مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2020

وجوه الدهشة


رئيس التحرير

في مشهد لطيف من فِلْم “سينما باراديسو”، تلمعُ عينا الطفل “توتو” ببراءةٍ ودهشة، وهو يحدق إلى شريط فِلْم سينمائي يمسكه بيديه في قاعة السينما الوحيدة ببلدته الصغيرة. ثم تتوالى بعد ذلك المشاهد التي تظهر ملامح الدهشة على وجه هذه الشخصية المأخوذة بعالم السينما والأفلام.
في الأفلام، يجيد الممثلون التعبير عن الدهشة، تلك التي تُثيرها المفاجأة السعيدة أو المخيفة أو حتى الساخرة، ولعل الممثلين الكوميديين أكثر المؤدِّين لهذه الأدوار وأوضح من يصوِّرها، حين يبالغون في رسم معالم الدهشة الهزلية على وجوههم. أما في المشاهد الدرامية، فوجوه الدهشة مختلفة، تتراوح غالباً بين تعبيرات الإعجاب والذهول، والوله والرهبة، والتأمل والفرح.
قد تكون الدهشة التي وصفها الفيلسوف رينيه ديكارت، بالشعور الإنساني الأول من الأحاسيس الغامضة، فهي حالة من الحيرة العقلية القصيرة والمكثفة، ولحظة مواجهة بين وعي الإنسان وشيء آخر مفاجئ أو نادر أو غير متوقع. ولأنها ترتبط بالفضول ودوافع المغامرة والاكتشاف، فإنها توصف أيضاً بشعور الطفولة الجوهري، الذي يبدأ مع بدء تساؤلات الصغار ومحاولاتهم لفهم العالم.
ففي الحياة، حين يُملأ الإنسانُ بالدهشة، يعيد توجيه حواسه ليسدّ الفجوة الطارئة بين الواقع والحدث الجديد، ويمرّ بحالة من الارتباك العابر المصحوب بشعور واحد أو أكثر من الخوف أو الخيبة أو الغضب أو الفرح أو غيرها من الأحاسيس. وفي هذه الحالة، يكون وجه الإنسان هو النافذة الأولى التي تُرى من خلالها هذه المشاعر، بعد أن تتسع حدقتا عينيه، ويرتفع حاجباه ويتقوَّسا.
ثَمَّة تعبير أرقى عن الدهشة هنا، نجده في الفن والشعر والفلسفة، كونها تتعلق أكثر بمفهوم الجَمَال الذي يثير الحواس والأذهان والعواطف ويرتقي بها. فعنصر الدهشة يُعدُّ من أبرز عناصر الإبداع الفني، ولذا يوصف الشعر بأنه تعبيرٌ عن المُدهش، كما يذكر الدكتور سلام الأوسي. والدهشةُ هنا تعني مرحلة سامية من درجات التأمل واستغراق الذهن بالتفكير، نابعة من علم الإنسان وإحساسه بوجوده المحدود. فالفنان والشاعر والفيلسوف يرون العالم وكأنهم يرونه أول مرَّة، ويعبّرون غالباً عن موضوع يبعث على الدهشة، ولهذا قال سقراط: “الفلسفة تبدأ من الدهشة”.
لماذا نحتاج إلى الدهشة؟ لأنها تمنحنا الدافع لمحاولة فهم العالَم، وتدفعنا نحو تحقيق الإنجازات العظيمة، وتحفِّز العلماء على “فهم طبيعة قوس القزح وغيرها من الظواهر الغريبة”، كما يقول ديكارت في القرن السابع عشر. أما اليوم، فالدهشةُ تُشبَّه كنبعٍ يبدأ منه البحث العلمي.
ينظر ملف هذا العدد إلى وجوه الأحياء والأشياء، وعبر هذه النوافذ، يدعو إلى التأمل فيها، بحثاً عن تلك الدهشة المصاحبة للاكتشاف والإبداع. ولعل وجه الدهشة الأجمل دائماً، هو ذلك الملهم على الاستمرار في طلب المعرفة، فكما تقول العبارة: “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك أن يندهش، فلا هو يستطيع أن يعرف كل شيء، ولا هو بقادر على ألَّا يعرف أي شيء”.


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


رد واحد على “وجوه الدهشة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *