، والروائي الناجح برأي الناقد أبو خضور، هو الذي يبحث في إشكالات التاريخ.
ولو استعرضنا تجارب لكُتَّاب روائيين عرب مع الرواية التاريخية، سنجد أن بعضاً منهم كتب روايته من دون أن يقول عنها تاريخية أو تتناول أحداثاً تاريخية، بينما النقَّاد هم من صنَّفوها تاريخية. ومن هؤلاء الكاتب الروائي الفلسطيني حسن حميد الذي فاز في عام 2017م بجائزة الطيب صالح الشهيرة، ويقول بهذا الصدد: “الرواية الناجحة بما فيها من عدد أجيال وأحداث هي رواية تاريخية، فالتاريخ هو سرد للأحداث”. إذ يرى حميد أن الرواية التاريخية هي التي تعيد إنتاج حادثة تاريخية جرت على مساحة من الزمن.
ولو أخذنا مثلاً روايات الكاتب الروائي الجزائري جيلالي خلاص، ومن كتابه الأول “رائحة الكلب”، وبعدها “جزيرة الطيور” و”بحر بلا نوارس” و”بئر من سوكة”، فسنلاحظ أن التاريخ الجزائري يظهر في معظمها واضحاً جليَّاً، حتى إن رواية “بئر من سوكة” هي رواية تاريخية بالكامل، إذ استفاد المؤلف من التاريخ بشكل كبير في أحداث وأبطال رواياته.
ولو استعرضنا مثلاً آخر، وهو عمل روائي للكاتبة غادة السمان صدر في عام 2015م بعنوان: “وداعاً يا دمشق”، للاحظنا اعتمادها على التاريخ القريب في فترة الستينيات من القرن الماضي من خلال أحداث حصلت في مسقط رأسها، مدينتها ومعشوقتها دمشق، قبل وبعد نكسة يونيو 1967م. فهي تستفيد من الأحداث التي عاشتها في تلك الفترة، ولكن من وجهة نظرها الخاصة، وقد توظفها بشكل رمزي مع ذكر للأماكن والمدن الدمشقية والسورية والعربية التي اختزنتها ذاكرتها، مثل حي المهاجرين الدمشقي وساحة آخر الخط ومدينة اللاذقية الساحلية السورية ومدينة بيروت وغيرها لإيصال رسالة روايتها عبر أبطال وشخصيات الرواية.
يرى الكاتب والناقد السوري الراحل عبدالله أبو هيف أن قيمة الرواية تتعزَّز باحتضانها للخطاب التاريخي المكتوب بلغتها، ولكن يجب استعمال المادة التاريخية أو الواقعة في مكانها وزمانها، أو استخلاص معنى المادة التاريخية كواقعة مفترضة أو متخيلة تقارب الواقعة المحدَّدة.
مما لا شك فيه أخيراً أن كتّاباً روائيين عرباً معروفين استخدموا التاريخ في متن رواياتهم أو أخذوا مرحلة معيَّنة من التاريخ ليقدّموا وجهات نظرهم في هذا التاريخ، ومنهم: عبدالرحمن منيف، وأحلام مستغانمي، وجبرا إبراهيم جبرا، وفارس زرزور، وفاضل السباعي، وخيري الذهبي، وغيرهم كثر.

هشام عدرة


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


0 تعليقات على “أكثر من رسالة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *